| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                           الخميس  19 / 9 / 2013


 

دور كومونة باريس .. في اعادة كتابة فكر ماركس ..
(2)

علي الأسدي

« لقد أثبتت الكومونة شيئا واحدا على وجه الخصوص وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة» . بل على العكس تماما ، فان واجب الطبقة العاملة هو تحطيم « آلة الدولة الجاهزة » وكسرها، لا الإكتفاء بمجرد الاستيلاء عليها." .... كارل ماركس

في الثاني عشر من نيسان \ ابريل سنة 1871 ، في أيام الكومونة بالذات كتب ماركس الى كوغلمان : " لو اطلعت على كتابي " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" حيث أعلنت فيه أن المحاولة التالية للثورة الفرنسية يجب ألا تقوم بنقل الآلة البيروقراطية العسكرية من يد الى يد أخرى كما كان يحدث ، بل تحطيمها ، وهذا هو الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقا في القارة. وفي هذا بالذات تتلخص محاولة رفاقنا الباريسيين الأبطال".

يشرح لينين واقع ومغزى الثورة الشعبية في حالة الكومونة في النص التالي الذي استعيره من كتابه الدولة والثورة ، النص طويل بعض الشيئ ، لذا اعتذر من القارئ العزيز. يقول فيه :

" في سنة 1871، لم تكن البروليتاريا تشكل أكثرية الشعب في أي بلد من بلدان القارة الأوروبية. لم تكن الثورة تستطيع أن تكون ثورة « شعبية » تجذب للحركة الأكثرية حقا، إلاّ إذا شملت البروليتاريا والفلاحين. فهاتان الطبقتان كانتا تؤلفان الشعب في ذلك الحين."

" ويوحد هاتين الطبقتين واقع أن « آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية » تظلمهما، تضغط عليهما وتستثمرهما. وتحطيم هذه الآلة وكسرها هو في مصلحة « الشعب » الحقيقية، مصلحة أكثريته، مصلحة العمال وأكثرية الفلاحين – هو « الشرط الأولي » للتحالف الحر بين فقراء الفلاحين والبروليتاريا؛ وبدون هذا التحالف لا تكون الديموقراطية وطيدة ولا يمكن التحول الى الاشتراكية."

كومونة باريس كانت تشق طريقها إلى مثل هذا التحالف، لكنها لم تبلغ الهدف بحكم جملة من أسباب ذات طابع داخلي وخارجي كما يبين لينين. أما ثورة اكتوبر عام 1917 فقد انتصرت بفضل التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء الذي وضعه لينين موضع التطبيق. لكن التحالف انفرط عقده بعد وفاة لينين نتيجة التراجع عن سياسة لينين في الموقف من صغار الفلاحين الذي تم تبنيه في عهد جوزيف ستالين مما سبب انتكاسة خطيرة في طريق البناء الاشتراكي.

يقول لينين : " إن ماركس براء كليا من الطوباوية، بمعنى أنه لا يختلق، لا يتخيل مجتمعا «جديدا». كلا. يدرس، كما يدرس مجرى التاريخ الطبيعي، ولادة المجتمع الجديد من القديم وأشكال الانتقال من هذا إلى ذاك. وهو يأخذ الخبرة العملية للحركة البروليتارية الجماهيرية، ويسعى ليستخلص منها الدروس العملية."

" انه «يتعلم» من الكومونة على غرار جميع المفكرين الثوريين العظام الذين لم يتهيبوا التعلم من خبرة الحركات الكبرى التي قامت بها الطبقة المظلومة ولم يلقوا عليها «المواعظ» بعجرفة المتزاهي بعمله (على غرار موعظة بليخانوف: «ما كان ينبغي حمل السلاح» أو موعظة تسيرتيلي: «من واجب الطبقة أن تلزم حدها».

كانت الكومونة كما وصفها لينين النقيض المباشر للامبراطورية ، حيث كانت الشكل الايجابي لجمهورية كان عليها أن تخلف الشكل الملكي للحكم الطبقي ، بل والحكم الطبقي ذاته. وبرغم عمر الكومونة القصير فقد أنجزت الكثير في طريق الاشتراكية حيث قامت بتجريد الشرطة التي كانت حتى ذلك الحين أداة قمع في أيدي الحكومة من كل صلاحياتها السياسية ، وحولتها الى جهاز مسئول أمام الكومونة. وكان الأمر كذلك بالنسبة لكل موظفي الادارة في باريس. كما ألغت كافة الامتيازات والعلاوات التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع اختفاء هؤلاء الموظفين أنفسهم.

ومع انها لم تقم بتأميم البنوك كما اقترحه ماركس عليها لكنه اشاد بانجازاتها العديدة ‘ فقد قامت بفصل الدين عن الدولة وتحرير التعليم من سيطرة الكنيسة ، والغت التعليم الديني في المدارس. كما الغت البرلمان البرجوازي وأحلت محله مجلس الكومونة ، وأخضعت القضاء للانتخاب المباشر من قبل الشعب. وساوت في الأجور بين العمال والموظفين ، واخضعت ورش العمل للعمال.

التغيرات السياسية التي أجرتها الكومونة على نظام الحكم كانت تبديلا مؤسسيا هائلا يختلف مبدئيا عن نوعية المؤسسات التي كانت قائمة. تلك التدابير الديموقراطية البسيطة و«البديهية» التي توحد تماما مصالح العمال وأكثرية الفلاحين هي في الوقت نفسه جسر الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية.

وقد قال لينين بصدد تلك التغيرات : " نحن هنا أمام حالة من حالات " تحول الكمية الى كيفية" فالديقراطية المطبقة بأتم وأوفى شكل يمكن تصوره تتحول من ديمقراطية برجوازية الى ديمقراطية بروليتارية ، ومن دولة قمع خاصة للطبقة العاملة الى شيئ ليس الدولة بمفهومها. إن قمع البرجوازية ومقاومتها كان وما يزال أمرا ضروريا وكانت هذه الضرورة تفرض ذاتها على الكومونة بوجه خاص."

قد يتساءل احدنا اليوم ، ترى ما كان نوع التغييرات التي كان سيسعى لها لينين بعد ثورة أكتوبر فيما لو لم يدرس بعناية ما كتبه ماركس وانجلس عن كومونة باريس..؟

كنت قد ذكرت في الجزء السابق من هذا المقال ان أحد اسباب نجاح ثورة أكتوبرهو الاستفادة من تجربة كومونة باريس بنجاحاتها واخفاقاتها ، والتقييم الايجابي لها الذي عبر عنه كل من ماركس وانجلس. وكان لينين قد خصص لكومونة باريس حيزا مهما ومحوريا في كتاباته وفي مقدمتها كتابه الدولة والثورة الذي حرر معظمه قبل ثورة أكتوبر المجيدة.

أمام هذا التغيير الثوري غير المسبوق الذي منح للطبقة العاملة سلطة حقيقية مباشرة لا شكلية قد عزز في أوساط أرباب العمل والرجعية المحلية روح الثأر والعداء ضد الكومونة. لقد شكل هؤلاء في الواقع الجيش الاحتياطي للثورة المضادة التي قادها رجال الجيش وأنصار النظام القديم لقمع وتصفية السلطة البروليتارية الكومونية.

وبعدما صفيت الكومونة بالقوة الغاشمة وانتهى كل شيئ أرسل ماركس رسالة حزينة ومؤثرة الى مجلس الأممية العمالية الأولى التي كان قد أسسها في لندن في 28 \ 9 \ 1864 وحضرها حينها 2000 عامل من ممثلي نقابات واتحادات العمال ومثقفين من كل أوربا.

الاطاحة بالكومونة وتصفية قادتها والكثير من أنصارها قد ترك حزنا عميقا في نفس ماركس ، لكنه لم يفقد الأمل وبقي متفائلا بانبلاج عصر الثورة العمالية في العالم. ومن بعض ما جاء في رسالته :

" القوى العاملة في باريس وكومونتها ستبقى خالدة الى الأبد ، وستذكر بكونها رائدا وبشيرا للمجتمع الجديد ، وسيخلد شهداءها في قلوب الطبقة العاملة " كانت كومونة باريس أول وآخر تجربة ثورية حية لسلطة الطبقة العاملة في حياة ماركس.

لقد عاش ماركس الاثني عشر عاما التالية لفشل ثورة كومونة باريس ، واستمر يمارس عمله كما كان قبلها. فلم تؤثر على أحكامه فيما هو صائب وما هو خاطئ في الفكر الاشتراكي.

لكن ما كان يشغل بال ماركس هو ذلك اليوم الذي يتحقق به شعاره " من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته " فقد كانت تلك الكلمات قد أكسبته من المؤازرين والتابعين أكثر من مئات الآلاف من الصفحات التي ضمها كتابه " رأس المال " ذي الأجزاء الثلاثة.

في نهاية حياته ونتيجة للارهاق ونقص الغذاء والتدخين الذي لم يتوقف عنه تردت صحته كثيرا. وهو في تلك الحال من عام 1881 توفيت زوجته ورفيقة دربه جيني بعد معاناة قصيرة من مرض السرطان.

أشهرا قليلة بعد وفاتها توفيت ابنته الأولى الأحب الى نفسه جيني. عليلا ومحزونا ووحيدا استسلم هو الآخر للموت ، ففي 13 \ 3 \ 1883 وبحضور صديقه الوفي فريدريك أنجلس الى جانبه أغمض عينيه لأخر مرة الى الأبد.

كتب الاقتصادي الأمريكي البروفيسور جون كينيث غالبريت المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مشيدا بعالمية وشعبية منجزات كارل ماركس الفكرية قائلا:

"اذا اتفقنا بأن الانجيل كان نتاج عمل مجموعة كتاب ، وبأن محمد قد سبقه في عدد المؤازرين والمخلصين فلماركس اليوم عددا أكبر من ابناء النبي."

ويصف البروفيسور غالبريت حياة كارل ماركس في سنينه الأخيرة فيقول : كان ماركس قد أمضى الفترة الأخيرة من حياته فقيرا معدما ، يعاني كما زوجته وابنته من نقص الغذاء والدواء. الشقة التي كان يسكنها تقع في أفقر أحياء لندن العاصمة البريطانية ، لم تكن صالحة للسكن أبدا ولولا ضيق اليد لما سكنها أحد. ضمت تلك الشقة البائسة غرفتين نوم وصالة جلوس ليس فيها قطعة أثاث واحدة صالحة للاستخدام أو نظيفة.

تتوسط صالة الجلوس في تلك الشقة طاولة مستديرة متهالكة مغطاة بقطعة قماش متهرئة وقذرة ، تتجمع عليها كتبا وصحفا وأوراقا للكتابة ومسودات لما كان يحرره من كتاباته ومحبرة وأكواب محطمة المقابض وأواني أخرى معيبة الى جانب لعب أطفال بالية وحاوية للتوباكو لغليونه الهولندي الحجري الوحيد. الغبار في كل مكان بسمك نصف إنج أو أكثر.

ويمضي غالبريت في وصف ظروف سكن ماركس فيقول : أي بائع للأثاث المستعمل سيشعر بالخجل عند رميه في المزبلة. الداخل لصالة جلوس ماركس وعمله ستدمع عينيه من كثافة دخان غليونه ، وسيجعل من الجلوس في تلك الصالة بدون شك مجازفة خطرة.

يرقد ماركس اليوم في زاوية قصية في الجزء الغربي من مقبرة هاي غيت في شمالي لندن منذ 17 مارس \ آذار عام 1883، عند قبره تنتصب لوحة رخامية سوداء نحت في أعلاها تمثالا نصفيا لماركس ، بينما نقش تحتها شعاره الخالد
WORKERS OF ALL LANDS UNITE

وفود البلدان الاشتراكية قبل انهيارها التي كانت تزور لندن في مهمات رسمية كانت تزور مقبرة هاي غيت لتضع اكاليل الزهور على قبر ماركس ، لكن ذلك كان استعراضا لنفاق كان حينها جزء من ثقافة نظام أحيل جميع موظفيه لمحكمة التاريخ بتهمة الفساد وخيانة الطبقة العاملة وتضحياتها والشرف الوطني والأممي.

أما اليوم وبعد أن تغيرت المكاييل سيشعر الاشتراكيون السابقون بسعادة عارمة في الحج لدى قبر نبيهم الجديد آدم سمث الواقع في مدينة أدنبره الاسكوتلندية في شمال بريطانيا.



(1) فلاديمير لينين ، الدولة والثورة ، الفصل الثالث والخامس ، بتروغراد ، نشر دار التقدم موسكو.
(2) John Kenneth Galbraith , The Age Of Uncertainty , Jolly and Barber Litd, England 1977.









 

free web counter