| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

الخميس 18/3/ 2010

 

ملف الاشتراكية ما يزال مغلقا ... فمن يفتحه ...؟؟
(2)

علي ألأسدي - البصرة  

" هل كان علي أن أموت ليفهمني الناس. "
العبارة التي بين القويسات ليست من عندي ، إنها الكلمات التي قالتها السيدة رئيسة زوجة السيد ميخائيل كورباتشوف عندما كانت على سرير المرض في مستشفاها بألمانيا ، حيث كانت تتلقي العلاج من مرض سرطان الدم الذي قضى عليها بعد فترة وجيزة من قولها لتلك العبارة المحزنة. السيد ميخائيل كورباتشوف للذين لم يتذكروه أو يسمعوا به هو آخر رئيس لجمهوريات الاتحاد السوفيتي وحزبها الوحيد حينذاك الحزب الشيوعي السوفيتي. ذكر أخيرا أثناء مقابلة له مع فضائية روسيا اليوم أنه تلقى آلاف الرسائل التضامنية من شتى فئات الشعوب السوفيتية حينها ومن كافة أرجاء العالم ، يتمنون فيها لزوجته الشفاء والخروج من المستشفى متعافية ، مبينا أن تعليمات إدارة المستشفى كانت متشددة تجاه مرضاها لخشيتهم عليهم من الاجهاد بسبب الضعف الذي يعانونه ، ولذا لم يكن ممكنا إطلاعها على محتويات كل تلك الرسائل. ولأن الاشاعات والأخبار الكاذبة ( حسب ادعائه ) ، كانت تروج على نطاق واسع في البلاد ضده وضد العائلة والتي كانت تصل بعضها إلى زوجته قبل أن يداهمها المرض ، حيث حملتها هموما كبيرة ، ولم يكن بالوسع عمل أي شيئ تجاه تلك الاشاعات لكثرتها ، وخاصة في تلك الظروف البالغة الدقة حيث كانت البلاد تنحدر نحو الهاوية.

كان كورباتشوف يطلع على غالبية تلك الرسائل أثناء رقاد زوجته في المستشفى دون أن يطلعها عليها ، كانت بعضها تطفح بالعاطفة والتضامن مع الزوجة التي تصارع الموت. ذكر أنه في أحد الأيام أطلع على مقالة كتبتها صحيفة ازفيستيا الروسية تحت عنوان "سيدة الكرامة" ، فأحضرها معه إلى المستشفى وقرأها لها ، فرحت كثيرا حينها ، حيث اعتبرتها بادرة إنصاف بحقها ، وعندها أجهشت بالبكاء وهي تقول : " هل كان علي أن أموت ليفهمني الناس " قالها كورباتشوف لمحدثته في قناة روسيا اليوم ، وكرر، " كلما تذكرت تلك العبارة كنت أبكي ". ولعلم القراء فإن السيدة رئيسة زوجته كانت تشاطره الكثير من مهامه المكتبية بشغف ، فعملت في سكرتاريته ومن ثم في المجلس الثقافي الذي كانت تشرف عليه بشكل مباشر وكرست جل وقتها له.

تناولت المقابلة مع السيد ميخائيل كورباتشوف العديد من الموضوعات ، حاول كعادته إضفاء العالمية على دوره كرجل يشهد له العالم صنيعه كرجل سلام نادر المثال ، وهو مدين للدول الغربية وخاصة رئيس الولايات المتحدة حينها رونالد ريغن ببث ذلك الشعور في نفسه ، وما يزال مصدقا نفسه بأنه أسطورة زمانه ، فيما تناسته الدول الغربية ووسائل إعلامها الموجهة. كان يجهد لإبعاد نفسه عن الدخول في الشأن السوفيتي ومن ثم الروسي ، لأنه كان يدرك أن لا أحد يصدقه. لقد ارتبط عهده بأحداث كان هو بكامل وعيه وقواه العقلية وإدراكه قد أرخ لها وحفر مسارها الدراماتيكي كأحد أكبر المخربين في التاريخ الحديث. لا يمكن فهم ظاهرة كورباتشوف في روسيا بمعزل عن عن الدور التخريبي للدول الرأسمالية الذي انتهجته منذ قيام ثورة أوكتوبر الاشتراكية ، بعد أن فشلت محاولاتها في تدبير انقلابات مسلحة تطيح بها من الداخل ، إضافة إلى فشل محاولات العدوان المباشر على الدولة السوفيتية الجديدة أو أي دولة اشتراكية. ولا يمكن أبدا نكران حقيقة وجود الصراع الطبقي واحتدامه داخل المجتمع الاشتراكي ، سواء داخل المجتمع السوفيتي أو داخل مجتمعات الدول الاشتراكية الأخرى. لقد كان ظاهرة دائمة على كل المستويات ، داخل قيادات الأحزاب الشيوعية والعمالية ، داخل قيادات النقابات العمالية والشبابية ، وبدرجة أوسع واكثر وضوحا داخل فئات المثقفين. يمكن تشبيه ذلك الصراع بالبراكين الخامدة ، لكنها تطلق أدخنتها تنفيسا عن الضغوط الداخلية في أعماقها. لم نكن ندرك نحن أبناء ذلك العهد حقيقة ما كان يجري ، ولذا لم يكن بمقدورنا تفسير الهزات العنيفة التي كانت تتعرض لها قيادات الأحزاب والنقابات بين حين وآخر ، تماما كما التداعيات التي تحدث بعد كل انفجار بركاني أو هزة أرضية.

لقد عبرت عن ذلك الصراع أحداث الخمسينيات في بولندة والمجر وفي الستينيات في جيكوسلوفاكيا وبولندة ثانية ، وكان فوادسواف غومولكا في بولندة ، ودوبجك في جيكوسلوفاكيا .

رموز تلك الفترة ، وآخرها أحداث الثمانينات التي دمرت كل شيئ. أما في روسيا فقد خاض لينين كفاحه الطبقي ضد الفكر البرجوازي قبل وبعد وخلال بناء الدولة الاشتراكية دون مساومة وكلل ولم يتوقف ستالين من بعده عن ذلك الكفاح حتى أخر يوم في حياته. ولم يكن صعود نيكيتا خروشوف لقيادة الحزب في نهاية الخمسينيات الذي شكل ارتدادا دراماتيكيا عن نهج سلفه جوزيف ستالين ، إلا امتدادا لذلك الصراع الذي كانت تغذيه الماكنة الاعلامية الغربية. كنا نعزو تلك الهزات ( وكنا نطلق عليها اضطرابات وأنشطة تخريبية ) إلى الدور التخريبي للدول الرأسمالية التي لم تخفي ذلك الدور، وتجاهر في نشر الأكاذيب وتشجيع الانشقاقات من خلال شراء ضعاف النفوس لتحول منهم قادة ليبراليون وديمقراطيون وطنيون يكافحون الشيوعية من أجل تحرير بلادهم من ربقة الستار الحديدي. لقد كان هذا الاعتقاد سائدا داخل الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية بما فيها الاحزاب الشيوعية العربية.

بالعودة إلى مقابلة السيد كورباتشوف التي أجرتها معه فضائية روسيا اليوم ، فقد طرحت محدثته عليه سؤالا مهما ربما كان ينتظره بشغف ، قالت :

برأيك متى كان العالم أكثر أمنا هل حينما ولدت حفيدتك كسينيا أم حينما ولدت ابنة حفيدتك؟

فأجاب ، متجاهلا الجزء الخاص بعائلته : نعم، إنها مسألة تستحق التفكير. في عام ألف وتسعمئة وثمانين كنا نعمل في وظائفنا القديمة ولم يرتقِ أحد منا سلّم السلطة بعد. آنذاك كان التوتر في العالم شديدا للغاية. والسلاح النووي كان تهديدا مستمرا. نعم، كان العالم في ذلك الوقت خطرا جدا. تراكمت فيه أكوام من الأسلحة النووية. ومن وقت لآخر كان يقع فشل في إدارة الأسلحة النووية.بدأنا نعمل على خلق جو من الثقة.. أو بكلمات أخرى وفق العبارة التي تعلمها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان من اللغة الروسية أيامها: " ثِقْ لكنْ تحقق (تأكد)".

وأردف متابعا : بالعودة إلى سؤالك.. كان ذلك الوقت عصيبا، أما الآن فالوضع مختلف. فحاليا لا توجد اسلحة نووية بالكمية ذاتها، مع أن تلك الكمية المتبقية كافية لتدمير العالم عدة مرات ، علاوة على ذلك فإن الاسلحة تتطور باستمرار. فما نراه اليوم هو إعادة التسلح، وبوادر سباق تسلح جديد. وهذا الأمر فظيع بحق. فكل الإنجازات التي حققناها سابقا وما توصلنا إليه من تفاهم مع الأمريكيين والسلوك المسؤول من قبل الطرفين، ذهبت أدراج الرياح.

وتساءلت المحدثة : الامبراطوريات العظيمة محكوم عليها بالانهيار. حضرتك كنت الزعيم السوفيتي الأخير.. لو كان بوسعك العودة إلى الماضي ، هل كنت ستغيره؟

رد قائلا: بالطبع ، لغيرت بعض الأشياء، كان علينا إصلاح الحزب الشيوعي، لم يكن لدينا إلا حزب واحد ، وكل شيئ كان مبنيا عليه. كانت علينا إزالة مركزية الحكم في الاتحاد السوفييتي على الفور، وإعطاء الحقوق الكاملة للجمهوريات المستقلة مع الإبقاء على ما أسميه دولة اتحادية ديموقراطية. لو كان في وسعي لأقدمت على زيادة المرتبات للمدرسين والعاملين في قطاع الصحة وكذلك مستحقات المتقاعدين.

وفي نهاية المحادثة ، قالت له محدثته وهي حفيدة السيد شيفرنادزة ، وزيرخارجيته حينذاك ، وآخر وزير خارجية للاتحاد السوفيتي ، يبدو انك آخر الليبراليين في الاتحاد السوفيتي السابق وفي روسيا. فرد قائلا: لم ننجز مهمتنا، لكن حين أوقفونا ، أوقفوا البرسترويكا ، فلم يعد هناك طريق للعودة.

وهكذا ، بالبرسترويكا أنهى السيد كورباتشوف حواره ، وبالبرسترويكا كان قد انهى الدولة السوفيتية وأحالها في زمانه إلى دمية يتلاعب بها هيلموت كول ورونالد ريغن ومارغريت تاتجر ، وبها ايضا انهى حياته السياسية ، ومرغت كرامته السياسية والشخصية بالوحل. ومع أن رئيس وزرائه ريجكوف ينفي عنه تهمة خيانة الدولة ، لكن صمته عن التدخل الأجنبي في شئون بلاده والدول الاشتراكية ، والسماح بانهيار النظام الاشتراكي بتلك الوتيرة الدراماتيكية يثير أكثر من تساؤل حول براءته من الخيانة الوطنية. لقد حاول في تلك المقابلة البحث في ثنايا ردوده عن سلوى لما هو فيه من مأزق. فبعد أن أيقن الأمريكان أن بطل الأمس كورباتشوف الذي أحتل لعدة سنوات العناوين الرئيسية في نشرات الأخبار والصحافة الغربية موشك على الغرق ، أداروا وجوههم عنه وتركوه يتشبث بقشة في نهرالفولغا ملوحا لهم طالبا النجدة ، لكنهم كعادتهم ملتزمون بصرامة بقانون الربح والمصالح غير القابل للنقض " لا صداقات دائمة ، بل مصالح دائمة ".

لم يدرك كورباتشوف ذلك حتى بعد أن غدر به بطعنة في الظهر المنتصرالأكبر في برسترويكاه السيد رونالد ريغن ، عندما أصدر مرسوما لتنفيذ خطة لتدمير اقتصاد الدولة السوفيتية ، فأمر وليام كيسي رئيس مخابراته بالذهاب للسعودية والطلب أليها لمضاعفة إنتاجها من النفط الخام إلى ثلاثة أضعاف ما كانت تنتجه حينها. وفعلا قامت المملكة العربية السعودية بإغراق السوق العالمية بنفطها الرخيص كجزء من دورها في مكافحة الشيوعية ، فكانت النتيجة انخفاض أسعاره إلى مستوى عشرة دولارات بعد أن كان اثنان وثلاثون دولارا. كل هذا كان يجري بعلم السيد كورباتشوف ، ولم يعبر ولو مرة عن غضبه أو استيائه من التدخل الأمريكي والغربي والشروط المذلة التي كانت تملى عليه ، موقف لا يمكن أن يقدم عليها معتوه فكيف بعاقل؟


يتبع


 ¤ ملف الاشتراكية ما يزال مغلقا ... فمن يفتحه ...؟؟ (1)

 

 

free web counter