|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  14 / 7 / 2015                                 أمير أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

نشر المقال بتاريخ 11 / 7 / 2008
ونعيد نشره بمناسبة الذكرى 57 لثورة 14 تموز المجيدة

نصب الحرية من أهم إنجازات ثورة 14 تموز

أمير أمين

يعتبر نصب الحرية الشامخ في ساحة التحرير وسط بغداد من أهم إنجازات الثورة، حيث عهدت حكومة 14 تموز في أواخر عام 1958 الى الرسام والنحات العراقي الخالد جواد سليم بأن يصنع هذا النصب وأعطت الصلاحية الكاملة له في تصميمه، على أن تكون تكلفة تنفيذه على حساب الدولة ، وأوعزت اليه أن يكون نصباً للثورة التي حطمت النظام الملكي ، وقد طلب الزعيم عبد الكريم قاسم من الفنان جواد بصنع النصب وأوحى له بأنه يريد وضع صورته فيه ، لذلك نرى رمز العسكري الذي يكسر السجن ويفجر الثورة جاء في مركز النصب ، على الرغم من أن الفنان جواد جعل من الثورة وثبة يشترك فيها كل أبناء الشعب من عمال وفلاحين ومثقفين ونساء وأطفال ......الخ

والنصب يتكون من 14 وحدة يرمز عددها الى تاريخ الثورة في 14 تموز ويضم 25 شخص بالإضافة للحصان والثور ، ويعتبر النصب وحدة متكاملة مبتدءاً بالحصان من الجهة اليمنى رافعاً رأسه وقوائمه الأمامية بشكل شامخ ، فاتحاً ثغره بإيماءة تعبيرية عن الصهيل الذي يمثل الفحولة وقوة الأصالة العربية ، ومنتهياً بالثور في أقصى اليسار والذي يرمز أيضاً للقوة والفحولة ، بالوقت الذي وضع فيه وتحت الثور الى اليمين رجلان يمسكان (مسحاة) ترمز للزراعة وعلى يساره تحت الرأس يقف أحد العمال بعضلاته القوية وهو يمسك بآلة الطرق، ولأن الأمومة عنده ترمز الى تعلقه الشديد بأمه ، والذي كان يعبر دائماً عن إعجابه بصبرها وتحملها لمشاق الحياة ، ولإحترامه للمرأة ومكانتها في المجتمع فأنه أعطى لها في النصب مكانها المرموق بحيث إحتلت أغلب وحداته الأربعة عشر ! ... فهي العاملة التي ترفع يدها بمؤازرة أخيها الرجل في ( الوحدة الثانية ) وهي الأم الباكية الحزينة التي قامت بلف عباءتها حول خصرها ورفعت يديها للأعلى تنوح على أمر جلل حدث لها ولأهلها في (الوحدة الرابعة ) ، وفي وحدة الشهيد (الخامسة) نرى الأم تبكي على إبنها القتيل وحولها نسوة يشاركنها الأحزان ، وهي تمثل صلة الرحم التي تربط الأم بوليدها ، كذلك الحال مع (الوحدة السادسة )حيث نشاهد الأم وهي تحضن إبنها الصغير وتغمره بالحنان بكلتا يديها وتضمه الى صدرها بمودة وسكون ! ونجد أيضاً في (الوحدة التاسعة ) إمرأة عراقية ترفع مشعلاً كبيراً في يدها اليمنى ويدها اليسرى مبسوطة ومرفوعة للأعلى وهي بهذه الحالة تكون كما لو أنها تحلق بالفضاء ! ، ثم نرى المرأة في ( الوحدة العاشرة )تبسط يديها الى الجانبين بحركة وديعة دالة على الهدوء والسلام ومن خلفها الأغصان ترمز للوفرة والنماء ! ، وحينما يضع الفنان نهري دجلة والفرات في نصبه ، فهو يشير إليهما بالرمز الأنثوي ، لذلك فإنه وضع في (وحدته الحادية عشر ) واحدة ترمز للفرات وأخرى لدجلة وجعل إحداهن تبدو بوضع ( المرأة الحامل ) والتي تحمل أيضاً على أكتافها حزمة من السنابل التي ترمز للوفرة والخصب في بلاد وادي الرافدين !! خاصة وأنه وضع طفلة صغيرة بالقرب منهما وهي تحمل صينية مملوءة بخيرات الأنهار ! ثم أنه لم ينسى الأطفال الذين يعتبرون الجيل القادم لمستقبل الوطن ، فقد وضع طفلاً صغيراً في ( الوحدة الثالثة ) ،وفي ( الوحدة السابعة ) نراه يشير الى نخبة المفكرين الذين آزروا الثورة بعد أن أشار بوضوح الى أحدهم وهو يقبع خلف القضبان محاولاً فتحها بمساعدة جندي من أبناء الشعب ، وبخلاصه منها تتحقق الحرية له وللشعب كله !

وفي هذه الوحدات المترابطة بشكل وثيق يكون النصب قد عكس مرحلة تاريخية هامة بشرت بها ثورة 14 تموز الشعب العراقي والتي تؤكد على نشاط القوى الديموقراطية والتقدمية في المجتمع العراقي ودعوتها لتحرير العامل والفلاح والمرأة وسائر المحرومين ، من العبودية والإذلال !

لقد بذل الفنان الخالد جواد سليم عصارة أفكاره ومشاعره وأحاسيسه الوطنية في أن يطل النصب على أبناء بغداد كل فجر بأروع حلة ! فقد باشر العمل به بوقت قياسي حينما سافر الى فلورنسا في إيطاليا في آذار عام 1959 وبدأ بصياغة المنحوتات الكبيرة في الطين ثم يقوم بإرسالها الى المسبك لتصب كل منحوتة بعد تجزئتها الى قطع صغيرة في البرونز ، وكان يساعده في هذا العمل الشاق حتى نهايته الفنان محمد غني الذي كان يدرس النحت في روما والذي كان في العراق من أحد تلامذته ، وجرى بعد ذلك إرسال القطع للعراق وبدأ الفنان جواد يذهب كل يوم الى ساحة التحرير للإشراف بنفسه على نقلها ووضعها في مكانها المخصص مبتدءاً ذلك في الحصان حيث أفلح مع عدد من العمال في تثبيته منتقلاً لاحقاً الى تثبيت الوحدة الثانية ، ولكنه لم يستطع للأسف لإصابته بنوبة قلبية حادة مات على أثرها في يوم 23 كانون الثاني عام 1961 وهو في ريعان الشباب ولم يشهد رفع الستار عن النصب التذكاري الذي أزيح عنه في يوم 16 تموز عام 1961في غمرة إحتفالات شعبنا بأعياد الثورة المجيدة ،وقد سبق وأن أصيب الفنان جواد بجلطة عام 1955 كانت الإشارة لمرض القلب حيث كان يعاني من الإرهاق البدني لحين وفاته المبكرة !

وهنا لابد من الإشارة الى مساهمة المهندس المعماري رفعت الجادرجي الذي صمم البناء حامل المنحوتات والذي جعله يمتد بطول 50 متراً وبعرض عشرة أمتار ويرتفع عن الأرض بستة أمتار من حافته السفلى وأصبح البناء شبيه بالبوابات الآشورية القديمة ، ويجب الإشارة الى أن هذه البوابة أصبحت مدخلاً لحديقة الأمة والتي صممها أيضاً المهندس رفعت الجادرجي بحيث أن أي شخص إذا نظر من بعيد الى النصب فسيراه كما لو أنه عبارة عن لافتة كالتي كان المتظاهرون يرفعونها بشكل مستمر دعماً للثورة !!

لقد صمد نصب الحرية بوجه إنقلابيي 8 شباط وبوجه الطائرات والمدفعية الإيرانية في فترة الحرب بين البلدين وتجنبته الطائرات الأمريكية الغازية ! .. وبقي شامخاً في سماء بغداد .. وأصبح أحد أبرز معالم العراق البارزة وليس العاصمة وحسب ! وأصبح كنهري دجلة والفرات فلا يمكن تصور العراق بدونهما ، كذلك أصبح النصب رمزاً لوجود وحياة شعب العراق..... حتى صار أطفالنا الذين ولدوا خارج العراق ولم يروا بلدهم بعد ، يقومون بالإشارة وتنبيه أولياء أمورهم حينما يظهر نصب الحرية على شاشات الفضائيات قائلين..شوفوا...شوفوا.. هذا العراق !!! وأخيراً أرى من الضروري أن تقوم الجهات الحكومية المختصة بوضع مسلة إسطوانية أو مستطيلة الشكل تشرح من خلالها أجزاء النصب ومنحوتاته بشكل مختصر باللغتين العربية والإنكليزية مع نبذة عن حياة الرسام والنحات الفقيد جواد سليم وذلك لأن الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا لا يعرفون المعاني التفصيلية لرموز المنحوتات سوى أنهم يشيرون الى أنه يرمز للحرية ! ما عدا القلة من الفئة المثقفة في مجتمعنا والتي تجلب إنتباهها كل قطعة ولا تقف للتصوير تحته وحسب كما يفعل بقية الناس !! سيبقى الفنان جواد سليم ( أبو زينب ) خالداً في ضمير محبيه من أبناء شعبنا العراقي الى الأبد !
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter