|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  20  / 4 / 2015                                عدنان عاكف                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أزمة الكهرباء والسياب

عدنان عاكف

كنت أتردد كثيراً على مقهى الشابندر في شارع المتنبي ، خلال زياراتي في السنوات الأخيرة الى بغداد. والمقهى ليست هي غايتي، بل هي محطة اتخذها لأتزود بالقليل من الشاي، وبقليل من الذكريات المنبهة للذهن ، وقسط من الراحة بعد الانتهاء من التسكع في أكثر المواقع البغدادية حضارة وخراباً وكآبة. اصطحبت صديقا مرتين ليرافقني في جولاتي ، التي كانت تقودني عبر الحارات القديمة، ببيوتها المتهالكة المتساقطة، حتى الباب الشرقي. بعد انتهاء جولتنا الثانية عرجنا على مقهى الشابندر. هناك سأل :

- كنت أعلم ان مزاجك سلفي وغاوي نكد. ولكن كان ذلك في الماضي. ألم تؤثر بك مرحلة الحداثة والانترنيت قليلاً ؟ ماذا جنيت من هذه الجولات التي لا يمكن لعاقل ان يجني منها غير وجع الراس؟

- وجع الرأس يا صديقي ليس بالكثير ! انه أهون من ما جناه علي بن محمد السبتي في زمانه.

- ومن هذا ؟

- شاعر عباسي عاش قبل عصر الحداثة وقبل اختراع الفيسبوك. كان من هواة السياسة، لكن مشكلته لم تكن في السياسة بحد ذاتها، بل في قدميه ، وفي لسانه الطويل، الذي كان غالباً ما يقوده الى مواقف من الصعب تخيلها. وقد قال شيئاً ما بهذا الصدد اتذكر منه :

إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي

عندها ضحك صاحبي وقال :

- وهل تستبعد ان قدمك سيقودك، بعونه تعالى، الى مفخخة رقيقة، لن تتسبب باراقة نقطة دم من دمك ؟

حين دعوته للمرة الثالثة اعتذر عن مرافقتي، طلبت ان يرشح لي منطقة أخرى يمكن للمرء ان يستمتع بجمالها، فنصحني :

- عندك سوق هريدي ، فهو قريب من بيتكم، وستجد فيه ضالتك بالتأكيد!

لم أخذ بنصيحته فقررت التوجه الى شارع المتنبي. في المقهى جلست بجانب رجلين عجوزين. كانا يتحدثان في أمر ما، عرفت فيما بعد انه الحديث الاعتيادي في مثل هذا الجو المتأزم سياسياً وحرارياً، ألا وهو موضوع الكهرباء، التي حيّرت البلهاء والعقلاء على حد سواء. فجأة قال أحدهما بصوت سمعه حتى المارة في الشارع :

- ليلة أمس زارني المرحوم أبو أحمد في المنام. وكما تعلم كان الرجل يكتب الشعر، من النوع الذي لا يقرأه حتى هو، وكان من عشاق السياب. ذكر لي بيتاً جميلاً ، حاولت ان أحفظه، لكن عتمة الليل حالت دون ذلك. قال ما معناه :

- السياب هو سبب جميع المشاكل التي تعاني منها الكهرباء في العراق ؟ لقد كان مثلنا يتردد كثيراً على المقهى، وقال ذات يوم :

بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري ، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام


ركز جيداً على نهاية هذا المقطع؛ الرجل وبسبب حنينه الى العراق والى أهله لا يستطيع ان يرى أمه إلا في الظلام. وقد جربت ذلك أكثر من مرة فتأكدت من صدق كلامه.. حاولت ان أتذكر أمي المرحومة في النهار أو في الليل بوجود الكهرباء فلم أوفق. ولكن عندما تنقطع الكهرباء أراها تضيء كالمصباح ، فتأخذني في حضنها. ولا أخفي عليك اني بدأت أتفهم سبب فشل الحكومة في حل أزمة الكهرباء. وأكثر من ذلك أتمنى ان لا يوفقوا في هذه المهمة!

ضحك الرجل الثاني حتى الدموع. أشار الى عامل المقهى ليحضر الشاي مرة أخرى. ربت على كتف صاحبه برفق وقال :

الآن فقط فهمت ما كان مستعصياً عليّ فهمه في النور وفي الظلام. وهو سر غرام السياب بالظلام. انه يتغزل بالظلام . أليس هو القائل :

الشمس اجمل في بلادي من سواها , والظلام
حتى الظلام هناك اجمل, فهو يحتضن العراق..

وبما ان غالبية مسؤولينا من مختلف الكتل والأطياف، وخاصة السادة الذين تناوبوا على ادارة الوزارة - من ايهم السامرائي وحتى الفهداوي - من هواة الشعر والأدب، ومن عشاق السياب، وقد أغرموا بظلامه ، وجدوا ان مهمتهم الأولى هي الارتقاء بذوق الشعب من خلال تعليمه الموسيقى والشعر. ولن يكون بوسع المواطن ان يرتقي الى مثل هذا المستوى الفني الراقي إلا اذا أحب الظلام.. لذلك قرروا إدامة الأزمة الى يوم ينفخ في الصور..

تعالت ضحكة الرجلين فلفتا انظار البعض من الجالسين. أخرج الرجل الثاني من جيبه كتاب صغير، عرفته من جلده الأحمر، الذي بقي ينور مكتبتي الصغيرة في السبعينات في بغداد، حتى مغادرة العراق. انه كتاب " ما العمل " المشهور، الذي تثقفت به في أكثر من اجتماع حزبي تثقيفي، وهو من كتب طيب الذكر لينين البلشفي. حدق بصاحبه وقال :

دعك من الشعر والمزاح، واسمح لي ان أشرح لك سبب أزمة الكهرباء، وفق ما تعلمته من النظرية الماركسية - اللينينية.. أخذ يورق الكتيب الأحمر وهو يتحدث عن دالغة لينين المجنونة بشأن الكهرباء وأهميتها بصفتها البنية التحتية الرئيسية في الاقتصاد ، والتي أثبتت الأزمة العراقية انها كانت من أكثر الدالغات عقلانية في القرن العشرين :

في عام 1918 رفع لينين، زعيم الثورة الاشتراكية في روسيا شعاره الذي لخصه بالمعادلة التالية: "الاشتراكية تساوي السلطة السوفيتية زائد كهربة البلاد ".. كانت روسيا آنذاك مدمرة وتكاد تحتضر بعد ان عاشت سنوات الحرب العالمية الأولى، ومن ثم دخلت في حرب أخرى لا تقل تدميراً عن الحرب الأولى، هي الحرب الأهلية، مع جيوش غازية لأكثر من عشر دول، هي من أقوى دول العالم ، قررت ان تحارب النظام الجديد الذي شرع البلاشفة في بناءه... كانت البلاد تعاني من الفقر والجوع والمرض، والبطالة القاتلة. ومع ذلك أدرك لينين، الذي كان أبعد عن تخصص الكهرباء بمئة ألف ميل من أي من مهندسينا الذين تناوبوا على قيادة وزارة الكهرباء، ان روسيا المريضة لن تستطيع ان تنهض إلا بثورة أخرى ، ثورة اقتصادية اجتماعية صناعية، يكون أساسها هي الكهرباء. وان أي حديث عن الاشتراكية والشيوعية سيبقى مجرد ثرثرة فارغة بدون التوجه الجاد الى كهربة روسيا، التي كانت في معظمها تعيش في عتمة متواصلة لانعدام الكهرباء. والكهرباء كانت ( وما تزال ) تعني الصناعة والزراعة، والتي بدونهما ستبقى روسيا متخلفة الى الأبد.

كان ذلك قبل نحو 100 سنة. أما اليوم فقد أدرك الكثير من فرسان المرحلة الحالية التي يمر فيها العراق ان الكهرباء جزء من النظرية الشيوعية الخبيثة، ووسيلة شيطانية إلحادية. وبما ان النظام الشيوعي قد زال فينبغي إزالة كل ما يذكرنا به، حتى وان كانت الكهرباء.. وأكثر ما يذكرنا بالشيوعية هي الملكية العامة لوسائل الانتاج، ان كان ذلك لأنتاج الكهرباء أو الطماطة والفجل .

في الليل حلمت حلماً لا يحلم به عاقل. قولوا معي " خير الله ما جعلو خير " ان اجتماع للرئاسات الثلاث عُقـدَ في ملعب الشعب وتحت الأنوار الكاشفة لمناقشة بيان مقدم من المدعي العام يتهم فيه كل من لينين الروسي والسياب العراقي بالخيانة العظمى لأنهما المتسببين بأزمة الكهرباء، وقد صدر عن الاجتماع قرار مُكهرب يقضي باعدام المجرمين فوراً! في حين احتج محامي الدفاع بقوة على الحكم القراقوشي، وانهى مرافعته بالكلمات التالية:

نعم ايها السادة ! خصخصوا واحرقوا ودمروا ما تشاءون.. ولكن عليكم ان تدركوا ما أدركه لينين قبل قرن، وفي عصر لم تكن الكهرباء قد تغلغلت في كل شيء كما عليه الآن : الكهرباء ليست مجرد مصباح ينير لنا الغرفة، وليس مجرد سلك رفيع يدير لنا مبردة الهواء والثلاجة. كل شيء ذو قيمة حضارية وصناعية واقتصادية اليوم يبدأ من الكهرباء. انها باختصار تشكل البنية التحتية التي بدونها لن تقوم هناك صناعة وزراعة، ولا أي نشاط .. وان كنتم لا تصدقوا هذا الكلام وتعتبروه مجرد دعاية قديمة لنظرية لينين فهذا شأنكم، وانتم أحرار . ولكن لستم أحراراً في قيادة البلاد الى التهلكة والخراب، كما تفعلون هذا بامتياز منذ 12 عاماً  .


 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter