|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  18  / 1 / 2014                                 آمنة عبدالله البطاط                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

فرحة سعيد

آمنة عبدالله البطاط

شارفت الساعة على التاسعة صباحاً، ولم تصل صديقتها سمر، رغم انها اكدت عليها عدة مرات، للذهاب مبكرات الى السوق ... جلست تشارك والديها الفطور وبعضاً من احاديث الصباح الممتزجة بصوت فيروز يصدح بشدوه الملائكي ...

أغمضت أمل عينيها ومالت برأسها الى الوراء قليلا، مسترخية، قررت ان لا تدع سمر للدخول بسبب تأخرها، ستمضيان مباشرة للتسوق، وعند الرجوع ستدعوها لقضاء بعض الوقت في غرفتها، في الطابق العلوي من بيت ابيها، تتحدثان في موضوعات شتى وتفصحان عن براكين هموم تجثم على قلبيهما ...

سمر من صديقاتها المقربات، بل هي الوحيدة التي تشعر معها براحة في الاسترسال بالحديث عن ما تعانيه، فقد ارهقها ما قدمته من اعتراضات وشكاوى واتعبها طرق ابواب الدوائر والمحاكم دون جدوى ... كان القرار مجحفاً لكنه ينسجم مع هذا الواقع المأساوي ... منذ اربع سنوات حصل طليقها على حق حضانة بناتها الثلاث واخيهم .. باتت صلتها بهم مجرد اشواق وبعض توجيهات قصيرة عبر الهاتف ... في اخر مرة التقت بهم، تفاجأت بهم، وحدست من كلماتهم لها انهم قد كبروا .
- ماما، كم هو جميل وجهك المدور، وعيناك العسليتان تسحران.
- صحيح، ماما، لون بشرتك ما زال زاهياً، كأن اشعة الشمس لم تمسك.
فتحت عينيها، عند سماعها لجرس الباب: لابد انها سمر ...

انطلقتا مباشرة، وانطلقت الأحاديث تتنوع طوال الطريق.
قبل العودة، لاح امامهما احد المطاعم، فقررتا شراء وجبة طعام جاهزة، لتتناولا الغداء في البيت ..
رحب بهما عامل المطعم، مستعلماً عن طلبهما .. وتركهما لتحضير ما طلبتا وتغليفه في علبة ..

تفاجأتا ببكاء طفل خلفهما ...
ربما لم يتجاوز العاشرة من عمره ... ثيابه الرثة، ونحافة بنيته تشيان بحالة فقر واضحة ... وخدوش وجروح قديمة تركت اثاراً على وجهه الطفولي كعلامات فارقة، تفصح عن شقاوة وشيطنات طفولة .

وبين موجة بكاء واخرى كان ينادي على احد ما في المطعم :
- مفيد ... مفيد
فقدم نفس الشاب متسائلا بأستغراب :
- ماذا هناك ؟ لم البكاء يا سعيد ؟ انتظر هنا، لا تتحرك من مكانك، سأتيك ببعض الطعام ...

اقتربت أمل .. مدت يدها تمسد شعره وتلاطفه :
- ما هذا الدم على وجهك ؟
- انها أختي .. جرحتني ...
- ربما لانك شقي ولا تسمع الكلام ...
ابتسم قليلا:
- وكيف عرفتِ ؟
- من وجهك الممتلئ بالجروح.

رجع مفيد وبيده سندويش اعطاه لسعيد، معتذراً من أمل على تأخر انجاز طلبها .

استدار سعيد فرحاً بما حصل، وهرول مبتعداً ...

لاحقته أمل بنظراتها الى ان ابتلعته احدى انحناءات الشارع القريبة من المطعم ..

التفتت الى الشاب لتسأله عن الصبي ..
- هل هو ابنك ؟
- كلا .. سيدتي .. بل اعرفه لانه يسكن قريباً، خلف المطعم، مع جده وجدته ..
- ولم مع جده ؟؟ اين ابويه ؟..
- ابوه استشهد قبل سبع سنين .. ذبح على يد ارهابيين قرب المحمودية في طريق عودته من كربلاء ، حينها كان عمر سعيد ثلاث سنوات .. مع اختين أصغر منه
اما الام فقد تزوجت قبل اربع سنوات وتركتهم عند جدتهم لأبيهم

ذهلت امل مما تسمعه، هل هذا مقعول ؟؟ اي زمن هذا يا رب ... وزاد ذهولها حينما اخبرها مفيد بأن الام لا تسأل عنهم، ومعيلهم الوحيد عمتهم، تفترش بسطة صغيرة في سوق الخضراوات .. وبفضل مساعدات بعض الخيرين، واصلوا العيش في بيت هو اقرب الى الخرابة ...

- هل لي ان اساهم بشيئ لمساعدتهم؟ سألت أمل بلهفة، وعيناها تترقرقان بدمعة حاولت حبسها ...

فتحت حقيبتها لكنها وجدت ان ما عندها، بالكاد يكفي لاجرة التكسي للرجوع الى البيت؟ ولم يكن وضع حقيبة سمر افضل ..

قررت الذهاب الى البيت فورا ... رغم كل محاولات سمر بتأجيل مساعدتها الى وقت اخر.. لم تكن تصغي لاحد، دخلت عنوة الى عوالم جعلتها تسير كمن فقدت الوعي بما يحيطها، كل الصور امامها تحولت الى لون واحد، اللون الاسود بدأ طغيانه على كل الاشياء من حولها، الا وجه سعيد، كان هناك في العمق يبتسم لها رغم ما فيه من جراح وخدوش !!

حينما دخلت البيت، والدموع تنهمر من عينيها دون اي شعور، لم تكن تبكي، وبخطوات سريعة قفزت السلم، لتنقض على رزمة نقود تحتفظ بها في غرفتها وتدسها في حقيبتها دون ان تعرف كميتها ..

شعرت براحة واطمئنان وهي تسلم مفيد الرزمة، وتتوجه معه نحو ما يشبه بيت ..
حيطان متهالكة، يخشى المار من جانبها ان تنهار في اية لحظة ...

لمحت امل الواقفة على بعد، عجوزاً تتكئ على عصا، تشكره والخيرين وتدعو لهم بالخير والسلامة.

بعد يومين، جاء مفيد يحمل كيسا كبيرا فيه ملابس اطفال جديدة وقرطاسية للمدرسة، هدية من امل لسعيد وأختيه ..

سعيد سيباشر عامه الدراسي في الصف الاول متوسط واخته حنان في الخامس وجمانه في الثالث ..

تواصلت ايام امل بعد ان قسمت راتبها الشهري الى ثلاث حصص .. حصة لأولادها، حصة ثانية لسعيد واختيه وثالثة لها ...


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter