موقع الناس     http://al-nnas.com/

فصول من تاريخ المسرح العراقي

( حميد محمد جواد ومزماره السحري ... ومكاسب للمسرحيين العراقيين في ستينات القرن الماضي)
 


لطيف حسن

الأثنين 6 /3/ 2006

عاد الى بغداد في اواخر الستينات حميد محمد جواد من دراسته للسينما في موسكو ، مثيرا جدلا واسعا حوله في معهد الفنون الجميله الذي عين استاذا في قسم المسرح .

كانت شخصيته محبوبه وجذابه من قبل الطلاب لبساطتها وتواضعها الكبير ، فقد كان يقضي جل اوقات فراغه من الدرس معهم ، في النادي او المقاهي والمكانات العامه ، ونجح في خلق علاقه صداقيه حميمه بينه وبينهم يندر ان تجدها في السابق بين الطالب والاستاذ .

ان الافكار التي جاء بها في حينها مبهره للشباب ، لاسيما في موضوع الدعوه الى التخلي عن تحنيط الممثل على خشبة المسرح واستغلال كل الفضاء المتوفر والممكن للعرض ( صاله وخشبه )، كان يحلم باخراج (هملت) في ساحه لكرة القدم ، .علما بان حميد محمد جواد قد دافع عن رسالته للماجستير في معهد السينما في موسكو في الاخراج السينمائي على الورق فقط ، ولم يكن من عادة المعهد في تاريخه ان يمنح شهاده لطلابه دون ان ينجز مشروعه كفلم ، عدا مشروع حميد محمد جواد الذي لم يكن عند المعهد امكانيات تحقيق احلام هذا الشاب الموهوب الذي منحته شهادة التخرج أستثناءا بتفوق .

اخرج ( هاملت ) لطلابه في قاعة معهد الفنون الجميله ، بعد ان حول صالة العرض بأكملها الى مكان للعرض ، ومازال الى الان طلابه يتذكرون التأثير البالغ الذي تركه في نفوسهم جلال مشهد الجنازه والدفن في المسرحيه .

كان المعجبين به من الطلاب يتحلقون حوله اينما يتحرك ‘ ويقلدونه في كل شي في بساطة الملابس ، ولبس النعال وتأبط الكتب والمراجع في كل وقت ، كانوا يسمونهم (بالمشايه ) لان من عادتهم ان يقطعوا المسافه بين معهد الفنون الجميله وحتى شارع ابي نؤاس مرورا بشارع الرشيد مشيا على الاقدام ، وايضا ( بالوسخين ) بسبب اقدامهم الحافيه عدا النعال التي تكون متسخه ومغبره دائما بتراب الشوارع .

من المألوف ان  ترى في ذلك الوقت موكب المريد وطلابه في عز حر وشمس تموز يذرعون شوارع بغداد باتجاه مقاهي ابي نؤاس ، يتقدمهم حميد محمد جواد ، كانه يحمل مزمارا سحريا يجذب خلفه من الطلبه آنذاك خليل الحركاني ، وجواد الاسدي ، وفاضل السوداني ، واسماعيل خليل ، وكاظم الخالدي ، وفاضل خليل ، وعوني كرومي ، وعبدالمطلب السنيد ، وفلاح هاشم ، وحميد حساني ، وحميد الجمالي ، واسعد راشد  .

لم يمكث حميد محمد جواد طويلا في العراق ، فقد وجد ان مشاريعه واحلامه وطموحاته لايمكن تحقيقها في مجال المسرح ، ولم تشكل عنده بديلا عن السينما اختصاصه الاصلي، لذا ترك العراق واستقر ليعمل في فرنسا ، وانقطعت اخباره ، الا ان روح التمرد التي تميز بها تركها من بعده في نفوس طلابه .

تجمع الطلاب الذين كانوا يحيطون بحميد محمد جواد بعد سفره ، في كتله غير متجانسه فكريا ، الا انهم متفقون على ضرورة العمل من اجل خلق مسرح بديل ، تأثرا بأجواء وصدمة مابعد 5 حزيران والهزيمه التي هزت التفكير القومي العربي والتي اسقطت مفاهيمه الثقافيه التعبويه المظلله كتحصيل حاصل ، كانت روح الرفض لكل ماهو قائم فيما قبل 5 حزيران هي السائده ، فلا غرابة ان ترتفع من بعض هذا الشباب المنفعل أصوات الرفض القاطع لكل الرواد دون استثناء ( كأن رواد المسرح هم السبب في نكسة حزيرا ن ووراء نكسة الثقافه والمسرح العراقي) تماما مثلما أحدث انقلاب 1963 المأساوي ، هزه في الوسط المسرحي وافرز جماعة المجددون الشباب قبلهم .

واستندت مجموعة المسرحيين الشباب على مراجعة واقع المسرح العراقي والفرق المسرحيه بكليشات جاهزه عن الوضع الثقافي مابعد الهزيمه منشوره في الصحف والمطبوعات المصريه واللبنانيه التي كانت تصلنا انذاك بكثافه حول الحداثه واللغه ورفض الماضي بقضه وقضيضه المسببه للكارثه و طرح قوالب المعالجه الجديده للافكار المتياسره والرؤى الغير مطروقه في الاخراج دون ان يأخذوا واقع ومستوى الجمهور بعين الاعتبار، كانوا يتوهمون بأن افكارهم الثوريه لاتتحقق بدونهم في مجال الفرق المسرحيه التقليديه القائمه التي وضعت حولها كما يعتقدون طوقا يصعب اختراقه من قبل المجددين ، رغم انه ، آنذاك لم يكن احدا منهم منتميا عدا( عوني كرومي ) الى الفرق المسرحيه ، او جرب و حاول ان يتنمي الى فرقه مسرحيه ويتحقق من صدق قناعاته و موضوعية احكامه عنها .

وفي عام 1975 نشرت ( مجلة الاذاعه والتلفزيون ) بيان حركة المسرحيين الشباب الذي يعلنون فيه استقلالية الحركه وأهدافها وخطها الفني ، وعبرت مداخلاتهم وتعليقاتهم المنشوره عن ثقه كبيره بالنفس وبأمكانياتهم والاندفاع الى الامام نحو الجديد الذي يريدوه وهذا جيد بشكل عام، لكن كانت تنتقصهم روح التواضع والتلمذه في تصريحاتهم الناريه .

ان هذا يعيد الى الذاكره ايضا ، اعوام الستينات حيث ظهر شكل آخر من الرفض عند بعض طلبة معهد الفنون الجميله جدير ان يذكر.

كانت مجموعه من طلبة المعهد (القسم المسائي) من بينهم الطالبان قاسم حول واحمد فياض المفرجي وهم في بدايات مشوارهم الفني اذ اعلنوا عن اختلافهم مع السائد في الساحه المسرحيه ولايعجبهم العجب ، ولو انه لم يرقى اختلافهم الى تشكيل حركه او فرقه او اصدار بيان، كانوا فقط يثيرون زوبعه في المجالس والصفحات الفنيه للصحف الصادره آنذاك بين الحين والاخر حول اختلافهم مع بعض رموز الحركه آنذاك ، شخصيا مع يوسف العاني و بشكل عام اعمال (فرقة المسرح الحديث) لتحقيق البروز والانتشار، ولم تكن في الواقع هناك اسس لهذا التعارض والحساسيه ، والمشاكل التي اثيرت جلها وهميه و شخصيه الغرض منها لفت الانتباه اليهم . وشكل اخر من تعبير الشباب عن الشعور الشخصي المضخم بالكمال والخيلاء والتحدي المعرفي ، ولم يكونوا في الواقع الا في بداياتهم الفنيه ، اي قبل ان يشقوا طريقهم فيما بعد، ويتجمعوا في ( فرقة مسرح اليوم )1969 وينسون الخلافات والشغب .

اتصل الحزب الشيوعي العراقي عام 1975 من جانبه بالمسرحيين الشباب ، فور نشر بيانهم وندوتهم التي عقدوها في المجله المذكوره ، وحاول في لقائه معهم ان يخفف من اندفاعهم و يرشد هذ ه الحركه ويصحح مسارها بأعتيار ان طموحاتهم الفنيه مشروعه ولاشك عند احد في طاقانهم الفنيه الواعده ، أو بامكانياهم في اغناء الحركه المسرحيه ، اذا استطاعوا ان يستدلوا على الطريق الصحيح بالتعايش مع الاخرين مع حق التمايز عنهم ، فالعدميه والقطيعه مع تجارب الماضي مضره ، فليس كل ما موجود بهذا السوء الذي يتوهمون ، و مازال من الممكن ان تتحقق طموحاتهم كلها من خلال الفرق القائمه فيما اذا جربوا ذلك اولا ، بل سيشكلون عامل دفع واغناء للحركه كما يطمحون .

يبدو انهم قد تفهموا الفكره المطروحه، او لنقل غالبيتهم، ففتحت ( فرقة المسرح الفني الحديث ) ابوابها امامهم عن طريق قيام اساتذة المعهد من اعضائها بدعوة عدد من الطلاب المحسوبين على المسرحيين الشباب ، وكلفوا بأخراج مسرحياتهم الاولى في فرقه عريقه كالمسرح الفني الحديث ، واشرك عدد منهم في تمثيل ادوار هامه في مسرحيات ( كالنخله والجيران) ، وقبلتهم فيما بعد اعضاء فيها ، ولم تكن ( فرقة المسرح الفني الحديث ) هي الوحيده التي احتضنت جماعة المسرحيين الشباب ، كذلك فعلت ( فرقة المسرح الشعبي ) و( فرقة مسرح اليوم ) و( وفرقة الصداقه ) وتوجه قسم احر منهم وعمل في ( الفرقه القوميه ) .
تشرذمت حركة المسرحيين الشباب كسابقتها ( المجددون ) بعد تخرجهم من المعهد والاكاديميه كتيار، على اساس ايدولوجي اولا ، فاضل خليل وعبد المطلب السنيد الشق القومي والبعثي ، والباقين يضاف اليهم فاضل السلطاني الشق الديمقراطي ، علما بأن الحركه تتحسس و تؤكد و تنفي عنها هيمنة اية جهه او آيدولوجيه سياسيه على خطها ، وبمزاولة العمل لاحقا والاحتكاك الحقيقي مع الرواد الاعداء تراجعوا كثيرا عنى طروحاتهم الطلابيه الاولى ، وسرعان ما تشتتوا بالسفر لاكمال دراساتهم العليا في الخارج ، والبقيه عمل في الفرق المتواجده وانتهت الحركه عند هذا الحد .

الا ان فضل هذا التيار قد ولد عددا من المبدعين المهمين ، اصبح لهم شأنهم المقبل في المسرح العربي والعالمي ، اذكر على سبيل المثال النشاط المتميز خارج العراق لمجموعه منهم كجواد الاسدي ، وفاضل السوداني ، وعوني كرومي ، واسماعيل خليل في اليمن .

عاد من باريس ايضا في نفس الفتره سعدي يونس بحري ، وفي رأسه تعج افكار جديده لها علاقه ايضا بموضوع مكان وطريقة العرض ، فبعد ان قدم ( دون جوان ) لفرقة المسرح الفني الحديث على قاعة مسرح بغداد ، كون بشكل منفصل مجموعه من الشباب ، بعدد محدود من الممثلين ، قدمت مسرحيه من اعداده في احد مقاهي شارع السعدون في بغداد .، مستغنيا ايضا عن خشبة المسرح ، وبعلاقه جديده مع الجمهور ، ولم تتكرر التجربه بعدها .

تعتبر هذه الفتره من تاريخ المسرح العراقي ( 1965 -1975 ) ، فترة مكاسب للفنانين المسرحين ،

فقد عقد اول مؤتمر للفنون في بغداد 1966 ، لبحث واقع ومشاكل الفنون الجميله ، ومنها المسرح، والقيت في المؤتمر بحوث عن واقع الحال في المسرح العراقي ، وسبل المعالجه ، ونوقشت هذه الاوراق وغيرها في لجان فرعيه شكلت في المؤتمر وخلصت الى نتائج وتوصيات تدعو الى دعم الحركه الفنيه والنهوض بها لتأخذ دورها ، و.بالرغم من ان نتائج المؤتمر الايجابيه لرفع شأن الفنون ، بقيت حبر على ورق ونسيت التوصيات ،

الا ان المثقفين استخلصوا ضمنا ان الابداع والثقافه في المجتمع العراقي يعانيان من تعثر وتردي بسبب الاهمال وعدم الدعم الرسمي لهما، منذ عام 1963 وهي في وضع غير مرضي وتحتاج الى عمل حكومي كبير لانهاضهما مجددا من جانب ، ومثابره ومطالبه متواصله من الفنانين انفسهم لنيل حقوقهم القانونيه اولا، قبل غيرهم لتجاوزهذا الواقع من جانب اخر .

فبعد ان حصلت الفرق المسرحيه على قانونها قبل انعقاد المؤتمر بفتره ، والذي ساعدها في ان تتبوأ مكانها الاجتماعي اللائق بها ، بدأ الفنانون الديمقراطيون التحرك في الصحف لتشكيل مؤسسه مهنيه تدافع عن مصالحهم وتحفظ حقوقهم ، مستغلين فسحة الانفراج السياسي وتكتيك انقلابيوا 1968 لامتصاص نقمة الشارع عليهم عقب عودتهم مجددا وتسلم السلطه في الانقلاب الابيض ، فأقدموا على اجراءات تقدميه عميقه( ولوكما تبين فيما بعد انها مراوغه وخدعه سياسيه انطلت على القوى التقدميه) لكسب ود هذه القوى ، فكان التخفيف المؤقت عن الضغوط التي يعاني منها المواطنين والمعارضين في الاقدام على اعلان العفوالعام واطلاق سراح المسجونيين واعادة المفصولين الى وظائفهم وتحسين الاجور، في مغازله واضحه لاعداء الامس، وخلقت الظروف المساعده لتشكيل الجبهه الوطنيه معهم .

في هذا الجو ارتفعت في الصحف ووسائل الاعلام اصوات الفنانيين التي تدعوا لتشكيل ( نقابة للفنانيين ) تدافع عن مصالحهم وحقوقهم الاجتماعيه ، وتكفل لهم ضمانامعاشيا ، يحميهم عند المرض والعجز من الحاجه والاذلال ،

التقى الفنانون اكثر من مره ، تمخضت عن هذه اللقاءات تشكيل هيئه تحضيريه منهم ، تولت المتابعة حتى تكللت جهودها بصدور قانون ( نقابة الفنانين )عام 1968 ، وواصلوا نشاطهم لتعزيز مكسب أجازة النقابه ، بمكسب اخر مكمل لاحقا حققته النقابه هو ( قانون تقاعد الفنانيين ) .

في صيف نفس العام ، شكل المسرحيون ( فرع المركز الدولي للمسرح في العراق ) الذي لعب دورا لاحقا في تنشيط الحركه المسرحيه بأقامة مهرجانها المسرحي السنوى الدوري في 27 آذار من كل عام ،واصبح من تقاليد هذا المهرجان ان تقدم فيها الفرق المسرحيه المشاركه عروضها بالمجان للجمهور .

كان تأسيس المركز بمبادره من سامي عبد الحميد ، تنفيذا لتوصية اجتماع المائده المستديره للمسرح ، الذي عقد في بيروت لاول مره بأشراف اليونسكو ، وحضره سامي عبدالحميد هذا الاجتماع، الذي من توصياته تكليف ممثلي الدول التي حضرت الاجتماع بتأسيس فروع المركز في بلدانهم من تمثيل متوازن لجميع الفرق المسرحيه ، والمؤسسات ذات العلاقه ، وتكون طبيعة المركز شعبيه غير رسميه و مستقله ( أي غير تابعه للحكومه اولاي جهة اخرى).

وظل ( المركز الدولي للمسرح في العراق ) محافظا على استقلاليته ، الا ان ضغوط الدوله على هذه المؤسسه في فترة تأطير المجتمع بعد عام 1978 ، افقدتها هذه الاستقلاليه ، وحولتها الى مؤسسه لامعنى لها تابعه في كل شيء لوزارة الاعلام العراقيه .



ملاحظه
ارجوا من كافة الزملاء والاصدقاء والمهتمين بشأن المسرح العراقي لاسيما الذين عايشوا بعض هذا التاريخ ان يوافوني مشكورين بملاحظاتهم وتصويباتهم وتدقيقاتهم واضافاتهم على هذه الدراسه لتاريخ المسرح العراقي التي انشرها على الصفحات اللالكترونيه كبروفه ومشروع كتاب قادم اعده للطبع، ويبقى المشروع ناقصا ولايكتمل بدون تعاونكم .. مع تحياتي وامتناني .
latif@webspeed.dk