الأحد 5 /2/ 2006

 


 

فصول من تاريخ المسرح العراقي
 


( الفصل الثالث )

( مامهد لظهور المسرح في المجتمع العراقي الحديث )
 


لطيف حسن

لم يعرف الناس العامه في العراق المسرح ، ولا دور السينما ، ولانوادي ثقافيه بالمعنى الذي نعرفه الان ،حتى بداية القرن الماضي، فاين كان الناس العامه في المدينه يقضون اوقات فراغهم ..؟ اقصد بالعامه هنا الرجال بالتحديد في مجتمع فحولي يغلق ابواب ومنافذ اللهو على النساء ، و الخروج الى الشارع او لزيارة الاقارب والجيرلن لوحدهن بدون سبب اضطراري .

كانت هناك الخانات ، والمقاهي التي اشتهرت بغداد والمدن العراقيه بأنها اكثر مدن العالم في عدد مقاهيها بالنسبه لعدد سكانها ، كما يذكر علي الوردي (1) .

يذكر يعقوب سركيس ان ان اول مقهى اسس في العراق كان قي بغداد في عهد الوالي ( جغاله زاده ) صاحب الخان المعروف ( بخان جغان ) وذلك في عام 1586 تقريبا ومكانه الان قرب المدرسه المستنصريه(2)

كانت هذه المقاهي والخانات في البدايه لايرتادها للهو الا المستهترون وطلاب اللذه ، الى جانب الاجانب من التجار والغرباء اللذين ينزلون في الخانات للسكن كما هو حال الفنادق الان ، وكان اصحاب المقاهي يستخدمون الغلمان الحسني الطلعه لتقديم القهوه والمشروبات الى الزبائن ، وتعزف في هذه المقاهي الفرق الموسيقيه التي كانت تسمى ( بالجالغي ) وما هو بمثابة خشبة المسرح (بالتخت)نسبة الى مصاطب المقهى ( التخوت ) التي كانت عريضه ومتينه تجمع كل اثنان منها لاستخدامها كمسرح يجلس عليها العازفون ومغني(المقام او البسته) ، ولم يكن مسموحا للشباب ارتياد المقهى الا بعد ان تظهر لحاهم ،

كانت المقهى هي مكان اللهو الوحيد في المدينه ، ومكان اللقاء بالاصدقاء من اللذين يتعذر دعوتهم الى البيت في المدينه ، وتحول المقهى الى مكان لتصريف وتنظيم الاعمال فيما بين التجار ، او فيما بين الحرفيين من الصنف الواحد ، حتى اصبحت المقاهي تسمى باسم الحرفين الذين اعتادوا على ارتيادها، وكانت هذه المقاهي تتنافس فيما بينها لجذب الزبائن اليها بأستئجار المغنيين وقراء المقام المعروقين ، اورواة الحكايات الشعبيه والملاحم ، كسيرة عنتره العبسي وتغريبة زيد الهلالي وغيرها .

ان هذه المقاهي طورت عروضها بحيث وفرت في المقهى اماكن خاصه للرقص سميت ( بالمرقص) ، يقول عبد الكريم العلاف ان اول مقهى اقيم فيه مرقص هو (مقهى سبع) الواقع في الميدان وكان ذلك في عام 1907 ، وجاء بالغلملن المخنثين الذي يسمى الواحد منهم بالعاميه ( شعار ، لربما جائت التسميه من انهم يطيلون شعورهم كما تفعل النساء ) يرقصون فيه .

ولم تصعد الى المرقص في هذه المقاهي أمرأه الا في عام 1908 ، حيث قدمت الى بغداد من حلب راقصه يهوديه تدعى ( رحلو) بدأت ترقص في ( مقهى سبع) ، ثم بدأ ت باقي المقاهي بجلب الراقصات للعمل في مراقصها من الشام ولبنان ومصر .

ثم توالت المقاهي في منطقة الميدان تحديدا ، على شاكلة مقهى سبع كمقهى العزاوي ومقهى السواس التي وفرت فيها منصات المرقص .

كل هذا التطور في مجال وسائل اللهو في بغداد سبقت قيام الحرب العالميه الاولى ، وبقيت لفتره طويله هي المعبره عن مفهوم ( الشانو) او ( الملهى) وجذبت من الشارع احد فنونها الذي كان شائعا في العراق كما يعتقد منذ القرون الوسطى ، وقدمته كفقره ترفيهيه ضمن حفلاتها اليوميه ، هو فن ( الاخباري ) الذي مات مع موت آخر رواده المعروفين ( جعفر لقلق زاده ).في اواخر الستينات .

واصبحت هذه المقاهي والملاهي والشانو، بمثابة القاعده الماديه التي انعشت بذرة المسرح التي جائت مع الجاليات الاجنبيه ، التي تسربت ايضا من الدول المجاوره ( تركيا والشام ومصر ).

وعندما تشكل المسرح الدرامي في العراق فيما بعد ، على خلفية الشانو ، ظل الناس يحتقرون مهنة المسرح والعاملين في المسرح ، ويعتبرونهم اجتماعيا وضعاء و منحطين اخلاقيا ، ورسميا كانت لاتؤخذ شهاداتهم في المحاكم .

اخذت هذه المقاهي وغيرها من دور الملاهي تقدم بأنتظام نمر ( الاخباري) ، وهو مسرح ساخرمرتجل له قواعده واصوله ، مجموعه من الممثلين يختارون حدثا ما في المدينه ، يعيدون تمثيله بشكل هزلي مبالغ فيه ، ويعلقون عليه ، ويبدون منه موقفا ، واكثر هذه الاحداث ، احداث سياسيه او اجتماعيه . هو مسرح شعبي ناقد لاذع للحياة اليوميه المعاشه.

يذكر يوسف العاني عن فن (الاخباري) ، الذي استلهم منها جو كتابة مسرحيته الشهيره ( الخرابه - 1968 ) قائلا(( في العشرينات وقبلها بسنوات ، كانت في مدينة النجف مقهى صغير ، نسميها نحن في العراق ( جايخانه ) وكانت لقدمها تسمى ( الخرابه ) صاحبها رجل طيب يدعى ( جعفرالكابلي ) لايلتقي في المقهى الاعدد قليل من ابناء المدينه ، يشربون الشاي ، ويجتمعون يوميا لكي يمثلوا تمثيليات يقومون هم بتأليفها، ويؤدون ادوارهم ارتجالا .. دون ان يكون هناك متفرج في اكثر الاحيان ، والزبون الذي يدخل المقهى لابد ان يشارك في التمثيليه .

في كل يوم كانت هناك تمثيليه ، وقد يتكرر موضوع التمثيليه لعدة ايام، لكن اضافات عديده تطراء عليها .. والشخوص قد تتغير ، وكان موضوع التمثيليه ينبثق من الحاله التي فيها رواد المقهى ، فتارة يسخرون من موقف الانكليز تجاه الثوار في النجف عام 1918 ، وتارة يقلد ون بأصواتهم وبالحركات قطيعا من الحيوانات ، كل منهم يمثل حيوانا ، وواحد منهم يمثل صاحب القطيع ، ومن خلال كل ذلك يصدرون حكمهم على ( الحاله ).. ويظل هذا العرض مستمرا على قدر أستمرار أثر الحدث على المدينه ..

في هذه المقهى اعتاد ان يلتقي فيها بشكل دائم ، شاعر وبقال ومتخلف عقليا ( يتصرف مادام هو في المقهى بشكل طبيعي وكأي انسان عاقل )، كان زبائن المقهى الاخرين يلتقون بهم كل يوم حتى ماتوا الواحد بعد الاخر ، وآخرهم الذي مات صاحب المقهى ( جعفر الحاج عبدالحسين الكابلي ) ..)) ( 3) .

و( الاخباري ) هو الشخص او الاشخاص الذين يأتون بأخبار المدينه ، يكشفون اسرارها ، ويقصون تفاصيل احداثها على الناس تمثيلا، واطلقت التسميه المشتقه ايضا على عمل هذا النوع من التمثيل .

ولم يجري تناول موضوع ( الاخباري) المنقرض الان بشكل كاف او بموضوعيه، لابد ان نذكر في هذا السياق الاهمال الذي تعرض له الفنان رائد الكوميديا في العراق ( جعفر لقلق زاده ) الذي طور هذا الفن الشعبي من عروض( الاخباري) التي كانت تقدم في الشارع الى عروض فنيه على المسرح .

ليست لدين حتى أي معلومات عن تاريح ميلاده ، كل مانعرفه انه ولد في اواخر القرن التاسع عشر ، و ما نعرفه عن نشأته الاولى قليل جدا ، عدا انه انخرط منذ نعومة اظفاره بالمشاركه في عروض ( الاخباري ) في الاسواق ومناسبات الافراح وبعض المقاهي والملاهي، وبعد ان اجاد الصنعه وبرز فيها ، شكل جماعه ( للآخباري ) خاصه به ، انتشرت اخبارها في كل انحاء العراق ، وقدمت عروضها في مقاهي الموصل ومقاهي وملاهي بغداد .

كان جعفر لقلق زاده كثير الاسفار في شبابه، زار اسطنبول والشام ولبنان ومصر ‘، واطلع على ماكان يقدم على مسارحها الكوميديه ، وشاهد مسرح نجيب الريحاني وبديعه مصابني وتعرف عليهما ، وفرقة علي الكسار ، الا انه تأثر بالغ التأثير بمسرح الريحاني الذي اخذ يقدم له بعض شخصيات مسرحياته في العراق بعد تعريقها ، واشتهر بين رواد ملاهي في بغداد بشخصية ( كشكش بيك) احدى الشخصيات الشهيره التي كان يمثلها نجيب الريحاني .

و( كشكش بيك) في الاصل المصري عمده ريفي ، تعود ان ينزل الى القاهره بعد جمع ايراد المحصول في نهاية كل عام ، وفي العاصمه تسرق نقوده البغايا والراقصات والمحتالون ‘ ثم يعود اخيرا للقريه بعد ان يفلس تماما ، ويعاود الكره عند جني المحصول في السنه القادمه دون ان يتعظ ويتعلم .

و(كشكش بيك ) يتحول عند ( جعفر لقلق زاده ) الى شيخ او سركال عراقي ابله تضحك عليه في المدينه بنات الهوى والراقصات والسماسره ، ويعلق هنا ضمنا على المرحله التاريخيه التي كان يمر بها العراق بالسخريه من التباين بين عقلية الريف القديمه المتخلفه و البسيطه الساذجه التي تصدق كلام الافنديه ، وبين عقلية اهل العاصمه المتمدنين ، التي جبلت على الاحتيال والمراوغه واللعب على الحبال وسرقة زوارها من الشيوخ والسراكيل السذج.، يكشف عن الصراع الذي احتدم آنذاك بين نقاليد واخلاق المدينه والريف ، الجديد والقديم ، المدينه التي تستغل جهد الريف وتسرقه ، والريف الغبي المغلوب على امره الذي لايكف عن علاقته بالمدينه ومحاولته المتكرره ببذل الغالي والرخيص للتمتع بمباهجها الحلم ، رغم انه يعرف انه في نهايه السكيج انه قد خدع وغش وسرق ، ويعود مفلسا الى الريف ، لكنه مع ذلك لايتوب على هذه العلاقه.، ويكررها بعد جني المحصول في السنه التاليه كأن شيئا لم يحدث .

لقد ارتبط مسرح (جعفر لقلق زاده ) بالمسرح الكوميدي في العراق فيما بعد ، وترك بصماته وآثره على كل رواد الكوميديا من بعده بهذا الشكل اوذاك ، لاسيما شهاب القصب ويوسف العاني في بداياته ، ومن قبلهم عبدالله العزاوي ، وفرقة الزبانيه .. وآحرين.

ومما يؤسف له ان مابقي من تراث الفنان ومعلومات عن حياته واعماله شحيح وقليل نسبة لغنى وكثرة انتاجه (4).وقد مات الان معظم زملائه من الفنانيين ، ومعاصروه ومشاهديه ، ممايصعب جمع اورسم صوره دقيقه لمسرحه اعتمادا على الروايات الضبابيه لمن بقي على الحياة من زوار مسرحه .

ولم يكتب كثيرا عن هذا الفنان فيما بعد ، عدا التفاته من يوسف العاني نشرت في جريدة الجمهوريه في حينها ، وتناول عادل كاظم شخصية ( جعفر لقلق زاده ) في مسرحيته ( نديمكم هذا المساء) من زاويه مختلفه ، مستعرضا من خلاله احداث عصره ، وأعطاه اسما آخر ( حمادي الهبش ) .

وكتب عنه كتاب اخرون بشكل لايخلوا من التجني ينم عن عدم المعرفه و الفهم الدقيق لحقيقة مسرحه ، منطلقين من وجهة نظر مجتمع ذلك الزمان ، وعلاقتهم الملتبسه بالمسرح .

من بين هؤلاء الباحثين ، الدكتور عمر الطالب الذي ذكر عن مسرح جعفر لقلق زاده بأنه تأثر وقلد المسرح الكوميدي الهابط ..((... فقد بداْ جعفر لقلق زاده بتمثيل مشاهد مسرحيه مرتجله على مسارح ملاهي بغداد بين فقرات الرقص والغناء ، وقد شاع تمثيل مثل هذه المشاهد الفكاهيه في جميع الملاهي العراقيه في بداية القرن العشرين ..))(5) .، ان هذا التقييم المجحف والمسطح لهذا الفنان الكبير ينم عن عدم الدرايه الموضوعيه بهذا المسرح ، وينطلق من النظره الظالمه الى هذا الفنان ، والسمعه المشوهه التي بثت حول مسرحه ، في حياته وبعد مماته ، ساهم في هذا التشويه على حد سواء ، بعض رجال المسرح المتعالين والمتغطرسين والمدعين بالحفاظ على رفعة وسمو المسرح،على مستوى الشارع ، ورجال السلطات الملكيه ، التي كانت بدورها ساخطه عليه وتصفه بالسوقيه والانحلال  .

كان جعفر لقلق زاده في حياته المديده بمثابة التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق ، شاهدا ومعلقا ساخرا على كل احداثها اليوميه ، وفي كل العهود التي مرت على العراق الحديث ، ابتداءا من العهد العثماني وعهد الاحتلال البريطاني ، ثم قيام الدوله العراقيه الملكيه ، بعدها قيام ثورة 14 تموز 1958 التي دشنت العهد الجمهوري ، وطوال هذه الفتره وحتى في شيخوخته قبل ان يقعده المرض ، لم يفتر عن تقديم نمره الناقده ، في ملهى الجواهري الذي حل به المطاف في الفتره الاخيره ، حتى وفاته في 1969 بسبب الشيخوخه وامراضها في ( مستشفى المجيديه) ، ودفن على نفقة الحكومه في مقبرة الغزالي ، دون ان يسير خلف نعشه احد ، ولم تنشر صحف اليوم الثاني أي خبر عن رحيل الفنان (6).


1- لمحات اجتماعيه من تاريخ العراق الحديث / الجزء الاول - الدكتور علي الوردي
2- التجربه المسرحيه - معايشه وانعكاسات - يوسف العاني - دار الفارابي -بيروت 1979.
3- المصدر السابق - ص/45.
4- لم يترك جعفر لقلق زاده آثارا مكتوبه ، لانه كان يعتمد على الارتجال ، ، ومابقي محفوظ لدى المركز الوثائقي للمسرح العراقي في بغداد ، لايتعدى سوى بضع صور فوتوغرافيه لبعض مسرحياته .
5- أثر المسرح العربي على المسرح العراقي - الدكتور عمر الطالب - القسم الثاني - مجلة ( السينما والمسرح ) العراقيه العدد/12 تشرين الاول 1974.
6- لقلق زاده ، الرائد المنسيى في المسرح العراقي - لطيف حسن - مجلة ( شناشيل ) العدد/1 كانون الثاني 1993


موقع الناس     http://al-nnas.com/