موقع الناس     http://al-nnas.com/

 فصول من تاريخ المسرح العراقي
( الفصل الثالث والعشرون )

( فترة الحرب والحصار وأنحطاط القيم في المسرح العراقي
  )


لطيف حسن

latif@webspeed.dk

الثلاثاء 14/11/ 2006
 

طالت فترة الحرب مع ايران التي تورط في اشعالها النظام في العراق عام 1979 على غير ماكان قد حسب لها صدام من ان تكون خاطفه وسريعه ، سرعان ماستنشب على اثرها كما كان في تقديره ثورة رده لشعوب ايران على النظام الثوري الايراني الذي قاده الخميني ضد الشاه، لكن الحسابات كانت خاطئه، والنتائج جائت عكسيه، فبدلا من تقويض النظام الاسلامي السياسي الشمولي الجديد في ايران ، التف الناس حوله وتوطدت سلطته في مواجهة التحديات والمخاطر الخارجيه اخطرها ، الحرب التي فرضت على ايران ، وبذلك كان لهذه الحرب فضلا كبيرا على قوى الاسلام السياسي الشيعي في ايران ، لانتهازها الظروف الجيده التي اتيحت لها والمناسبه لسرقة نتائج الثوره الشعبيه التي قامت بها الشعوب الايرانيه المضطهده ضد النظام الشاهنشاهي المستبد، والعوده بالمجتمع الى العهود الظلاميه للقرون الوسطى التي تعيشها الان .

ان نتائج الحرب الكارثيه على العراق كانت شامله وعميقه طالت كل مناحي المجتمع والاقتصاد ومستوى الفرد المعيشي والثقافه والاخلاق، اخطرها مااصاب الابداع العراقي في هذه الفتره من تلف ومسخ ودمار لقيمه الانسانيه ، شمل نتاج الادب والفنون التشكيليه والصحافه والمسرح، التي تحولت جميعا الى بوق دعايه لنظام الزعيم القائد الرمز ، وطبول تقرع بشكل متواصل للحرب والشوفينيه وتدمير الاخر ، والتقدم بلا توقف حتى النصر مهما كانت التضحيات فادحه.

لقد دمر بشكل شنيع واذل المسرحي العراقي الملتزم بقيم ومثل المسرح العراقي التقدميه في هذه الفتره، باساليب وضغوط متنوعه من بينها سياسة ( الجزره المشهيه جدا ، والعصا الغليظه المهلكه ) التي اثمرت في تدجن معظمهم في النهايه مع متطلبات النظام والاغراض التي يريدها.

اقسى تلك الاساليب كانت محاربته بلقمة عيشه واذلاله، اذ لم يتمكن اكثرية الرموز المسرحيه من الصمود ومواصلة الدفاع عن مواقفهم التي يؤمنون بها امام الجوع الذي كان لايرحم والحرمان في فترة الحصار ، فمن فضل السكوت والانعزال وامتهان اعمال حره اخرى اومن هرب بجلده وترك العراق ، انتهى الاثنين على حد سواء بالموت فنيا بالتقادم بانقطاعهم عن جمهورهم الذي نساهم ، ولم يكن لدى الكثير منهم ( وليس كلهم ) عمليا خيار اخر امام الضغوط الهائله التي تعرضوا لها ، واغرائات التعويض المجزيه والمفتوحه لسد حاجاته ، غير ان ينحني الكثير منهم مرغمين للعاصفه ، كانت لكل منهم اسبابه الخاصه في اضطرارهم للتحول وانضمامهم لجوقة السلطه ، الا انه لم يكن من بين هذه الاسباب القناعه بهذا التحول اذا ( استثنينا القلة منهم) .
 


فقبيل اندلاع الحرب العراقيه الايرانيه واثنائها شهد المسرح العراقي لاول مره في تاريخه هجرة غير مسبوقه للعديد من رموزه النشيطه الى مختلف البقاع في العالم هربا من ضغوط وعسف النظام، وازدادت وتيرة الهجره ، ولاسباب اقتصاديه بعد الحصار ، الى عمان كمحطه اولى نحو اوربا ، وامتصت الحرب الطويله ومتطلبات تعبئتها وتغذيتها المتواصله المسرحيين من الشباب ، وحتى الكثير من كبارهم وشيوخهم لم يستثنوا اذ جندوا في تشكيلات الجيش الشعبي لدعم الجهد الحربي وحماية الجبهه الداخليه باشكال محتلفه ، وابعدتهم عن المسرح وجمدتهم في جبهات الموت طوال فترة الحرب، و قد قتل العديد منهم في الجبهات، ومن بقي على قيد الحياة عاش مخرب الروح ، وماعاد نوعيا هو نفس الشخص والفنان كما كان قبل الحرب .

كان غياب رموز المسرح الديمقراطي ، والشبيبه من خريجي معهد الفنون الجميله والاكاديميه ، الذين كانوا يشكلون في كل الاوقات القوه المحركه للتجريب و ديناميكية الحياة المسرحيه العراقيه ، وتوقفهم عن النشاط المسرحي في هذه الفتره خلق حاله من الفراغ الخطير ، وفسح المجال لتسيد الهامشيين والطارئين،والابتعاد الى حد القطيعه عن نهج و تقاليد المسرح العراقي التي سبق وتراكمت من خلال تضحيات وعذابات الرواد الاوائل عبر أكثر من قرن من الزمان ، وظهر نوع مسخ من المسرح التعبوي الساذج ، والتهريج ، والكوميديه الرخيصه على نمط واحد . انتشر كالطحلب على السطح ، وغطى تماما على المسامات التي يتنفس منها المسرح العراقي الحقيقي وكتم انفاسه، في منافسه غير متوازنه وظرف غير مساعد .


( مشهد من احدى المسرحيات التجاريه التي قدمت في فترة الحرب والحصار )
 

كانت تبداءعروض الفرق المسرحيه الجديده التي ظهرت في زمن الحرب بنمط واحد تقريبا ، تبداء بقطعه موسيقيه كمقدمه ترقص على انغامها غجريات برزن في هذه الفتره ، اشهرهن ( ملايين ) و( غزلان ) التان وصلت أجور كل واحده منهما على مليوني دينار عراقي شهريا ، واخريات اتين بسبب الجوع والعوز للرقص في هذه المسرحيات بدلا من الملهى ، باعتبار الرقص في المسرحيه أشرف وارقى من الرقص في الكباريه و هو( نوع من الفن الراقي الذي لاكلام عليه )، وقد ارتفعت بعد ذلك بسرعه اجور الفنانات والفنانيين النجوم في هذه المسرحيات الى ارقام لاتصدق، وصلت اجور احدى النجمات على سبيل المثال الى اكثر من ثلاثة ملايين دينار عراقي في الشهر ، واحد نجوم الكوميديا المعروفين ، كان يتعاقد على اجوره لمدة شهر بخمسة ملايين دينار عراقي .

وكان من المعتاد ان يظهر في كل مسرحيه تقريبا شخص ابله او من ذوي العاهات ، يضحك الجمهور بقفشاته التي يطلقها على نفسه بمناسبه اوغير مناسبه ، أو يظهر في المسرحيه قزم لاوظيفة له عدا اضحاك الناس عليه ، وقد لفتت النظر احدى الصحف الصادرها في بغداد الى بروز عدد كبير من الاقزام في الوسط المسرحي في بغداد والمحافظات تحولوا بين ليلة وضحاها الى نجوم يتقاضون اجوراعاليه لاتصدق ، توزعوا على كافة المسارح الجديده الهابطه .

ومن شخصيات هذا النوع من المسرح ايضا ( العاهره وسمسارها اومع احد المخانيث) ، كي يفسح المجال للممثلين بحريه تبادل الحوار الجنسي البذيء والمكشوف ، والاسترسال في ارتجال هذا الحوار ، مما دفع بدائرة الاعلام الى ايقاف عرض مسرحيتي ( ابن نعناعه ) و ( على المكشوف ) لمغالاتهم في الخروج عن النص المجاز والحدود الواسعه المسموح بها لهم الى حد الاسفاف الااخلاقي الغير محتمل ، وقد وجهت وزارة الثقافه والاعلام تنبيه الى مخرجي المسرحيات ( عالم فابريكا ) و( عالم دخان ) و( الخانم والطبال ) بضرورة الالتزام بالنص ، والا سيكون مصير مسرحياتهم كمصير مسرحية ( ابن نعناعه ) ، واخذت الوزاره ترصد العروض بطريقه بوليسيه من قبل اشخاص غير معروفين يبثون بين الجمهور لمراقبة تقيدهم بالتعليمات .

وهذه المسرحيات لاتقول شيئا ، مجرد توليفه لمجموعه من النكات القذره والرقصات والاغاني ، ويطلق للممثل العنان ليرتجل مايشاء ويخرج عن النص بمايرضي الجمهور ، ومن الطبيعي ان يظهر لهذه الفرق الجديده كتابها المختصون في هذا النوع من المسرح الهابط من انصاف المثقفين المجهولين والاميين العاطلين، الذين حققوا من وراء ذلك ثروات فاحشه.

لقد اختلف النقاد والمهتمين بالمسرح العراقي في تسمية وتصنيف هذا المسرح ، هل هورده الى المسرح الهزلي البدائي ، ( العوده بالمسرح الى فقرات الكباريه لجعفر لقلق زاده مع الممثله الارتيست ) ، ام هو مسرح كوميديا القفشات الجنسيه ..؟ ( الذي انتشر في الموانيء الاوربيه ومصر اثناء الحرب العالميه الثانيه للترفيه عن البحاره والجنود في فتراة اجازاتهم وأستراحاتهم من جبهات القتال )، ام هو المسرح الذي يظهر في كل مكان في ظل الحرب ؟ (المسرح الذي تفرزه الحروب الطويله لامتصاص حالة الهروب من قسوة الحياة في ظلها ، بتحاشي الوعي الجمعي بالحاله المأساويه ، والانغماس في كل مايلهي عنها ) ، ام هو مسرح تجاري ..؟( ماقدم في هذه الفتره من اسفاف لاعلاقة له بالمسرح التجاري الذي يبغي مايبغيه الربح اولا ، والذي له معاييره الاخلاقيه المختلفه، وهو يقدم اليوم تقريبا في كل العالم ) ، وسماه بعضهم ايضا ( بالمسرح الاستهلاكي) ، وآخرين احبوا ان يطلقوا عليه اسم ( المسرح النفعي ) والفنانين المرموقين الذي اضطروا للعمل فيه سموه بشكل خجول وتسويغا له( بالمسرح الجماهيرى) الذي وفر لهم لقمة العيش في زمن الحصار والجوع ، وبعضهم الرافض للظاهره والمتمسك بقيم المسرح العراقي الاصيله سماه (بالمسرح الآخر ) فهو مسرح مختلف جذريا عن المسرح العراقي الذي كان قائما قبل الحرب، انه مسرح آخر ، لكنه ليس جديدا ، انه عوده الى ماشذب معهد الفنون الجميله وخريجيها الرواد من دجل وقذارات ولافن الذي كان عالقا بالمسرح العراقي الاول .

انه في الواقع كان مسرح تشكل من كل هذه الانماط ، انه مسرح الرده المنفلت العقال الذي ساد في العراق بتشجيع ودعم النظام في ظل الحرب ، لكنه في نفس الوقت ، كان صادقا الى حد بعيد في عكس حالة القذاره والانحلال والرده الى الوراء في قيم المجتمع ، وكان بمثابة المرآة التي عكست حالة التوحش والانحلال الاخلاقي وكل التحولات السلبيه الاخرى التي حدثت في نفسية الفرد العراقي والمجتمع في ظل الحروب .
لقد ساد في المجتمع وضع لاطبيعي غير مسبوق في العلاقات الا أنسانيه ، بدءا فيما بين افراد الاسره العراقيه الواحده ، وانتهاءا ببنية المجتمع العراقي ،كان وكلاء الامن من المعلمين يستغلون برائة الطفل للتجسس على اولياء امورهم و الحصول منهم على معلومات عن الميول السياسيه في البيت ، ونأخذ نموذج الاب الذي كان قد اخبر عن ابنه الهارب من الخدمه العسكريه وهو يعرف مسبقا ان عقوبة ابنه على هذا العمل هو الاعدام ، ويتسلم جائزه كبيره على اخباريته ، وقد نشرت مجلة ( الف باء ) في هذا الموضوع تحقيقا مقززا ونشرت صورة بطل القضيه على غلافها الخارجي وهو ألاب الذي اقدم بدم بارد على قتل ابنه الهارب من العسكريه بيديه ليحصل بعدها من صدام على وسام رفيع وسياره ومسدس وجائزه ماليه كبيره .

وعاد الى عرف مجتمع المدينه وشاع ليس في الريف فقط ، القتل العلني للنساء بحجة غسل العار من قبل ذكور اسرهم بعد ان اعطاهم النظام هذا الحق دون ملاحقه قانونيه ، بل عدل القانون بما يرسخ هذه الظاهره ويشجعها.

وكانت تقام في الشوارع والساحات العامه مهرجانات اعدام وحشيه للجنود الرافضين للحرب و برصاص مدفوع الثمن من قبل ذويهم ، واجبارالناس على حضور هذه الطقوس بالقوه.

وشاع تنفيذ عقوبات جسديه همجيه اخرى بالاشخاص الذين يرتكبون المخالفات ، كانت تطبق في القرون الظلاميه الوسطى للحط من كرامة البشر واذلالهم على مدى ماتبقى من حياتهم ، كجدع الانوف ، وبتر الاذان ، وقطع أكف الايادي .

وانتشرت الدعاره وراجت تجارتها ، و كانت تشجع من قبل مستويات رفيعه ، و يتم استيراد الممومسات وفتيات الكابريهات من تايلاند ومن جنوب اسيا وباقي بلدان العالم ، وشاع بين الناس ولع حاشية النظام بالسهر الفاحش في مظارب الغجر ، ودعوة الفنانات الرخيصات الى قصورهم .
وجراء استمرار حصاد الحرب لارواح الشباب الذكور ، حدث تشوه كبير في التركيبه والتوازن الاجتماعي الطبيعي بين الجنسين ، افرز زياده كبيره في عنوسة النساء وما يرتبط بهذه الظاهره من مشاكل

واجبرت المرأه أثناء الحرب، على الخروج للعمل الشاق اللاانساني في شواغر الاعمال التي تركها الرجال عندما أجبروا للذهاب الى جبهات القتال ، ودعم المجهود الحربي بساعات عمل اضافيه مجانيه .

وكانت الشوارع والمقاهي في الاحوال الاعتياديه خاليه من الشباب والناس الاصحاء ، عدا معوقي الحرب ، وذوي الامراض العقليه والنفسيه الذين كنا نراهم في كل مكان من المدينه .

وكانت الطرقات تغص باطفال الشوارع باعة السكائر وصباغي الاحذيه من المتسربين من المدارس باعداد كبيره ، وبالمشردين الفتيان الذين فقدوا ذويهم في الحرب ، الذين كانوا يمارسون مختلف الانحرافات الاخلاقيه في السلوك ،وكان من الطبيعي في اجواء العوز والحرمان من الحاجات الضروريه للفرد التي أفرزتها الحرب الطويله ان تتفشى الجريمه في المجتمع ، ويعيش المئات من الرجال والنساء والصغار على نبش المزابل ، وتعاطى الشباب المخدرات والادمان على الكحول بشكل واسع ، بسبب اليأس من المستقبل وانغلاق الافاق امام انفراج الازمه في غياب الساحه السياسيه من اي دور فاعل للقوى الديمقراطيه واليساريه التي غيبتها عنها بطش الديكتاتوريه الدموي منذ وقبيل اندلاع الحرب.

وفي ظل نظام منشغل بحروبه التي تورط في اشعالها ، تراجعت الحياة المدنيه ، وعادت وقويت التقاليد القبليه العشائريه والبدويه القديمه التي كانت متواريه او كادت ان تندثر في المجتمع ، كحماية العشيره والقبيله لافرادها ظالما او مظلوما وتجاوزها دور قوانين الدوله في ردع الجريمه على اساس ، ( تقاليدالعشيره فوق القانون الوضعي ) ، التي لاذت بها الجماعات طلبا للحمايه والامان ، وانتعشت في ظل هذه التقاليد روح العدوان والطائفيه و العصبيه والنزعات الدينيه و المذهبيه ، وجد انعكاسه وامتداده الكارثي في الفوضى والهمجيه التي سادت المجتمع ، و النتيجه ماعاد المجتمع العراقي هو نفس ذلك المجتمع قبل الحرب ، وماعاد مسرح القيم العراقي الاصيل السابق في هذه الاجواء ، قادر على ان يعبر بحريه وبصدق ، عن قيم واخلاق الحرب الجديده التي فرضت على المجتمع ، فضعف وتراجع امام توسع المسخ السرطاني لمسرح الحرب ، مسرح المرحله ، الذي انتهى عمليا بسقوط النظام .

في بداية الحرب العراقيه الايرانيه ، بدأت السلطه في التفكير باعادة الحياة الى ( فرقة المسرح العسكري ) عام 1981 بعد توقف عن العمل دام اكثر من عقد ، لأستخدامه كمنبر من منابر التعبئه للحرب ، باشراف محسن العزاوي ، بدأت الفرقه نشاطها بعدد من الاعمال التعبويه ، ثم مالبث ان اعفي محسن العزاوي على عجل من مهمته وانيطت ادارة الفرقه واخراج اعمالها الى محسن العلي الذي وجه نشاط الفرقه بما يتلائم وسياسة وزارة الثقافه والاعلام العراقيه في مجال واغراض المسرح اثناء الحرب الطويله ، والتي لخصها مدير المسارح فاروق سلوم في دفاعه عن توجه المسرح الجديد بقوله (.... ان الناس بحاجه الى من يسكن لها اوجاعها اليوميه لاان يحل لها مشاكلها ...).

وبعد هذا التاريخ ظهر على يد محسن العلي مسرح زمن الحرب ، او هذا المسرح المشوه الذي حمل اسماء عديده منها كما ذكرنا المسرح.التجاري ( الذي سنعتمده كتسميه شائعه عند الاشاره الى هذا المسرح ). بمهادنة وتشجيع السلطه لخلق هذا النوع بالذات من المسرح التنفيسي الذي يعنمد على الهزل والنكته النابيه والكوميديه الرخيصه والاغاني السفيهه والرقص الخليع ، لتهميش تجربة المسرح العراقي الرصينه والعصيه على ترويض السلطه واضعافه لاستبداله بمسرح القفشات السوقيه .

ودعمت السلطه بلا حدود المسرح العسكري ، وحولته الى مؤسسه ماليه كبيره باتحاده بالمؤسسه الماليه الجشعه المستقيده من الحرب، وجمعت في الفرقه خليط من انصاف الفنانين والجنود والغجريات والراقصات ومغني الدرجه الثانيه، وجذبت المغريات الماديه التي كانت تمنحها الفرقه ، الكثير من الاسماء الفنيه المحترمه في الوسط ، وورطت فنانين متقاعدين كبار من الرواد كأسعد عبد الرزاق ووجيه عبد الغني وغيرهم في اعمال هزيله للفرقه واعادة ماكانت قد قدمته فرقة 14 تموز في السابق ( الدبخانه )، ثم اعلنت وزارة الثقافه والاعلام ووزارة الاوقاف ووزارة السياحه عن استعدادها لتقديم الدعم المادي لاية فرقه مسرحيه جديده تنتهج الترفيه والكوميديا للتخفيف عن المواطنيين في اعمالها ، فبادرت وزارة الاوقاف بالتبرع باحدى بناياتها التي هي سينما دار السلام مع 25 الف دينار عراقي ( مايعادل 85 دولار امريكي في ذلك الوقت ) الى فرقة مسرح دار السلام التي شكلها( راسم الجميلي وسامي قفطان ومحمد حسين عبد الرحيم) اضافه الى تبرع وزارة الاعلام لدعم هذه الفرقه بكافة مايلزم من اجهزة الاناره وفتحت مخازن الفرقه القوميه امامها لتكون تحت تصرفها مجانا ، فقدمت هذه الفرقه باكورة اعمالها ، مسرحية تهريجيه هزيله ( الف عافبه ) أستمر عرضها طويلا ,ثم تعاقد محسن العلي مع اصحاب( شركة النجاح لانتاج المبردات) على تاسيس فرقه جديده ومسرح جديد بالتعاون مع فرقة المسرح العسكري بأسم ( مسرح النجاح ) في شارع الرشيد ، واستدرج للعمل في هذه الفرقه ممثلين ومخرجين مهمين من الشباب كمحمود ابو العباس و عبدالامير شمخي . واستغلت في هذا الجو شركة ( بابل ) فرص الربح السهله الجديده فاستغنت عن تقديم اعمال الفرق الجاده ، وفرغت نفسها لسهرات تهريجيه ابطالها مواليد وجاسم شرف . وجرى تحويل العديد من دور السينما في بغداد الى مسارح خاصه في خدمة هذه الفرق المسرحيه التي تزايدت عددا ، مسرح عشتار ومسرح الشرق ومسرح المنذر ، وكادت ان تصبح مسارح الشهيد و المنصور والمسرح الوطني ، ملكا شخصيا لمخرجين غير موهوبين كجاسم شرف وجبار عجمي وامير شمخي وغيرهم ، وفرق اعضائها غجر واقزام ومهرجين وانصاف فنانين .

لاقى المسرح التجاري اقبالا منقطع النظيرمن الناس المضغوطه بفعل ما أتت به الحرب من أهوال عليها والذي لم يكن لنهايتها القريبه من افق ، وبسبب كثافة الترويج لهذه المسرحيات باعلانات الصحافه والاذاعه والتلفزيون التي كادت ان تكون مجانيه، وتحول حضور المسرح عند الناس كنوع من المظاهر الاجتماعيه الجديده التي ظهرت في زمن الحرب و مدعات للتباهي بين الاسر العراقيه رغم ارتفاع ثمن التذكره التي تصل الى 1000 دينار عراقي للشخص الواحد ، وتحمل رب الاسره او الجنود القادمين من الجبهه في اجازاتهم ، وزر التكاليف الباهضه لهذه السهرات ، من اجل الهروب ونسيان الواقع ، سيما انه لم يكن هناك مجال لهو اخر ، فالبديل المسرح الجاد مغيب ، وعروض افلام صالات السينما رديئه لاتشجع، واغلقت كافة ابواب الملاهي الليليه امام روادها ، وانتقل فنانيها وراقصاتها العاطلات عن العمل الى هذه المسارح التي أحتضنتهم ، وبشروط عمل افضل من الملاهي .

في نفس الوقت الذي انعشت فيه السلطه المسرح التجاري بدعم لامحدود ، توقفت عن تقديم الدعم المادي للفرق المسرحيه الاهليه الجاده كما كان معمولا به قي السابق، وامتنعت عن تقديم اية مساعدات اخرى من قبيل تسهيل تأجير قاعات المسرح لها الا بشروط صعبه فوق قدرات الفرق ، وأعلنت صراحة ان على الفرق المسرحيه هذه ان تقوم بتمويل فعالياتها المسرحيه بنفسها ذاتيا عبر ايجاد مصادر مستعده لتمول انتاجها ، تقصد ( المقاولين والشركات التجاريه واثرياء الحرب) ، التي كانت شروطهم بطبيعة الحال في قبول تبني العمل هو الربح المضمون اولا وقبل كل شيء ، وبالتالي الخضوع لشروطهم في نوع العمل والموضوع الذي يتماشى مع السوق . ولم تستثنى السلطه فرقتها القوميه التي لاذ بها معظم الفنانين الجادين ، من وجوب اخذ هذا المبداء عن طريق الموازنه في برامجها الموسميه بين المواضيع الجاده والمواضيع التجاريه التي يجب ان تكون لها حصتها الجيده في العروض ، واخذت لجنة رقابة النصوص تضايق الفرق المسرحيه الجاده في موضوع الحصول على اجازات لعروضها المسرحيه ، وتعرضت للمنع العديد من المسرحيات التي لاتتماشى مع المرحله وتوجه الدوله في المسرح ، وعمدت الى ايقاف بعض العروض التي سبق وا ن اجازتها واكتشفت عند العرض انها لاتعجبها ، لاسيما انتاجات طلبة معهد الفنون الجميله ، وخضع بعضهم للمحاسبه والاعتقال والحجز للتحقيق عن اهداف ومرامي عروضهم.

ووجدت بعض المسرحيات الشجاعه طريقها للعرض رغم وضوح تغريدها في خارج السرب ، نذكر منها مسرحية ( لامنا ولامناك ) لفرقة مسرح الطليعه التي قدمت في الاشهر الاخيره التي سبقت سقوط النظام، وهي مسرحيه كوميديه رصينه ، في البدايه كان اسمها ( كش ملك ) الا ان الرقابه طلبت تبديل الاسم وتعديل الكثير من المشاهد التي تتناول معانات المواطنيين بشكل ساخر ، واستبدل الاسم الى ( الليله الاخيره ) وقدمت المسرحيه ، باسم ( لامنا ولا مناك ) بعد اعتراض الرقابه للمره الثالثه على الاسم متسائله مالمقصود بالليله الاخيره ؟ واثناء عرض المسرحيه ، وفي جو التهديدات الامريكيه بضرب العراق ، كان الجمهور يشارك الحوار مع الممثلين ، على سبيل المثال ، يدخل الممثل الذي يؤدي دور الشاعر ويسأل مدير المطبعه : - فحصوك..؟

يجيبه : - نعم فتشوني .
: - لا فحصوك ..؟
: - .....
: - كعدوك ..؟
: - على أي شي ..؟
ويتكرر السؤال والمماطله في الجواب الى ان يحسمها الجمهور من داخل القاعه(كول كعدوك على بطل )

لقد احدثت الحرب الكارثيه وثقافتها التي زحفت وهيمت على كل شيء ، بين المسرحيين العراقيين الجادين انقساما حادا ادت الى توزعهم على ثلاث مجاميع ، الرموز والرواد القدامى من اللذين مورست عليهم ضغوط هائله لاحتوائهم ، وحاولوا المناوره بين قبول بعض اعمال السلطه المفروضه ، كما حدث مع سامي عبد الحميد في اضطراره بالتورط في أخراج مسرحية ( زبيبه والملك ) وفي نفس الوقت واصلوا التمسك بقيم المسرح الجاد الذي كانوا يعلنون عن مواقفهم الصريحة منها في الصحف والندوات ، ورفضهم المطلق لظاهرة ( مسرح السلطه التجاري ) وتبني اعمال اخرى شجاعه استطاعت ان ترى النور في هذه الحقبه .

وبين رموز اخرى تحركت عن قناعه ، وساهمت في خضم عمى الوعي في تلك المرحله ، وشعور مشوه بمعنى الوطنيه ، وساندوا بحماسه في اعمالهم الحرب الوحشيه الدائره ، وقدموا اعمالا لاانسانيه ودمويه قاسيه تتماشى وتتناغم مع نهج السلطه ، منها اعمال قاسم محمد ، التي كانت تظهر الجندي العراقي كائنا خارقا قادم من عالم الخرافات وتبشر بقدوم المنقذ الاسطوري الذي ينهض بالامه ويقودها الى النصر ، والنموذج مسرحيتي يوسف الصايغ ( الباب ) و(العوده ) التي اخرجهما ايضا للفرقه القوميه قاسم محمد الذي اعد وكتب اكثر من مسرحيه دمويه في نفس الموضوع ..

وقسم حاول التمسك بقيم المسرح الجاد ، ولم ينجر الى اللعبه ، وحاول ان يجد له هامش بين فتره واخرى ليقول شيئا ممكنا من خلال أعماله في معهد الفنون الجميله او الاكاديميه او الفرقه القوميه ، منهم صلاح القصب ، في ( الخال فانيا ) و(العاصفه ) وغيرها ، حيث لمح الى هاجس الحرب والمأساة التي تخنق الانفاس، وعزيز خيون الذي تعامل مع نتائج الحرب وافرازاتها ( الحزن والآلام والكابوس وانتظار الفرج ) وعوني كرومي في ( ترنيمة الكرسي الهزاز ) واعمال هامه لاخرين .

وتعرض للضغوط والاهمال والتهميش عدد اخر من رموز ورواد المسرح العراقي الذين صعب على النظام تدجينهم ، كجعفر على وبدري حسون فريد ، مستغلين القوانين العنصريه التي كرست ضد من يحسب من اتباع المذهب الشيعي اثناء الحرب ، من منطلق التشكيك بولائهم ووطنيتهم للعراق ، وتبعيتهم لايران .

كانت السلطه اثناء الحرب تصرف من ميزانيتها المليارات من الاموال على اقامة المهرجانات الاحتفاليه الدعائيه المختلفه ، لتظهر امام العالم ان الحياة اليوميه عاديه في العراق وعلى خير مايرام رغم الحرب والموت ، من هذه المهرجانات ، مهرجانات سنويه ودوريه للمسرح ، على مستوى العراق بمحافظاته والعالم العربي ، وحرصت على ان تكون موجوده في كل مهرجان مسرحي يقام في العالم العربي .

من هذا المنطلق ابقت السلطه على هامش محدد للمسرح الجاد متمثلا بالفرقه القوميه ان يستمر ويعبر عن نفسه فيه بالحدود التي يريدها ، في الوقت الذي كتمت فيه انفاس الفرق المسرحيه الاهليه الجاده وشلت ، ولم يبقى منها غير اسمائها

 


1- حصانة السقوط في فراغ المسرح الهابط- عبدالامير السماوي - جريدة الزمان
2-
من اغتال المسرح العراقي وزيف هويته - علي الشيباني - الحلقه الاولى - جريدة بغداد - العدد 268/ 1996
3-
من اغتال المسرح العراقي وزيف هويته - علي الشيباني - الحلقه الثانيه - جريدة بغداد - العدد 269/ 1996
4-
من اغتال المسرح العراقي وزيف هويته - علي الشيباني - الحلقه الثالثه - جريدة بغداد - العدد 270 / 1996
5-
دماء على ستار المسرح العراقي - ميديا رؤوف - الحلقه الاولى - جريدة المؤتمر - العدد 172 / 1996
6-
دماء على ستار المسرح العراقي - ميديا رؤوف - الحلقه الثانيه - جريدة المؤتمر - العدد173 /1996
7-
دماء على المسرح العراقي - ميديا رؤوف - الحلقه الثالثه - جريدة المؤتمر - العدد 175 / 1996
8-
حال المسرح العراقي - د. رامي الياس - جريدة المؤتمر - العدد/ 132 /1995
9-
روايه عاطفيه لصدام على خشبة المسرح العراقي - صحيفة رسالة العراق - العدد 81 /2001
10 -
زبيبه والملك في زريبة الدكتاتور - د. احمد النعمان - صحيفة رسالة العراق -العدد 79 / 2001
11-
اعلان - منشور في مجلة الف باء - عدد يوم 9/12/ 1998 .
12-
مسرح الغجريات والاقزام - مجلة رسالة العراق .
13-
مسرح التسعينات العراقي - عبدالخالق كيطان - موقع الكتروني - ( مسرحيون)،
14-
ايقاف مسرحية ابن نعناعه - الزوراء العدد 112 - 1998
15-
في ازمة المسرح العراقي - جريدة طريق الشعب .( الصفحه الثقافيه )
16-
أيام ملايين - يوسف ابو الفوز - صحيفة المجرشه - العدد 58 - كانون الثاني - 1999
17-
مسرحية (( لامنا ولامناك )) - جريدة طريق الشعب .( الصفحه الثقافيه )
18-
أمسية المنتدى العراقي في دمشق ( المشروع الوطني في بنية المسرح العراقي ) - عباس الطائي - صحيفة بغداد عدد 260 في 22/12/1995 .