موقع الناس     http://al-nnas.com/

 فصول من تاريخ المسرح العراقي
(
الفصل
الثاني والعشرون )


( المحافظات الجنوبيه تنشيء مسارحها النمطيه ، والبصره تتميز عنها بالاستفاده من الفولكلور
 )


لطيف حسن

latif@webspeed.dk

 

السبت 28/10/ 2006


كانت الظروف التاريخيه و الاجتماعيه التي مرت بها محافظات العراق خلال الفتره العثمانيه ، وماتلاها من الحكم الوطني ، متشابهه ، وتكاد تكون واحده في بداية القرن التاسع عشر ، من حيث اشكال التخلف الاجتماعي وأنتشار الفقر والاوبئه والجهل والاميه، وسيادة الطابع الزراعي الريفي البسيط في انتاج الخيرات ، والنمط القبلي والعشائري البدوي في العلاقات ، وكان سكان العراق بولاياته الثلاث يشكلون طيفا واسعا من القوميات والاجناس والاعراق بثقافاتها المتنوعه، التي عاشت جنبا الى جنب طوال القرون التي مضت وهي تعاني جميعها وبشكل متساوي من وطأة نيرالامبراطوريه العثمانيه .
وكان الدين الاسلامي هو الدين الرسمي للدوله العثمانيه ومن بعدها ايضا الدوله العراقيه الفتيه ، وكان هناك دائما هامش من الحريه (يتسع ويضيق حسب الظروف السياسيه) لممارسة اصحاب الاديان الاخرى اليهوديه والمسيحيه والصابئه واليزيديه والزرادشتيه ، وغيرهم ، عباداتهم وطقوسهم الخاصه بهم ، واداريا لم يكن العراق مقسما كما هو الحال الان الى 18 محافظه ، بل الى ثلاث ولايات كبرى هي ولاية الموصل ، وولاية بغداد ، وولاية البصره ، والولايات الثلاث هذه مقسمه بدورها الى مدن صغيره بتجمعات سكانيه حول الانهر ومراقد الاولياء او على الطرق التجاريه المهمه ، اشبه بالقرى الكبيره ، وكانت هناك عشائربدويه غير مستقره تتنقل بحريه وراء الكلاء في البوادي الصحراويه العراقيه الغربيه ، وبوادي الشام ونجد ، وكانت هذه العشائر مصدر اقلاق مستمر للمدن الزراعيه المستقره ، وفي صراع دائم معها.
وعندما تشكلت الدوله العراقيه في عام 1920، دمجت هذه الولايات الثلاث في كيان واحد هو العراق الحالي ، ولتسهيل السيطره على العراقيين المعروفين بنزعتهم المتمرده وصفة العصيان الدائم عنهم لكل تنظيم او حكم مركزي ، قسم الاتكليز العراق الى اربعة عشره لواءا ( محافظه ) على اساس ماكان قائما من كتل وكثافات سكانيه للعشائر في المدن التاريخيه، التي هي كركوك واربيل والسليمانيه والموصل و ديالى وبعقوبه والرمادي والكوت وبغداد والناصريه والعماره والديوانيه والبصره والحله ، ولاهمية بغداد تاريخيا باعتبارها كانت عاصمة للدوله العباسيه الغابره ، وكونها جغرافيا تقع في الوسط يسهل السيطرة منها على باقي الالويه، استمرت عاصمه مركزيه للدوله الملكيه الهاشميه المنصبه.

ومنذ ان سارت قدما عصرنة الدوله العراقيه ، المنسلخه من الحكم البيترياركي العثماني بعد عام 1920 ، اخذ يظهر بسرعه ، التفاوت في التطوروالتقدم المدني بين هذه الالويه، حضيت بغداد كونها مركز الحكومه المنصبه ، وكونها المقر المركزي للادارة الانكليزيه المباشره لها ، باهتمام خاص ، واولويه في تحديثها و عصرنتها بفتح المدارس الحديثه وشق طرق المواصلات بوتيرة تقدم اسرع من المحافظات الاخرى التي كانت تتقدم ايضا ، ولكن بوتيره بطيئه ، اقل بكثيرمن وتيرة التقدم المدني الذي كانت تحرزه العاصمه .
وقد شهدت الموصل والبصره وكركوك تقدما نسبيا في التصنيع الحديث عن باقي الوية العراق في مجال البدء في عمليات التنقيب عن الثروات المعدنيه و احتكار استثمار النفط في العراق لاحقا من قبل الشركات الاحتكاريه الانكليزيه ،وتحديث ميناء البصره وتحقيق مشروع مد سكة حديد ، بغداد - البصره ، وبغداد - كركوك ، وتبليط الشوارع والطرق فيها، نالت هذه الألويه بعض الاهتمام الملحوظ ، ولكن لم تصل الى مستوى وسرعة التطورالمدني الاجتماعي ، التي حصلت عليه العاصمه بغداد .
عندما يكون من شروط نجاح نمو نبتة المسرح في العراق او في أي مكان اخر، توفر حياة اجتماعيه مدنيه حقيقيه مستقره، وفكر عصري متفتح نتاج تأسيس مدارس التعليم الحديثه بالدرجة الاولى ، نجد ان الموصل وبغداد ، كانتا السباقتين في هذا المجال ، وكلما تأسست فيما بعد مدرسه حديثه في لواء ما من ألوية العراق ، ظهرالمسرح لاول مره فيها من قاعات هذه المدرسه وساحاتها ، وحرك جو التقاليد الراكد المقاوم للتجديد في المدينه .
ان الجولات الفنيه للفرق المسرحيه التركيه والمصريه منذ مطلع القرن الماضي لالوية العراق المهمه، ومن بعدهم ( الفرقه العربيه للتمثيل ) و ( الفرقه الوطنيه للتمثيل ) التي اصبحت تسمى بعد عام 1930 ( فرقة حقي الشبلي) وغيرها من الفرق التي تشكلت في العشرينات ، قدمت خدمه كبيره في التعريف المباشر بالمسرح و نشرت وعيا نوعيا وسط الشباب المتعلم في المحافظات لاستساغة وتقبل هذا الفن الوافد الغريب ، الذي لم يكن مرحبا به اجتماعيا .
لقد فرضت العاصمه شكل ونمط مسرحها الذي وفد اليها من البدايه على جميع المحافظات منذ اواسط العشرينات، وبقيت كافة المحافظات منذ ذلك التاريخ اسيرة هذه التبعيه ، وتشكل ذوقها على هذا النموذج الذي لم يتسنى لها ان ترى غيره ، تقلد النموذج القادم اليها من بغداد وتعيد انتاج مواسم العاصمه دون ان تتميز عنها بشيء اصيل ، اذ لم يكن بالامكان أختلاف وتنوع مسرح المحافظات دون ان يمر وقت طويل كاف لتمثل وامتصاص التجربه الجديده ، عدا بعض خصوصيات المحافظات التي تناولناها في فصول سابقه كالموصل الرائده التي بدأت بالمسرح الكنسي في وقت مبكر ، والسليمانيه وكركوك بنسخة المسرح العراقي الذي يتحدث بالكرديه والتركمانيه ، وفي هذا الفصل نتوقف عند المسرح في البصره بنكهة فولكلورها الغنائي والراقص منذ نهاية الستينات .
لم تتوصل أي محافظه من المحافظات الاخرى حتى عام سقوط النظام في ربيع 2003 ، الى تجسيد سمات وروح وتقاليد مدينتها وخصوصياتها ولو بشكل بسيط في ملامح مسرحها حتى نقول عنها انها قد حققت حقا اضافه نوعيه الى المسرح العراقي .
أي ان معظم هذه المحافظات لم تنجح تماما في بلورة مسرح يحمل فروقا ملحوظه عن مسرح العاصمه، لافي الشكل ولا في الجوهر ولا في تأليف المسرحيه المختلفه ، رغم ان معهد الفنون الجميله ومنذ الخمسينات من القرن الماضي قد ضخ الى المحافظات عشرات الكوادر المثقفه التي عملت في المسرح المدرسي والتربوي ، وشكلوا في المحافظات المختلفه بعد عام 1958 ، فرق وجماعات مسرحيه عديده من خريجي ابناء المحافظه ، الى ان زار البصريون بغداد في سنة 1969 وقدموا فيها اوبريت ( بيادر خير ) التي بهروا بها سكان العاصمه .
وقد تأسست فيما بعد منتصف السبعينات وبالتدريج فروع لمعهد الفنون الجميله في معظم المحافظات المهمه ، الا ان بغداد بقيت تحتكرلنفسها منذ البدايه الكوادر المتقدمه في المسرح من الذين اكملوا دراساتهم في الخارج سواء كانوا من ابناء بغداد أو من المحافظات الاخرى ، ليعملوا في العاصمه تحديدا ، اما بالتدريس في معهد الفنون الجميله، أو العمل في الدوائر الاخرى التي لها علاقه بالمسرح المدرسي والجامعي ، و أسس هذا الخليط من طلبة معهد الفنون الجميله المنحدر من كل محافظات العراق وليس من بغداد وحدها من الرواد ، صرح المسرح الاكاديمي العراقي ذو النكهه الواحده ، و رغم توفر تنوع انتماء طلاب المعهد في كل دوراته ، الا انهم لم يتمكنوا من ان يؤسسوا شيئا خصوصيا لمسرح محافظاتهم عدا فضلهم الكبير بشكل عام في التعريف وانبات ونشر شتلة المسرح بمفهومه العام في كل ارجاء العراق ، وهو عمل لم يكن هينا ولم يكن باستطاعتهم ان يعملوا غيره في ظروف العراق، فنحن اليوم ، لانستطيع ان نقول عن طه سالم مثلا انه كتب المسرحيه المخصصه لمدينته الناصريه وخدمها في هذا المجال فقط ، او عادل كاظم قد خدم مسرح يحمل هوية و خصوصية البصره، ولاجاسم العبودي عندما كان يطبق افكاره الجديده التي جاء بها من الولايات المتحده ، كانت تشغله فكرة مسرح محافظته الذي ظل بعيدا عن اجوائها وظروفها، او بدري حسون فريد قد خدم فقط مدينته كربلاء ، وغيرهم الكثير من الذين أسسوا للمسرح العراقي في العاصمه وخدموه بشكل مخلص، ولم يدر في اذهانهم قط ان المسرح في محافظاتهم يجب ان يختلف عن المسرح الافتراضي العراقي الموحد ، الذي يجب ان يعطى الاولويه ، ليترسخ في تربه العراق اجمع التي لم تتعرف عليه او تتذوقه من قبل ، اي اننا كنتيجه حاصله الان لانستطيع ان نلمس فروقا كبيره فيما بين مايقدم على خشبة المسرح في بغداد او الناصريه او غيرها..الخ ، لأن هناك مسرحا افتراضيا واحدا اسمه المسرح العراقي ، موجود و قد تم بناءه وترسيخه في العاصمه بايدي وجهود أبناءه المنحدرين من بغداد والمحافظات على حد سواء ، ثم قلدت نموذجه بعد ذلك باقي المحافظات ، واستمرالمسرح بنفس الاطار الجامد ، بنفس الطعم ، بنفس اللون الواحد الى اليوم ، لافرق ان كان قد قدمه البغداديون او غيرهم من المحافظات، مسرح عراقي بقناع حديدي من القواعد الواحده .
وعندما نريد ان نشرح ماذا يعني المسرح الحقيقي في المحافظات ، يكون الكلام الذي يتفق عليه الجميع انه يجب على هذا المسرح ببساطه ان ينبثق موضوعيا وبتلقائيه من خصوصية المحيط والبيئه المحليه للمحافظه ويأخذ منها ، ويعكس تطلعات واحتياجات واحلام ابنائها، ويتحدث بصوتها ، عندئذ يظهر التنوع و الاختلاف فيمابين نكهة هذه المسارح ، وينمى هذا الاختلاف ليتأصل المسرح في كل مكان من العراق ، الذي هو مفقود الان لعدد من العوامل اهمها :-
1- المسرح العراقي نشأ بشكل اعتباطي ، ولم يخطط له ولتنميته الا بعد اواسط الثلاثينات ، عنما فرض نفسه على المجتمع كأمر واقع ضمن مسيرة التقدم والتحديث والعصرنه .
2 - مركزية الدوله الشديده منذ تأسيسها على الثقافه وتوجيهها من العاصمه ،
3 - فقدان الممارسه الديمقراطيه واجوائها الضروريه لتدفق التعبير والخلق والابداع ،
4 - لنا تاريخنا الطويل في التعامل مع الحكومات الشموليه ، والحكومات الديكتاوريه التي تتابعت و التي بطبيعتها لاتساعد وتمنع تطور التنوع .
ان معظم مسارح المحافظات ، لاسيما اكثرية محافظات الجنوب ، لم تعرف المسرح ، اي المسرح كفن يمارسه ابنائها في محافظاتهم ، الا في الخمسينات من القرن العشرين ، وبعد ثورة 14 تموز 1958 التي تعتبر هي البدايه الفعليه لها ، هذا يعني ان الحديث الان عن وجود التنوع والخصوصيه لمسارح المحافظات في ظروف العراق ، سابق لاوانه وغير واقعي ومبالغ فيه ، أي انه مازال يحتاج الى مزيد من الوقت ومزيد من الحريه والديمقراطيه ليتبلور ويتمكن من ان يعبر تلقائيا عن نفسه بوضوح اكبر ، ويكون حقا عامل غنى واضافه الى المسرح العراقي .
فالمحافظات رغم كل هذا الحديث عن امتلاكها المسرح الخاص بها ومعاهدها التي تخرج كوادرها في هذا المجال ، وثقة كل محافظه بالقدرات الذاتيه التي تراكمت لديها ، مازالت في مرحلة نأسيس وتجذير المسرح في تقاليد المجتمع المحلي المتخلفه التي تعود لزمن بعيد قد مات ، هذه التقاليد المغلقه التي دفعت الناس ( الذين مازالوا مرتبطين اخلاقيا وسلوكا يقوه الى تقاليد التشكيلات الاجتماعيه البائده ) لتقاوم ومازالت تقاوم كل جديد فرضته الحياة ، منذ هبوب رياح التحديث في بدايات القرن الماضي ، تقاوم كل جديد حتى ولو كان هذا الجديد يصب في مصلحتها ، كالمدارس الحديثه والمستوصفات الطبيه عند انشائها ، والمكننه في بداياتها و سفوروتحرر المرأه ، والمسرح الوافد.. الخ ، وغيرها من ما هو قادم من الخارج ولم يسبق لها ان عرفته او حتى ان جربته ، ان المدنيه الحديثه لايمكن لها ان تصل خلال خمسين عاما هو كل عمر مسرح المحافظات الى اعماق التقاليد الأجتماعيه وتهزها وتنقيها من كل معبقات تقدمها ، ماهو ظاهر للعيان من صور حضاريه جديده براقه على سطح التقاليد الاجتماعيه في المحافظات لايعبر تماما ، وفي كل الاحوال عن حقيقة اعماقها التي مازالت راكده والتي تمتد الى العديد من قرون القهر والانصياع للآخر و التخلف والجهل والعمى المستمر . والتي تكشف عن نفسها بين فتره وفتره ، وتظهرعلى شكل موجات من العوده و ردات اجتماعيه خطيره الى الوراء ـ كلما توفرت لها الظروف المشجعه ، وتتحول الى مصدر تهدد وجود اسس المجتمع المدني ومستفبل توجه التقدم بالبلاد .
لقد تحمل المسرح العراقي في العاصمه وهو يمد جذوره ، معانات اكثر من قرن وربع قرن من البذل والتضحيه و المقاومه والعناد في محاربة التقاليد المعرقله لفكرة تقبل المسرح في المجتمع ، حتى تمكن من الوقوف على قدميه ، ويحدد بعضا من ملامحهه .
ان هناك فقره ثابته موجوده في جميع برامج الفرق التي تشكلت في العراق منذ العشرينات ، وحتى الفرق المجازه اليوم ، تضعها هذه الفرق في اولويات نشاطها ، لها دلاله على صورة وواقع علاقة العراقيين بالمسرح هذه الفقره تقول مع اختلاف الصياغه بين برنامج وبرنامج ( تعمل الفرقه على نشر الوعي المسرحي في المجتمع العراقي ) ، لذلك كان من الصعب على الباحثين والمهتمين في المسرح في الماضي القريب تناول مسرح المحافظات كظاهره خاصه قائمه بذاتها ، لانه كان دائما يسير خلف وعلى خطوات وصورة مسرح العاصمه ، ان مهرجانات مسرح المحافظات التي دأبت الدوله على اقامتها سنويا ، مفيد ويخلص مسارح المحافظات من النمطيه ، ويعمق خصوصيتها بالاستفاده الجماعيه من الخبر والتجارب الناجحه المتحققه في المحافظات بهذا المجال، والكشف عن كنوزها التي مازالت دفينه ، وأيضا من خلال التفاعل الحقيقي الذي لم يتحقق لحد الان، بين مسرح العاصمه ومسارح المحافظات بعيدا عن الحساسيات السائده ، بزيادة تبادل زيارات عروض الفرق المسرحيه فيما بينها ، و العمل على خلق تقليد ثابت في هذا المجال .
واذا اردنا تناول مسرح البصره في هذا الفصل ، لابد ان نتوقف عند خلفية ا لبصره الاجتماعيه والثقافيه عبر التاريخ ،فقد كانت مدينة تجاريه وبحريه حيه ومزدهره منذ تأسيسها ، كانت ومازالت تشكل ثغر العراق الوحيد المنفتح على البحر ، تمخر اليها السفن الشراعيه من الشرق والغرب لتضع على ارصفتها حمولتها المجلوبه من الهند و اليمن والصين وسواحل افريقيا ، من اتواع توابل الهند وبخور اليمن وحرير الصين ، وتمخر منها مغادره محمله بالتمور والجلود المدبوغه والحبوب ، ولأن المدينة تاريخيا مفتوحه على التجاره البحريه ، لذا كانت تهب عليها كل رياح ثقافات العالم القديم وفنونها، كانت البصره بمثابة ساحة تفاعل بين الثقافات المجاوره والبعيده ، لاسيما في ما هو ملموس في مجال فنون الطرب والفولكلور علاوه على الفكر والادب البصري المتميز، وقد تميز بشكل ملحوظ طابع الرقص الفولكلوري لاهلها واطوار اغانيهم عن الاغاني والرقص الفولكلوري في المحافظات الاخرى ، باستخدام نوع غالب من ألآلات الموسيقيه التي اختصوا بها عن باقي آلات الطرب المنتشره في المحافظات العراقيه الاخرى ، و التي انتقلت اليهم من افريقيا والهند ، كالطبول والدفوف والنقاره على سبيل المثال، وقد شاعت وانتشرت المجاميع التي تؤدي هذا النوع من الطرب ، ( الخشابه ) ، حتى اصبحت كل محله في البصره تملك ( خشابتها) ، وما عاد احد يذكر البصره وناسها المتفتحين المعروفين بالطيبه والتسامح والكرم ، الا وتحضر في ذهنه ايقاعات الهيوه والسامرى ، واغانيها،والرقصه المصاحبه لها ، وتصفيقة الاكف الجماعيه الشهيره التي ترتفع من الجمهور المنتشى طربا، فيساهم بمصاحبته هذه في توتير ايقاع الاغنيه والهاب الجو .
وقد شاع ايضا عند البصريين مااخذوه من بحارة الخليج ( اغاني البحر )، وماشاهدوه واستمعوا اليه في تجوالهم بالمياه العربيه بدءا بالكويت والبحرين وعمان والامارات ، وبعيدا على طول السواحل الشرقيه لافريقيا من فنون ، ونجحوافي ان يطعموا فولكلورهم به ، ويخرجوا بفن يعبر عن روحهم و امزجتهم في حالة العمل وفرحة اللقاء او لوعة الفراق وتذكر الاحباب ، وبعض فنون البصره اصيله و قديمه قدم البصره ، تمتد جذورها الى زنوج الممالح من العبيد في الفتره العباسيه ، ومازال احفادهم الى الان موجودون في بعض مناطقها ، يمارسون طرب الاجداد بنفس التقاليد والطقوس والآلات الموسيقيه لحد الان ، ومايزال البصريون يسمون بالتوارث هذه الجماعه بالعبيد .
شاهد البصريون في مدينتهم ، وهم يملكون هذا الكنز من التراث الشعبي المتميز عن فنون المحافظات الاخرى ، حالهم كحال الوية العراق الاخرى ، شاهدوا فن المسرح القادم من مصر وتركيا العثمانيه في بدايات القرن العشرين ، من خلال فرقها المسرحيه الزائره للمدينه ، وبعد الاحنلال الانكليزي وقيام الدوله العراقيه ، تذكر مصادر بعض الصحف الصادره في ذلك الزمان انه قد زارت البصره فرق مسرحيه انكليزيه قدمت عروضا بالانكليزيه لجنودها ، تسنى لبعض البصريين من مشاهدة هذه العروض . وزارها ايضا في هذه الفتره السيرك الهندي ، اضافه للزيارات المتعدده المعروفه التي اعقبتها من قبل فرق مسرح العاصمه التي تشكلت بعد العشرينات ، والتي كان لها الاثر المباشر في فتح عيون شباب البصره لاول مره على هذا الفن .

يذكر عبدالوهاب محمد ناجي وهو احد الرواد القدامى في المسرح البصري الذي عمل منذ الاربعينات ، في رساله له الى احمد فياض المفرجي مؤرخه في سنة 1962 ، ان البصره قد شهدت في عام 1925 ، مسرحية ( طارق ابن زياد ) ويذكر اسماء المشاركين في المسرحيه ، فؤاد دويشا ، و فؤاد هرمز ، وناجي ابراهيم ، و رشاد المفتي ، و صالح رشدي ، و احمد ممدوح .
ومنذ ذلك التاريخ ، عمل و صعد على المسرح في البصره اكثر من الف ممثل وممثله و في فترات مختلفه يصعب حصرهم ، لان الكثير منهم صعد على المسرح لمره او مرتين ثم انقطع نهائيا ، نذكر هنا بعض ابرز اسماء الاوائل وليس كلهم ، عبدالوهاب محمد ناجي ، وجبار العطيه ، ومحمد الرديني ، و فؤاد هرمز ، ورشدي صالح ، وعبدالمسيح بلايا ، وتوفيق البصري ، وزكي الساعدي ، وسميع البادي ، واحمد الخطيب ، وجاسم حمزه ، وعلي القيسي ، وخليل ابراهيم ، وهادي النبك ، وعبدالرزاق شاهين ، والياس يلده ، وحاتم السعدي ، والبير عبدالكريم ، وكاظم السوداني ، وطعمه عبدالحميد ، ونجيب عربو، وعلي فلك ‘ وزكي الجابر ، لم تعرف البصره المسرح كممارسه شعبيه في البدايات، عندما دأبت مدارسها على تقديم بعض التمثيليات التربويه والاخلاقيه على غرار ماكان يقدم آنذاك في كافة المحافظات الاخرى و في الحفلات المدرسيه السنويه التي يصعب حصرها لكثرتها ، الا انه توفرت بعض المعلومات انه كان هناك نشاط متقطع في الاربعينات من القرن العشرين ، وازداد هذا النشاط في الخمسينات ، وحمل المسرح في المحافظه ملامحه الخاصه بعد السبعينات .
ولم تتشكل فرقه مسرحيه رسميه في المدينه حتى السبعينات، وبقيت الجماعات المسرحيه تعمل ، خلف واجهات المدارس ومؤسسات الميناء والنوادي الرياضيه وشركة نفط البصره ، والنقابات العماليه والحمعيات الفلاحيه ، وقد استغل هواة المسرح في بداياتهم فرص الرحلات الترويحيه لتقديم مسرحياتهم على الاصدقاء والعوائل ، ومعظمها كانت مسرحيات ارتجاليه ، وتشكلت من بعض هؤلاء الهواة فرق مسرحيه عائليه .
ان اضافات وفضل الرائد توفيق اليصري ، المثقف و الكاتب والمخرج والممثل ، كبيره على المسرح البصري منذ الخمسينات ، من خلال اعماله التي قدمها في نادي الاتحاد الرياضي، الذي لملم وربى جيل من بناة المسرح البصري والعراقي من بعده، اهمهم قاسم حول وعلي فوزي و اخوه قصي البصري الذي اصبح له شأن مهم في المسرح الغنائي بعد عام 1969 ، نستطيع ان نقول عن دور قصي البصري انه ( بصرنه المسرح في المحافظه ) واعطاها ملامحها من خلال استعانته بالفولكلور والفنون الشعبيه البصريه ، وقدم تجارب هامه ورائده في الاوبريت والمسرح الغنائي بالتعاون مع الفرقه الموسيقيه البصريه التي كان يقودها حميد البصري منذ عام 1965 ، وقصة ولادة الاوبريت والمسرحيه الغنائيه في العراق عموما تبدأ من البصره ، فمنذ انشاء الفرقه الموسيقيه البصريه عام 1965 من مجموعه مهمه من الملحنيين والمطربين وكتاب الاغنيه ، على رأسهم حميد البصري وطالب غالي ولويس توماس وعلى العضب وغيرهم من مثقفي البصره ، وباشرت بتقديم العديد من الحقلات الغنائيه البصريه المستمده من التراث البصري والعراقي ، حتى عام 1968 ، بعدها بدأ التفكير بتطوير عروضها الغنائيه الى الاوبريت الغنائي الاستعراضي ، وقد اجتمع لتدارس المشروع نخبه مهمه من المثقفين البصريين ذووا العلاقه من امثال محمد سعيد الصكار وعلي العضب وابوسرحان ولويس توماس وحميد البصري وطالب غالي وقصي البصري وياسين البصري وياسين النصير وبنيان صالح واخرين ، فولد الاوبريت الاول ( بيادر خير ) 1969 تأليف ياسين النصير والاشعار علي العضب والحان وتوزيع الموسيقى حميد البصري ، شاركه في التلحين طالب غالي ، واخرج العمل قصي البصري . شارك في بطولة الاوبريت سيتا اكوبيان وفؤاد سالم . الذين قدما لاول مره كمطربين للجمهور ، وابرزت الاوبريتات البصريه العديد من المواهب ، منها شوقيه البصري زوجة حميد البصري ورياض احمد وام لنا زوجة طالب غالي وغيرهم .

 


اوبريت ( العروسه بهيه ) 1971 تأليف نجيب سرور ، اعداد عبدالاله عبدالقادر ، الحان طالب غالي ، اخراج قصي البصري ، الذي يظهرفي الصوره الثاني من يمين المسرح ، وهو يؤدي احد الادوار في المسرحيه ، على قاعة مسرح بغداد

 

بعد ان لقي الاوبريت الاول نجاحا كبيرا في بغداد ، شجع الفرقه ان تواصل في مجال الاوبريت فقدمت اوبريتها الثاني الناجح ( المطرقه) في سنة 1970 تأليف على العضب ، والحان طالب غالي وتوزيع الموسيقى حميد البصري ، مماحدى بالسلطه آنذاك ان تتجه لاحتواء الفرقه ففاتحتهم بانها تنوى تبني الفرقه وابقائها في بغداد، الا ان الفرقه التي كانت تتكون بشكل عام من عوائل مرتبطه مع بعض بصداقات قديمه وانتماء قوي بالبصره ، اعتذرت عن قبول العرض المغري ، وفضلوا المواصله في محيطهم الملهم البصره وتطوير تجربتهم في اجوائها، بعد نجاح الاوبريتين الذين اخرجهما ، قدم قصي البصري مسرحية ( العروسه بهيه) 1971 تأليف نجيب سرور ، اعداد عبدالاله عبد القادر ، وبالتعاون مع الفرقه البصريه الموسيقيه في تطعيمها بالاغاني ، التي لحنها طالب غالي ، وقدمت المسرحيه بنجاح في بغداد ايضا ، بعد عرضها في البصره.
بعدها قدم المخرج لطيف صالح في البصره مسرحية العاني ( المفتاح ) بالتعاون ايضا مع طالب غالي والفرقه البصريه في تلحين واداء اغانيها القولكلوريه، ودفع نجاح فن الاوبريت والمسرحيه الغنائيه في البصره وعروضها في بغداد ، ان تقدم بعد ذلك بعض الفرق الاخرى كفرقة الموانيء المسرحيه على انتاج اوبريت (ديوان السلف ) في بداية عام 1971 ، كتب اشعارها ابوسرحان ولحنها حميد البصري واخرج العمل ، جبار العطيه ، كانت اخر اعمال الفرقه البصريه في السبعينات في مجال الاوبريتات هي اوبريت ( ليالي الحصاد ) سنة 1974 اخراج طالب جبار والحان طالب غالي بالاشتراك مع الفرقه الموسيقيه البصريه .
بعد هذه الاعمال القليله ولكنها الفاعله في تشكيل ملامح المسرح البصري ، تفرقت الكفاءات التي كانت تحتضنها الفرقه البصريه ومعظم مؤسيسها وروادها، وتشتت اعضائها بين بغداد والمحافظات الاخرى للعمل او تركوا العراق بعد وقبل سنة 1979 ، وصمتت الفرقه لفتره عن تقديم الاوبريت والمسرحيه الغنائيه ، لكنها عادت اليها مرغمه في ضجيح الحرب العراقيه - الايرانيه ، بغياب رموزها مؤسسي الفرقه، وقدمت بعض الاوبريتات الدعائيه الضعيفه ، منها أوبريت ( أسرى التحدي ) الذي قدم في عام 2000 ، تأليف رحيم حسون الخياط ، واخراج جبار عبود .

الا ان فضل هذه الفرقه، يتحدد في انها فتحت الابواب على فن الاوبريت لكل فرق المحافظات الاخرى فيما بعد ، لاسيما الفرقه القوميه في بغداد ، لمواصلة تقديم المسرحيه الغنائيه والاوبريت ، ولكن يطعم اخر ، و بدون مواصفات فولكلور المسرح البصري .
نعود الى المسرح البصري النمطي الذي كان لايختلف تقريبا عن مسارح المحافظات الاخرى ، الا من بعض الخصوصيات التي تركها توفيق البصري على المسرح من خلال مسرحياته المؤلفه ، وتعمقت فيما بعد ثورة تموز 1958 .
اذا اردنا ان نحدد من هن رائدات المسرح في البصره بدقه ، يظهر الخلاف على اسماء من هي الاولى ومتى ، لان الكثيرات منهن صعدن المسرح وفي فترات مختلفه لمره واحده فقط للحاجه الماسه و بتأثيرات ودفع من بعض افراد العائله ، واختفين بعد ذلك نذكر منهن رشيده العكيكي ، وكريمه التميمي ، ونجلاء خالد ، وسعاد كاظم ، وفاطمه الربيعي ، وسميره عبدالقادر ، وسعاد ياسين ، وهيفاء جبار ، وصبا ومها واخريات كثيرات ، وقد اشتركت الكثيرات منهن في مسرحيات قدمت باجواء عائليه غير واسعه ، الا انه في سنة 1957عملت مع الجماعات المسرحيه البصريه مع من عملن ولكن بشكل ثابت لاحقا، الاختين سليمه خضير (استمرت لحد الان) ، وامل خضير ( كان توجهها الى الغناء منذ البدايه) ، قبل ان تنتقلا الى العاصمه في الستينات من القرن العشرين ، ويبرزن بعدها في الوسط المسرحي والغنائي ، وعزيز الكعبي واحد من هؤلاء الذين شكلوا فرقه عائليه منه ومن ابنته احلام الكعبي ، وزوجته سعاد الكعبي ، وقدمت هذه العائله اضافه لنشاطاتها الخاصه ، يد العون الى معظم الجماعات المسرحيه في المحافظه لسد نقصها من العنصر النسائي ، في الوقت الذي لم تكن المرأه لتجروء آنذاك على صعود خشبة المسرح ، او حتى ان تفكر بهذه الخطوه المحرمه .
برز في البصره بعد عام 1956 الفنانان الطموحان ، قاسم حول وعلي فوزي واشتركا معا في عدد من النشاطات المسرحيات وكانت جميعها من اخراج قاسم حول وبطولة علي فوزي .
وقد بدأ الفنانان قاسم حول وعلي فوزي وهما في بداياتهما الاولى تقديم بعض التمثيليات الارتجاليه في الرحلات المدرسيه والعائليه، وقاما بعد ذلك بالمشاركه في اعمال الفنانين الاخرين ، ابرزهم توفيق البصري الذي كان يعتبر المحرك للنشاط المسرحي البصري الجاد والتقدمي انذاك ، والذي اشتهر باعادة اخراج معظم مسرحيات العاني الاولى ذات الفصل الواحد في البصره ، وقد مثل قاسم حول في بداياته وهو صبي في مسرحيه ( الفدائي حسن ) من تأليف واخراج توفيق البصري . وعلي فوزي في مسرحية العاني ( فلوس الدوه ) في سنة1956 وكانت من اخراج توفيق البصري .
ثم حاولا هاذان الثنائيان ، تأسيس فرقه مسرحيه في البصره باسم ( فرقة مسرح النور) الا ان الطلب قد رفض ، ولم تحصل المجموعه على اجازه للعمل الا بعد تموز 1958 ، فقدمت الفرقه عندها مسرحية توفيق البصري ( المنتفخون في البيت ) سنة 1958 ، ثم مسرحية ( تباريح بائس ) سنة 1959 تاليف بروتيموس وهو اسم مستعار لأحد الكتاب البصريين ، واخر اعمالهما (انتصار السلام ) وكان موضوعها يدورحول الجزائر من اخراج توفيق البصري ، عقب ثورة 14 تموز ، تطور النشاط المسرحي وانتشر في المحافظه بشكل انفجاري وبمديات لم تصل اليها في الماضي، شملت كافة النقابات العماليه والجمعيات الفلاحيه ورابطة المرأه والطلاب ،والنوادي ، وكان جل مواضيع هذه الفتره ثوريا ومباشرا ومساندا للنظام الجمهوري الجديد، وبمعالجات لاتخلوا من السذاجه، افضلها كانت هي المسرحيات المعاده من عروض العاصمه ، كمسرحيات العاني الاولى المكتوبه في الفتره الملكيه والتي اعادت تقديمها تقريبا جميع فرق المسرح في المحافظات العراقيه كافه ، بسبب قلة توفر النصوص المسرحيه الشعبيه انذاك، رغم توفر الكاتب المسرحي البصري من امثال ، زكي الجابر الذي قدم ( أهل الكهف ) وادمون صبري ( الست حسيبه ) ، وتوفيق البصري ( المدمن ) وقاسم حول ( عودة السنونو)
زارت البصره من العاصمه بغداد في عام 1959 ( فرقة المسرح الحديث) ، وقدمت فيها مسرحيتها ( اني امك ياشاكر ) التي لاقى عرضها دويا هائلا في المحافظه ، واصبحت حديث الناس ، ولم يكن من قاسم حول الشاب وهو في بداياته الفنيه الاولى في مدينته ، والغير معروف لحد ذلك التاريخ في بغداد ، وبدافع من الشعور بالكمال والعملقه ، والطموح للشهره السريعه ، على طريقة شباب ذلك الوقت ، سوى ان يتصدى للمسرحيه ويدلي برأيه ، بالنقد الجارح للمسرحيه ، من باب ( تحارش بالكبار وخالفهم حتى تعرف )، وقد بدأ من يومها التباعد اللامبدئي المفتعل الذي استمر لاحقا , بين قاسم حول ويوسف العاني الذي اهمل في وقتها الرد على مقالة الناقد المستجد التي وجدها غير موضوعيه ، ولا تستحق الرد .

انتقل الى بغداد اولا علي فوزي بعد سنة 1960 ، للعمل والدراسه المسائيه في معهد الفنون الجميله ، والتحق به فيما بعد قاسم حول ، وانقطعت علاقتهما المباشره منذ ذلك التاريخ بنشاطات البصره المسرحيه . يعتبر معظم المهتمين بشأن المسرح البصري ان سنة 1958 هي البدايه الفعليه الصحيحه للمسرح البصري ، فالرعيل الاول الشاب منذ الاربعينات قد نجح في وضع اللبنات الاولى ، ورسخها في الخمسينات توفيق البصري ثم انطلقت من هذه الارضيه فيما بعد الخطوات الصحيحه لبناء المسرح في المدينه ، و تحقق تشكيل الجماعات المسرحيه في المحافظه التي اصبحت فيما بعد من اهم فرق المحافظات الجنوبيه ، وانتقل قسم من الفنانين البصريين الشباب بعد عام 1958 الى العاصمه لدراسة المسرح في معهد الفنون الجميله ، وانشغل معظمهم عن مدينتهم البصره بالعمل بعد التخرج في مسرح العاصمه ، ومعظمهم لم يغني شيئا مسرح البصره ، عدا قصي البصري الذي عاد الى البصره في سنة 1964 بعد ان انهى دراسته للمسرح في معهد الفنون الجميله ، وترك بصماته المهمه على مسرح مدينته ، دون التقليل من محاولات مجايليه في هذا المجال كعبداللطيف صالح ، وعلي الاطرش ، وطالب جبار ، والرائد الاكثر غزاره في الانتاج جبار العطيه ، وحميد البصري وطالب غالي .
فكما في بغداد ، عندما تعرض المسرح فيها الى نكسه بعد شباط 1963، ونكل تقريبا بجميع المسرحيين التقدميين ، كان الحال نفسه في البصره ، اذ طالت الملاحقه والاعتقال خيرة مثقفي البصره ، ومنهم المسرحيين المحسوبين على اليسار الذين زجوا في السجون ، ودفعت لسد الفراغ بعض العناصر الانتهازيه المغموره المدعومه من السلطه الجديده لتقود الحركه المسرحيه في المدينه ، فنشطت فرقة التربيه وفرق النشاط المدرسي التي قدمت عددا من المسرحيات التاريخيه الهزيله التي تسند بشكل مباشرالتوجه القومي الشوفوني لسلطة الانقلاب ، سرعان ما تراجع الحماس عن هذا التوجه الساذج في المسرح بعد ان استلم السلطه القومييون العسكريون ، وظهرعلي الاطرش في فرقة الميناء المسرحيه ، الذي قدم عددا من المسرحيات الناقده لمعانات المجتمع من فساد اداري وبيروقراطيه وروتين وانتشار الرشوه وسوء استخدام السلطه ، للتنفيس وامتصاص النقمه ، وصعد نجمه سريعا ، فانتقل الى العمل في بغداد في الاذاعه والتلفزيون ، واشتهر في برنامجه الاذاعي الانتقادي اليومي ( على ظهر الحصان الطائر ) الذي لاقى تقبلا شعبيا واسعا ، ثم توقف برنامجه ،واختفى شخصيا واخباره بعد عودة البعث الى السلطه ثانية .
بعد عام 1964 انهى محمد وهيب دراسة المسرح في بغداد مع مجموعه احرى منهم قصي البصري ، فقدم عددا من المسرحيات الكلاسيكيه في فرقة مسرح التربيه ، ابرزها ( الزير سالم ) الفريد فرج و( القلب الارعن ) جون باتريك ، ( مصرع كليوباترا ) احمد شوقي ، و( كنوز غرناطه )، و( بيجماليون )، و ( ياطالع الشجره ) لتوفيق الحكيم ، و( هاملت ) لشكسبير ، وغيرها .
ما ان حل عام 1965 ، حتى عادت الحياة الثقافيه الديمقراطيه تدريجيا في البصره الى مجاريها القديمه ، فنأسست الفرقه البصريه للفنون الموسيقيه ، التي جمعت حولها خيرة الموسيقيين وكتاب الاغنيه والمثقفين في المدينه ، وتشكلت في المدينه فرق مسرحيه عديده ، مستفيدين من الامكانيات التي اعطاها قانون الفرق المسرحيه الجديد ، لفرق العاصمه في ان تفتتح لها فروع لهافي المحافظات ، وهكذا احتظنت المدينه السمحه في مسرحها كل التيارات السياسيه المتنوعه واخذت تعمل جنبا الى جنب وبجو سمح واخوي ، وتتعاون فيما بينها احيانا ، مع بروز عودة التقدميين من بين هذه التيارات في المجاميع المسرحيه ، فتشكلت اولا ، من جماعة الطليعه التي كان يقودها قصي البصري ، فرقة البصره للمسرح الفني الحديث ، ابرز اعضائها عبدالاله عبد القادر وطالب جبار وعبداللطيف صالح ، وبدأت نشاطها بالتعاون مع الفرقه الموسيقيه البصريه باوبريت (بيادر خير )1969 ثم اوبريت ( المطرقه ) 1970 ، والمسرحيه الغنائيه ( عروسه بهيه ) 1971 وجميعها من اخراج قصي البصري ، وبعدها مسرحية العاني ( المفتاح ) اخراج عبداللطيف صالح والحان طالب غالي.
وعند الحديث عن نشوء الاوبريت في البصره لابد ايضا من ذكر اوبريت آخر قدمته فرقة الميناء المسرحيه في نفس الفتره ، اوبريت (ديوان السلف) 1970 أشعار ابو سرحان والحان حميد البصري واخراج جبار العطيه ، ومن الفرق المسرحيه الاخرى في البصره ، التي تشكلت ، اضافه للجماعات المسرحيه الكثيره ( فرقة المسرح الشعبي) اشهر اعمالها ( مسرحية ( حسن افندي ) 1965 تأليف طه سالم واخراج خالد الربيعي ،( فرقة المسرح الكوميدي) اشهر اعمالها ( غراب )1968 تأليف واخراج على الاطرش ، و( فرقة جامعة البصره ) اشهر اعمالها ( التضحيه ) 1968 اخراج محمد وهيب ، و( فرقة نادي الاتحاد ) اشهر اعمالها ( شاكر افندى) 1968 تأليف محمد الجزائري واخراج عزيز الكعبي ، و( فرقة مسرح اليوم ) قدمت ( عودة السنونو) تأليف قاسم حول واخراج منعم شاكر،( فرقة مسرح الرواد ) قدمت ( شعواط ) و( حطحوط ) و(تراب ) وجمبعها من اعداد واخراج عبدالامير السماوي ، شكل التحضير الواسع في المدينه للمشاركه في المهرجان العالمي العاشر للشبيبه والطلبه الذي انعقد في برلين عام 1973 ، مهرجان اخر اكتسح محافظة البصره ، نشطت فيها وبرزت فرقة البصره للفنون الموسيقيه وباقي الفنانين بمختلف فروعهم ، وسافر عدد كبير من فناني البصره ضمن الوفد العراقي المشارك ، ولم تكن النشاطات الفنيه البصريه للمهرجان مناسبه لتعريف العالم من خلال المهرجان بفنون المدينه الشعبيه فحسب ، بل مناسبه ايضا لنشرها في نفس الوقت في بغداد وباقي المحافظات الاخرى .
واصلت فرقة البصره للمسرح الفني الحديث فيما بعد المهرجان ، نشاطاتها بالتعاون الوثيق مع الفرقه الموسيقيه البصريه ،في مجال الاوبريت فقدمت( ليالي الحصاد ) 1974 الحان طالب غالي واخراج طالب جبار.
وقد تقدم مسرح البصره الى الامام من هذه الارضيه ، وأخذ يحصد بأستمرار حوائز مهرجانات مسرح المحافظات الجنوبيه ، والمهرجانات التي أشترك فيها بالعاصمه.
ساهمت البصره في ايام الحرب العراقيه الايرانيه حالها حال المحافظات الاخرى ، بمسرحيات دعائيه مفروضه عليها قدمت معظمها ( فرقة مسرح البصره) و كتبها جميعا عبدالجبار التميمي وهي ( طائر الحلم ) 2000 اخراج عباس الخالدي و( الرحله السعيده ) 2001 اخراج د.طارق العذاري و( الحكم موتا ) 2000 اخراج جاسم حمادي ، ان انتعاش الحركه المسرحيه في البصره منذ نهاية الستينات انتجت نقادا للمسرح من المحافظه ، ابرزهم ياسين النصير ، وبنيان صالح ، وكاظم عيدان ، وعباس الرباط ، وعبدالبطاط ، وحامد المظفر ، وعصام سالم ، وعبدالحميد الدريني ، عبدالصالح ابراهيم ، وجميد عبد المجيد ، وعبد العباس حسن الشاعر ... واخرين

 


1- الحركه المسرحيه في العراق - احمد فياض المفرجي
2- معلومات من الصديق علي عبد الواحد عن اسماء بعض رواد المسرح البصري والفرق المسرحيه التي كانت تعمل وتجمعاتهم في السبعينات .
3- معلومات عبر الهاتف من علي فوزي ، وعلي رفيق ، وطالب غالي .
4- النشاط المسرحي لدائرة السينما والمسرح لعام 2000 - عقيل ابراهيم - كراس صادر عن وزارة الثقافه / دائرة السينما والمسرح - قسم العلاقات والاعلام والتوثيق - بغداد / 2000 .
5- نحو مسرح يليق بالعراقيين ويستنهض همم المبدعين - كراس اصدار قسم العلاقات والتوثيق في وزارة الثقافه العراقيه -دائرة السينما والمسرح - بغداد في آذار 2001
6- المهرجان السادس للمسرحيات التجريبيه لمنتدى بغداد - كراس صادر عن وزارة الثقافه والاعلام العراقيه - دائرة السينما والمسرح - بغداد 1990
7- ملف عن مسرح المحافظات - اعداد عبدالصاحب ابراهيم - زودني بها مشكورا مع معلومات اخرى عن مسرح البصره الزميل والصديق العزيز لطيف صالح.