| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

فنون

 

 

 

 

 

 

«رسم 1946» لفرانسيس بيكون: بين الرعب والجمال
 


ابراهيم العريس

«رسم 1946» لفرانسيس بيكون. في العام 1934 كان الرسام الانكليزي فرانسيس بيكون في الخامسة والعشرين من عمره... وكان قد بدأ منذ سنوات قليلة ممارسة فن الرسم من دون ان يكون قد درسه وتدرب عليه. هو كان في الاصل منسق ديكورات داخلية، ثم فجأة احس ان في وسعه ان يرسم، فرسم... وبسرعة فرضت لوحاته نفسها وبدأ يحلم بمكانة كبيرة في عالم الفن. ومن هنا حين اقام اول معرض شخصي لأعماله في شباط (فبراير) 1934 كان يطفح بالأمل وكان يرى انه قد جدد في فن الرسم، وكذلك في النزعة السوريالية، إذ يحق له ان يرث ماتيس وينافس بيكاسو. لكن معرض ذلك العام لم يحصد سوى الفشل. فكان ان قرر بيكون ترك الرسم نهائياً، وعمد الى تحطيم كل اللوحات وتمزيقها التي كان قد رسمها، سواء منها تلك التي شاركت في المعرض او بقيت خارجه. مهما يكن فإن اصدقاء له ومن بينهم اريك هال، ظلوا محتفظين ببعض اعماله، وحاولوا عرضها في مناسبات تالية... لكن الفشل ظل حليف الرجل... خصوصاً ان «المعرض السوريالي العالمي» سرعان ما طرده من بين صفوفه.

وكانت النتيجة ان اخفتى فرانسيس بيكون تماماً طوال ما يقرب من عشرة اعوام ليعود ويعرض العام 1945، في «غاليري لوفيغر» لوحة كان قد حققها في العام السابق، سيكون رد الفعل على عرضها كبيراً، وستعيد الى الوجود ذاك الذي سيصبح منذ ذلك الحين «اكبر رسام انكليزي حي» بحسب تعبير آلان باونس، مدير «تيت غاليري» في ذلك الحين. اللوحة التي اعادت الى بيكون مكانته في ذلك الحين كانت «ثلاث دراسات لوجه عند اسفل مصلوب» وتتألف من ثلاثة اجزاء، كما ستكون حال اعمال كثيرة لفرانسيس بيكون منذ ذلك الحين. وهكذا، اذ انطلقت مكانة بيكون من جديد، وفي شكل مفاجئ ومدهش، استعاد هو حماسته وعاد يرسم بوفرة وقوة... حتى وان كان معظم لوحاته التالية سيكشف، من ناحية الموضوع كما من ناحية التكوين، رعب كائن لا يرى من حوله سوى الموت والإمحاء.

وفي هذا الاطار قد تكون لوحته «رسم 1946» التي عرضها في العام التالي لعرض «ثلاث دراسات...» خير مثال – من دون ان تكون ثلاثية – على ذلك. وكذلك خير مثال على التشديد على ما قاله بيكون في ذلك الحين عن الفن من انه «اسلوب لاختراق اماكن شعور جديدة، بدلاً من ان يكون مجرد تصوير لشيء ما... فأنا، في الحقيقة، احب لرسومي ان تبدو وكأن فيها كائناً بشرياً مرّ بينها، كما يمر شيء ما تحت محدلة، ما يترك صورة ما لحضور هذا الكائن، وذاكرة تبقى لأحداث مرت تحت تلك المحدلة». والحقيقة ان أي متأمل في عشرات اللوحات، لا سيما «الثلاثيات» منها، التي حققها بيكون خلال العقود التالية، قبل رحيله في العام 1992، سيكتشف كم ان بيكون معيب في وصفه. فأعماله، بما فيها الصور التي صوّر نفسه فيها، مملوءة بأشكال مطحونة، مكومة كما في الرحم قبل الولادة، او كما في القبر بعد الموت... جامدة مرعبة الى الابد. وهو أمر اكتشفه باكراً، الباحث والناقد جون راسل الذي سيضع اول كتاب مهم عن بيكون، حين كتب معلقاً على اللوحة التي عرضت في «معرض لوفيغر»: «ان الفن البريطاني لم يعد هو هو نفسه، منذ اليوم الذي عرضت فيه هذه الثلاثية».

* ومع هذا تبقى لوحة «رسم 1946» اكثر اثارة للرعب والقلق... ذلك انها تحمل في اعماقها ذلك التهديد الخفي، الذي يأتي في حقيقة امره اكثر اثارة للرعب من الاشكال المرعبة التي تملأ اللوحة، وهو تهديد يمكننا ان نشعر به في الكثير من لوحات بيكون. وبالنسبة الى «رسم 1946» يخبرنا بيكون، ودارسوه ايضاً، ان اللوحة كانت تمثل في البداية وجهاً بشرياً في برية او في بستان. ثم خلال البدء في رسم اللوحة، فرضت صورة قرد (شمبانزي) نفسها على ان يوضع هذا القرد في البرية، او – في الحقيقة – وسط حقل معشوشب يكاد يغطيه من كل ناحية... ثم لاحقاً تحول القرد الصغير الوديع، في اللوحة الى وحش، ثم «اختلط كل شيء بكل شيء»، كما يقول لويجي فيكاتشي في كتاب حديث وضعه عن بيكون، مضيفاً: «واختفى الحقل تماماً ولم يبق من النيات الاصلية سوى بقايا حيوانين تحولا الى فكرة مجردة والى اشكال يصعب تحديد ماهيتها». والحقيقة ان هذه الصعوبة هي التي تخلق عنصر الرعب والتهديد هنا. اذ بدت الامور شبيهة بما يحدث حين تخرج المعرفة العقلية عن أي منطق، لتتحول الى قوة – ما – قبل – عقلانية، تشكل طاقة فوق – انسانية، تأتي لتدمر النظام القائم، وتحديداً النظام المعرفي، محولة اياه الى مجرد شعور مبهم. والحقيقة ان قوة الشعور هذه هي ما سعى بيكون الى التعبير عنها: وتتسم هذه العملية كلها بأقصى درجات الغموض طالما ان الرسام – وبالتالي – المتفرج يبدو عاجزاً عن تحديد ماهية هذا الشعور وتوجهاته، ما يجعل الامر كله يبدو فالتاً من عادية الشرط الانساني، واضعاً الوجود وسط دفق من حساسية مفرطة تبدو عاجزة عن التعرف الى أي غد او مصير. ولخلق هذا كله، كان من المنطقي لبيكون ان يلجأ الى التركيز على جملة من التفاصيل، محيطة بالشكل المركزي الذي يشغل وسط اللوحة – ومساحتها الاكبر – راسماً على «وجهه» تعبيراً مزدوجاً. من ناحية هناك ايحاء بضحكة ساخرة مجلجلة، ومن ناحية ثانية، هناك ايحاء بأن حكماً ما سيصدر خلال ثوان، عن ذلك الوحش، الذي قد لا يكون هو التهديد المباشر، لكنه بالتأكيد مصدره. ولقد رأى الباحثون دائماً، امعاناً في شعور التهديد هذا، من خلال تركيب اللوحة نفسه، والذي يبدو في نهاية الامر تركيباً غير متوازن، لا سيما في مجال توزيع التفاصيل، التي تساهم جميعاً في خلق شعور الرعب من خلال ما يبدو أشبه بكريشيندو، يتصاعد مكانياً ليتجمع في وسط اللوحة، تماماً مثلما يتصاعد الكريشندو الموسيقى حتى لحظة الذروة. وهذه العناصر – التي ستعود لمجابهة عدد منها، متفرقة في لوحات اخرى لبيكون، كما ان بعضها مستقى من لوحات لسوتين او حتى رمبرانت، اذ تبدو فاقدة هويتها، تساهم في نهاية الامر في صوغ «هوية» الشخصية الاساسية، المتجهة بقوة صوب مشاهد اللوحة.

* إن ما يمكن التوقف عنده، هنا ايضاً، ولمناسبة الاشارة الى الكريشندو، في استعارة من الموسيقى، هو وجود ايقاع محدد يضبط، في نهاية الامر قوة اللوحة التعبيرية، ايقاع يسري بين اشياء اللوحة والعلاقات اللونية والخطية التي تقوم بين هذه الاشياء محولة اياها الى عناصر مترابطة. وتحديداً الى عناصر حصار يضبط بدوره تعبير الرعب والنفور، في شكل يخلق – في نهاية الامر... ويا للمعجزة! – عنصر الجمال الرئيس في اللوحة: الجمال الذي يخلقه، بحسب تعبير لويجي فيكاتشي تحول الشعور الى تعبير. وهو ما يؤكده بيكون نفسه، اذ يقول عن هذه اللوحة تحديداً: «فجأة بدت لي الخطوط التي رسمتها، شيئاً يعني اشياء اخرى تماماً... ومن هذا الاقتراح الذي لم يكن ارادياً، خُلقت هذه اللوحة». وبهذا يحدد بيكون موضوع لوحته بكونه حكاية خطوط تفلت فجأة من حصار ارادة الفنان. وهو لتأكيد هذا، ظل يرسم طوال سنين لوحات تبدو اجزاء من تلك اللوحة الرئيسية منها «وجه مع قطع من اللحم» (1954)، و «شمبانزي» (1955) وخصوصاً «دراسة انطلاقاً من لوحة البابا اينوتشنتي العاشر لبيلاسكوين» (1953).

* ولد فرانسيس بيكون، الذي يعتبر من رسامي النصف الثاني من القرن العشرين العام 1909، في دبلن لأبوين انكليزيين، اعاده الى وطنه انكلترا، منذ العام 1914... مع ان العائلة ظلت تتنقل لسنوات طويلة بين لندن ودبلن. في البداية، وبعد سنوات من العيش في عزلة حرة تماماً، استقر فرانسيس وحده في لندن ليعمل لاحقاً مصمم ديكور، ويتنقل بين برلين وباريس. ولقد ظل التنقل واحداً من سمات حياته التي امتلأت طولاً وعرضاً، مع جعل الرسم، وخصوصاً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، خطأ ثابتاً فيها. وهو مات العام 1992 في مدريد، تاركاً عشرات اللوحات، وبعضها معلق في اكبر متاحف العالم.

الحياة - 30/10/05