| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

فنون

 

 

 

الأحد 6/8/ 2006

 

 

عشتار وتموز ..وقصة الخلق العراقية ..!


هادي فريد التكريتي 
*

ليس غريبا أن يجد المرء في أربع جهات العالم ، مدنا تعج بنشاط الفنانيين العراقيين ، وحضور عراقي ، لافت للإنتباه ،لنشاط هؤلاء الفنانيين ، الذين ضاق بهم وطنهم ، وهم يروون قصة المأساة ، للآخرين ، التي حلت بالعراق ، منذ أن استولى طاعون البعث ـ الفاشي على العراق ، وحتى اليوم ، بعد سقوط النظام .
في 4 آب بمدينة " لينشوبنك " السويدية ، وعلى إحدى صالات مكتبتها ، الفارهة في السعة والجمال والتصميم ، وبما حوته صالاتها من كتب وأعمال فنية للكثير من المبدعين ، المحليين والعالميين ، أقام الفنان العراقي ياسين الزاملي ، المقيم في هذه المدينة الجميلة ، معرضا تشكيليا لأعماله الفنية ، رسم ونحت ، تميز بحضور جمهور كبير ، تفتقر له بعض المدن الأكبر ، والأكثر حضورا للجالية العرا! قية ، وبعد تبادل للكلمات بين ممثل السفارة العراقية ، الذي دشن افتتاح المعرض ، وممثل بلدية المدينة التي استضافت المعرض في مكتبتها ، ألقي الفنان كلمة قصيرة ، عبر فيها عن شكره وسروره للحاضرين ، موجها دعوته للإصغاء إلى صوت أغنية حزينة ، ربما كانت بصوت الفنان نفسه ، الذي جسد شخصه المتكرر ، بدلالات مغرقة بحب الذات والتباهي بالأنا، ظهرت صريحة وواضحة ، أسفل جدارية استغرقت من المساحة أكثر من ثلاثة أمتار مربعة ، وهو يمسك بعود يعزف عليه ، ليروي لنا مأساة العراق والعراقيين ، التي حلت ولا زالت قائمة ، مهددة بتقسيم العراق أرضا ، وتبديد وحدة شعبه ، وحصيلة مسيرته ، ثقافة وحضارة وتاريخا .
الفنان الزاملي ، أنجز ، لمعرضه ، أكثر من سبعة عشر عملا فنيا ، تراوحت بين جداريات رسم ، ونحت ، ولوحات فنية ، تميزت من بينها جدارية الرسم ، التي ُأشرت إليها ، استخدمت كخلفية للاحتفال . أما جدارية النحت ، المتكونة من قطع متعددة ، تميزت بدلالات واضحة ، كل قطعة تحكي عهدا عن حضارة وادي الرافدين ، وبمجموعها تجسد تعاقب الحضارات ، على هذا الوادي منذ سبعة آلاف عام ، ولا زال المشهد مفتوحا ، تقدما وانحطاطا ، وفق قد! رة وأهداف القوى المتصارعة ، على هذا الوادي ، ليخط ، الغالب ، كل ما يري د قوله ، حقيقة أم زيفا ، فالتاريخ يكتبه القائد المنتصر ، صَدقت الشعوب رواتها ، أم لم تصدقهم ، هذا هو الواقع ، والحقيقة هي أن الغالب سيد الموقف ، والقوة تملي إرادتها على المغلوب ، أيا كان تاريخه . تلي هذه الجدارية مباشرة ، تمثالان متقابلان ، عشتار وتموز بحجميهما ، كحقيقة تاريخية قائمة ، كجزء من تاريخ وادي الرافدين ، ملتصقة به دون إنفصام أو إنفصال ، عصية على الإنكار أو التجاوز ، ومهما قيل فيهما أو عليهما ، فهما ، شاهدان يرويان هذا التاريخ لكل الأجيال ، منذ أن عرف إنسانه الكتابة ، وحتى الساعة . أما باقي أعماله الفنية الأخرى فقد تراوحت بين رسم ، لرقص تعبيري ، احتلت المرأة فيه حيزا لافتا للإنتباه ، ولوحات تشكيلية مختلفة .
فناننا الزاملي ، ومن خلال هويته الشخصية ، مواليد الديوانية ، للعام 1960 ، بدأ ، وأنهى ، دراسته الأكاديمية في بغداد خلال عشر سنوات ، 1979 ـ 1989 ، وهذا يعني أنه من جيل الحرب العراقية الإيرانية ، ليغادر بعد انتفاضة آذار 1991 إلى السعودية في العام 1992 ، لتبدأ معاناته ، وهي معاناة كل العراقيين ، الذين شردهم النظام البعثي الفاشي ـ الساقط في أنحاء مختلفة من المع! مورة .
جدارية الرسم ، أرادها الفنان أن ترسم مسار تاريخه ، لنشأته وتكوين حياته الإنسانية والفنية ، كانت مزيجا بين الصورة الفوتوغرافية الملصقة ، واللون الرمادي والقاتم ، الذي طرزت به ريشة الفنان خلفية هذه اللوحة له دلالاته على أجواء الجدارية ، الموشاة بشعر من شعراء العراق ، باللهجة الدارجة ، والفصحى ، عزيز السماوي ، عندما يهلل بالحبيب القادم ، خطار عدنه الفرح ..، ومظفر النواب ، وهو يتغزل بالعراقية : يل عينك أوكح من ليل .. والسياب وهو يهتف بأعلى صوته ، عراق ..عراق ..عراق ، وهاشم جعار وهو يحاول تضميد جروح شعبه ، .. والجروح البيك كافي ..!،هذه وغيرها الكثير ، من أقوال الشعراء العراقيين ، وشاها الفنان بحروف جميلة أضفت على العمل مسحة فنية جميلة ومعبرة ، حملت في ثناياها الألم والمعاناة ، يحسهما الشاعر والفنان في آن معا ، عما حل بالعراق ، قبل مجيء البعث وبعده ، إلا أن اتساع اللوحة ـ جدارية الرسم ـ للغير ، كان حيزا صغيرا جدا ، مقارنة بما شغله الفنان وعائلته مساحة وحيزا للتعليق والحديث الموثق بالصور الملصقة ، فمن حليب حلمتي ثديي أمه تشكل نهران ، كونا دجلة والفرات ، ومن باقي صور ا! لجدارية المزدحمة برموز العائلة ، أراد القول ، أنا وعائلتي ، تاريخ هذا الشعب ، وما عاناه من ظلم وقهر ، طيلة عهود الحكم الوطني والقومي ـ الفاشي .
في حديث مقتضب مع الفنان ، لم ينكر نرجسيته الطاغية على عمله ، وعبر بالقول ، " أريد أن يعرف العالم من أنا .." لا شك من حق كل إنسان وبغض النظر عن موقعه في المجتمع ، أن يحتل المكانة التي تؤهله الظهور فيها ، وتسليط الأضواء عليها ، ولكن هل يجب عليه أن يكون هو الصورة الفريدة في مرآة يحملها ، ولا يرى فيها غير صورته ؟ التي هي في الحقيقة والواقع ،لن تمثل إلا جزء صغيرا" من تلاوين المجتمع وخطوطه التي لونت مساراته وخطت تاريخ انتصاراته وانكساراته ، وحفرت حضارته وثقافته على مختلف العصور والعهود..
إذا تجاوزنا سعة اللوحة الذاتية للفنان ، التي جعلها الأرأس في معرضه ، إلى جدارية النحت ، التي تحمل التاريخ العراقي منذ أقدم عصوره ، والتي احتلت مكانا متميزا من حيث السعة وتعدد المشاهد التي تروي تاريخ وادي الرافدين وتطوره ، نجد أنفسنا أمام آلهة الخصب والنماء ، القوة والبقاء ، عشتار وتموز ، إلهان يعيشان بيننا ومعنا ، على امتداد تاريخنا بكل ما فيه من أفراح وأتراح ، وعدل وظلم ، يستوقفنا هذا الخلق والإبداع للفنان ياسي! ن الزاملي ، لنشاهد بل نسمع حوارا صامتا بين عشتار وتموز ، يسمعه كل من يحاول معرفة التاريخ ، وحقيقة وادي الرافدين وانسانه المكافح ، من أجل غد واعد ، وإذ يبوح تموز لعشتار بسر انكسارت شعب وادي الرافدين ، يعد بالنصر والحرية للشعب ، رغم كل الهزائم التي مني بها ، وعانى منها على امتداد فترات القهر والذل ، وهذا ما ينوء بهما ثقل الدلالات التي حفرها الفنان ، ليس على جسديهما فقط ، بل وما يجول في داخل رأسيهما ، وما يحملان فيهما ، من مبادئ وأفكار تعد بالخلاص ..
لوحات المعرض تستحق تقييما وتدقيقا ونقدا ، أكثر مما قدم قلمي ، المتواضع ، من تعريف بما حوته بعض الأعمال المعروضة ، للفنان ياسين الزاملي ، فالبحث بين إشاراته ورموزه ، وما استخدم من إيماءات ، ضرورة فنية في عمله الرائع والجميل ، لعلنا نهتدي أو نعثر على الأسباب والدوافع وراء تغييبه حقيقة ، المآسي التي عانى منها الشعب الكوردي ، منذ تشكيل الدولة العراقية ، وطيلة الحكم الوطني العراقي ، وخصوصا الفترة التي سادت فيها فاشية العنصرية ـ العربية ، خلال الحكم البعثي ، التي أطلقت يد النظام ومؤسساته الأمنية ، في القتل والتدمير ، لكل مكونات ا! لشعب الوطنية ، وقومياته ، التي شكلت على مر العصور الوحدة الصلدة للوحدة العراقية ، فمأساة حلبجة والأنفال ، وتهجير الكورد ، جديرة أن تحتل مكانا متميزا ، في عمل الفنان ، أي فنان ، يحاول أن يرسم معاناة الشعب العراقي ، وتطلعاته المستقبلية ، فاكتمال رسم صورة العراق ، بماضيه وحاضره ومستقبله ، تتم فقط عبر تلاحم نضال كل قومياته وأثنياته التي شكلت عراق الرافدين ، ، منذ أقدم عصوره وحتى اللحظة الراهنة التي جسدها الزاملي في عمله..!

لينشوبنك 

* عضو اتحاد الكتاب العراقيين في السويد