نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

فنون

 

 

 

الجمعة 31/3/ 2006

 

 

 

أنين العود في ليل العراق الطويل


حسني أبو المعالي

لامَسَتْ جذوره الأولى في الإبداع أنامل عراقية، وأضاءت أوتاره الرقيقةعلى مدى الأزمان والدهور ليالي السّمار والنّدامى، وحركت أنغامه العذبة وجدان المحبين والعشاق، وقيل في أساطير العرب بأن ـ لامك ـ وهو من أبناء الجيل السادس بعد آدم، أول من اخترعه، دقيق في صناعته، عريق في شرقيته، رفيق إذا عز الصديق، أنيس إذا طال الطريق، ذلك هو العود، سلطان الطرب وسيد الآلات العربية وأرقاها رنيناً وأحلاها نغماً وأشوقها سمعاً، اختزل في موسيقاه أحلى معلقات الشعر العربي، يتنفس أجمل قصائد الحب والغزل برئة قيس بن الملوح ورئة جميل بثينة وتنبض ألحانه بقصائد الفخر والرثاء بقلب كل من المتنبي والجواهري يستعين في رناته بأنين الحلاج ووجع السياب، فجزلت أناته طرباً.
عُرف بالمزهر والمعزاف والكران والموتر، وصُنع من أنواع الخشب، الجوز، والاسفندان (شجرة العرب) وخشب الزان والموجانو (الأبيض والأحمر) ومن خشب الزعرور والصندل والأبنوس .
كان أفلاطون لا ينازعه أحد في فن العزف عليه، يؤثر في قلوب متلقيه كما يشاء، ويسكن حواسهم متى يشاء، يقود عواطفهم إلى البكاء مرة وإلى ال! فرح مرة ثانية، يسحرهم بنغمة فينامون ويطربهم بأخرى فيستيقظون، وكذلك كان الفارابي.
 
أسرار العود لبّت نداء اسحق الموصلي أشهر العازفين في العصر العباسي إلى جانب إبراهيم المهدي، فسلم مفاتيح تلك الأسرار إلى تلميذه زرياب وشد على أنامله، فسعت الشهرة إليه من أقصى الدنيا إلى أقصاها، بعد أن اهتدى إلى نظرية الزمن في تطوير تلك الآلة، ورحل زرياب لكنه ظل حاضرا بشهرته التي قلما حظي بها عازف قبله أو بعده .
كان العراق كلما أنجبت أرضه عازفا بارعا قالوا هو ذا زرياب، حتى أن العود اقترن منذ أقدم العصور بوادي الرافدين، وكأني أجد العراق اليوم في حدوده الجغرافية يأخذ شكل العود، لكنه عود لا يحتوي إلا على وترين اثنين امتدا إلى عمق التاريخ، هما دجلة والفرات، وتران لم يعزفا من الألحان والأنغام إلا حزينها، فأصبح الحزن عبر العصور توأما للعراق وزادا للعراقيين، كان سميرهم في زمن زياد بن أبيه ونديمهم في زمن الحجاج، وكان سلواهم عند غزو هولاكو لبغداد الرشيد، وعزاءهم في زمن الطاغية صدام وحرب الخليج التي مافتئت وحرب الحصار آثارها تفتك بالأطفال والشيوخ والنساء جوعا وموتا .
الفرح استوطن في الدموع والسعادة في الأنين، والحزن احتضن العراق الكبير الذي كلما أنشد لحنا بكى واستبكى، فكان دليله في مقام (العُشَيْران) جراح العاشق في زمن الحب، وفي مقام (النوا) نُواح المُغترب في زمن الأوطان، وفي (الصبا) تفيض دموع الثكالى، وفي (الحُجازين) الكبير والصغير لوعة مابعدها لوعة.
 
فأي رنين لا يطربنا أيها العود؟ وأي أنين لايوجعنا أيها العراق؟
.