نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

فنون

 

 

 

الأربعاء 25/1/ 2006

 

 

 

عبد الواحد طه .. وذكريات العمل معه في الخال فانيا

 

لطيف حسن
 



عبد الواحد طه في عام 1961 اثناء العمل في مسرحية( الخال فانيا)


أخذ الموت منا كما يفعل كل يوم ، وبشكل تراجيدي هذه المره ، أحد العلامات البارزه في المسرح العراقي الحديث ، الفنان عبدالواحد طه ، الرائد والمتجدد ، الذي فضل العزله والصمت في الفتره الاخيره من حياته ، على ان يتلوث او ينحني امام رياح الدكتاتوريه التي عصفت بالجميع تقريبا .

شاهدته لاول مره وهو يمثل على المسرح وانا صغير في دور الخال في ( آني امك ياشاكر ) عام 1958 ، وسبق لي ان شاهدته في السينما متألقا في فيلم (سعيد افندي)عام1957 وبعدها بدور كومبارس مع يوسف العاني واخرين من ممثلي الصف الاول في الفرقه في مسرحية كارجياله ( رساله مفقوده ) من اخراج بهنام ميخائيل ، وعندما انتميت الى ( فرقة المسرح الحديث ) كانت تقدم مسرحية من اخراجه ليوسف العاني ( اهلا بالحياة) .

وبعدها بدأت الفرقه بانتاج مسرحية ( الخال فانيا ) لانطون تشيخوف في بدايات عام 1961 وكلفت عبدالواحد طه بأخراجها، وهي من ابرز اعماله على الاطلاق ، واعمال (فرقة المسرح الحديث ) بعد مسرحية ( آني امك ياشاكر ) على حد سواء .

كنت اصغر الاعضاء في الفرقه سنا ، وجديدا تماما على كل الاسرار المدهشه في العمل المسرحي التي انفتحت امامي ، جو التفاني وحب العمل ،
 


احدى سهرات الخميس في حديقة الفرقه عام 1961 يبدو في الصوره من اليمين عبدالواحد طه وقاسم محمد وعبد الامير الوردي وضيفان لااتذكرهما الان يجلسان على نفس الطاوله، وسعدي محمد صالح وفي العمق المظلم يجلس من اليمين يعقوب الامين ويوسف العاني والدكتور جميل الجبوري ونزار ابو العيس وانا


والعلاقات الحميمه بين الاعضاء ، التي تتعزز بسهرات الخميس في حديقة مقر الفرقه الواسع في منطقة العلويه ، ولم يكن حضور هذه الاماسي عادةً مقتصرا على اعضاء الفرقه فقط ، بل كان يحضرها ضيوف من الاصدقاء الفنانيين من مختلف الفروع ، رسامون ونحاتون وزملاء من فرق مسرحيه اخرى، اضافة الى الادباء والصحفيين والمثقفين اخرين .

اسندت لي مهمه في المساعده بادارة المسرح وتنفيذ الاناره التي صممها عبدالواحد طه ايضا . كانت هذه المهمه بمثابة اول تدريب حقيقي لي على عمل المسرح ، واختبار لقدراتي على الهمه والتفاني والانتظام وروح التعلم ، التي تؤسس لمنحي العضويه الكامله في الفرقه ( التي حصلت عليها على مااذكر اثناء عملنا في المسرحيه ) .

في الفرقه آنذاك ، وفي الفرق الاخرى كان نظام التدرج في العضويه معمولا به ، أي ان يدخل الراغب الفرقه اولا كعضو مؤازر ، ثم يجتاز مرحلة الاختبار التي قد تطول ، وهي في الواقع مرحلة اندماج العضو الجديد في الجو العائلي الرائع الذي كان يسود في الفرقه آنذاك .

كان عبد الواحد طه يحرص على ان تكون فترة دراسة نص تشيكوف كافيه وان تأخذ وقتها ليتشبع الممثل بروح الشخصيه ، ماضيها ، عاداتها ، مظهرها ، لذلك أستغرقت قراءة النص اكثر من شهر ، والتمارين مع الحركه والاعداد للتقديم حوالي السنه ، وهي على ما اعتقد أطول فترة تمرين استغرقتها مسرحيه طوال تاريخ (فرقة المسرح الحديث) وامتدادها (فرقة المسرح الفني الحديث ) فيما بعد .

كانت مجموعة العمل في المسرحيه تضم ، اعضاء الفرقه القدامى ، يوسف العاني وناهده الرماح وزينب وآزودوهي صاموئيل ، وطالب الحقوق آنذاك سعدي يونس ، واعضاء جدد ، جائوا من فرقة الشعله التي جمدها رئيسها ابراهيم الخطيب قبل سفره الى امريكا ، فأنتمى أكثرية اعضائها الى المسرح الحديث ، منهم كان قاسم محمد ، طالب معهد الفنون الجميله الذي لعب دور الخال فانيا ، ووداد سالم ، شخصية الجده ، وكانت في مرحلة الدراسه المتوسطه ، وفتاة اخرى صغيره في نفس المرحله ، صديقة وداد سالم اسمها ايضا كان وداد ، تركت العمل والفرقه بعد هذا الدور اليتيم .

دائرة النقاش حول العمل في المسرحيه لم يقتصر على مجموعة العمل وحدها ، بل اشرك فيه باقي اعضاء الفرقه واصدقائها من المثقفين ، كان هناك تخوفا حقيقيا من النتيجه ، فالعمل صعب ، وأجواء المسرحيه التي ولجناها لم تكن سهله ، فحتى ذلك التاريخ لم تجروء على تقديم مسرحيات تشيخوف الطويله فرقه مسرحيه عربيه ، عدا مسرحياته ذا ت الفصل الواحد ( كأغنية التم ) و( الدب )و ( ضرر التبغ) ا( ومفجوع رغم انفه) وجميعها عدا ( اغنية التم ) مسرحيات خفيفه .


كان في ذلك الوقت منهج ستانسلافسكي هو الأكثر طنينا وشيوعا في الساحه الفنيه ، والذي عرفه المسرح العراقي لاول مره من جاسم العبودي عام1954 ، كان يوسف العاني يتحدث احيانا آنذاك عن مسرح بريخت الذي شاهد بعض عروضه في برلين ، ووصلت الينا بعض ترجمات مسرح برشت ، لكنها لم تكن منتشره بما يكفي ، او لنقل معروفه على نطاق واسع .

وكان عبد الواحد طه امينا وحنبليا على منهج ستانسلافسكي في تناوله لمسرحية الخال فانيا، الذي كان يعتقد ان فضل ستانسلافسكي على تشيكوف كبيره ، فلولا منهجه في تحليل شخصياتها التي كان يعيش زمانها ، لما كان بالامكان تحقيق مسرحياته على المسرح فيما بعد ، رغم الخلافات الحاده التي كانت تقوم فيما بينهما على الشكل التي قدمت بها بعض من هذه المسرحيات .

كان يحرص ان يحضر جميع العاملين في المسرحيه ، (الممثلين والعاملين خلف المسرح )، كافة التمارين قدر الامكان ، وكان يوجهنا نحن الشبيبه صغار السن والخبره على استغلال فرصة العمل في الخال فانيا لقراءة كل مانشر عن تشيكوف وما متوفر من مسرحياته المترجمه ، حقا المجموعه التي اشتركت في هذه المسرحيه تحولت الى خليه دراسيه وعمل ديناميكيه ، نادرا ماتتكرر في عمل اخر .

ثم جاء دور تصميم الملابس والديكور ، جرت الاستعانه بكتب عن مسرحيات تشيكوف الصادره باللغه الروسيه والانكليزيه ، وصور لمسرحيات تشيكوف من اخراج ستانسلافسكي ، وكلف سعدي السماك بأستخلاص الديكور من هذه الكتب والصور والخروج بتصميم .

وسعدي السماك الذي عرفته منذ ذلك التاريخ ، ( لااعرف عن اخباره الان مع الاسف ) كان يمتلك او يشتغل في محل للنجاره في الكرخ ، درس فن الديكور في بلغاريا ولم يكملها لاسباب نفسيه ، كان فنانا بارعا كما هو نجار جيد ، يرسم ويحفر على الخشب ونشط في الاشتراك في المعارض التشكيليه التي تقام هنا وهناك ، وكان يُتفق معه على تصميم او تنفيذ ديكورات بعض مسرحيات معهد الفنون الجميله ، وبعض مسرحيات الفرق في المواسم المسرحيه .

وشخصية سعدي السماك شخصيه فريده نزقه ومزاجيه ، دخل مصح نفسي في فتره من الفترات في السبعينات ، ومعروف عنه انه سريع الزعل والنرفزه لاسباب تافهه ولم يكن من السهل التعامل معه، اذ كثيرا ماكان يترك في آخر لحظه الاعمال التي يلتزم بها دون ان يكملها ، مما يضع الفرق المسرحيه التي تتعاون معه في حرج . وكان هناك تخوف من ان يترك العمل بدون انذا ر ، لكن هذا لم يحدث من حسن الحظ ، فقد حرص عبد الواحد طه، المعروف بدماثته ان يتعامل معه بمرونه بحيث لاتترك لسعدي اي حجه للزعل .

ذهبنا انا ومجيد العزاوي بمعية عبالواحد طه في سيارته الصغيره (الموسكوفيج طراز1958) الى محلات الملابس المستعمله ( اللنكات او الباله )واشترينا منها ستر وبنطلونات قريبه من طراز ملابس عصر تشيكوف الرجاليه ، ومن السوق أخذنااقمشه حريريه لخياطة ملابس الممثلات ، ثم سلمت لمحل خياطه لتعديل المقاسات وتغيير مودة الملابس الرجاليه لتقترب من شكل الصور الموجوده لدينا ، وخياطة ملابس الممثلات على طراز ملابس القرن التاسع عشر .

كلف مسؤلا الدعايه للمسرحيه الشاعران الكبيران بلند الحيدري ومظفر النواب بتصميم وتنفيذ بوستر مناسب ، صمم البوستر مظفر النواب ، وبمعية بلند الحيدري جرى تنفيذ البوستر في المطبعه( بطريقة السحب بالسكرين يدويا) ، مازلت اذكر البوستر الذي كان يحمل صورة لتشيكوف بمنوكول على احدى عينيه ، مطبوع باللونين الاصفر الغالب والأسود .

انتهت ورشة اعداد الديكور في حديقة المقر الخلفيه بسلام ، وانجز رسم الستاره الخلفيه التي تمثل منظر الغابه التي يطل عليها شخوص المسرحيه من شرفة المنزل و التي اعتادوا الجلوس فيها لتناول الشاي من السماور وتبادل الحوارات التشيكوفيه التي قال عنها غوركي انها تعمل في القلب كالمنشار

ونقلت الديكورات قبل يومين على مااذكر او ثلاثه من العرض الى قاعة مسرح الشعب في باب المعظم ‘ لم يكن مسرح الشعب آنذاك يملك المعدات والتكنولوجيات الحديثه الحاليه ، كل شيء كان فيه بدائيا ، صوت الرعد يتم عن طريق هز الصفائح المعدنيه الكبيره المعلقه في جانب المسرح ، واحداث تأثير ظهور الضوء واخفاته الى حد الاختفاء كان يحمل الكثير من خطوره الصعق الكهربائي أذ يوجد برميل مملوء بالماء تدلى فيه ( راسطه حديديه طويله ) متصله بقطب كهربائي ومربوطه بحبل طويل، تعمل عمل ( الدمر ) في الوقت الحاضر ، فكلما ادليت الحبل التي في نهايتها الحديده اكثر في الماء ، متجنبا لمس البرميل المكهرب باليد، أشتدت قوة الضوء ، وبعكسه يضعف الى ان ينطفيء عند فصل الحديده عن الماء .

وكنت عندما انفذ انارة المشهد الاخير من الفصل الاخير ، يأتي عبد الواحد طه الي قبل ابتداء المشهد في كل ليله متوجسا غير متأكد ، ويكرر على نفس الكلام ، احذر ، ركز ، كن دقيق ، الكهرباء لايحتمل المزاح ، وحياتك ليست بالرخيصه ، أقل خطاء ترتكبه سندفع ثمنه جميعا لاسامح الله .




أحدالمشاهد من مسرحية ( الخال فانيا ) 1961 زينب وقاسم محمد وناهده الرماح


وفي المشهد الختامي الاخير الذي لاانساه في المسرحيه، حيث يبقى الخال فانيا ( قاسم محمد ) وسونيا ( ناهده الرماح ) لوحدهما يعملان في المزرعه بعد ان يغادر الجميع المزرعه ، يختفي الضوء بالغروب تدريجيا على المسرح حتى يسود الظلام ماعدا بقعة ضوء على الخال فانيا وهو منكب على اوراقه يعمل بعيون دامعه ، او يبكي بصمت ، و بجانبه سونيا المحطمه والمسحوقه انسانيا ، تلاحظ دموعه وانكساره ..تردد انك تبكي ياخال فانيا ؟؟ ثم تلقي منلوجها المتفائل بالغد الذي سيكون مشرقا للآجيال القادمه . وباليشر الجدد الذين سيولدون والتي لن تراهم وهم يرفلون بالسعاده والطمأنينه .. وتتوسل اليه ان لايبكي .