| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

فنون

 

 

الثلاثاء 14/4/ 2009

 

حرائق المسرح

منذر حلمي

ما ان قررت الكتابة – بمناسبة يوم المسرح العالمي – عن اخر عمل لي , قبل مغادرتي الوطن اضطرارا في مستهل عام 1979 , حتى تزاحمت الافكار واختلطت المشاعر، وطفحت الى السطح ذكريات المشاوير الاخيرة قبل الرحيل – ذهابي مع صديقي الفنان القدير علي فوزي لالقاء نظرة الوداع، ربما الاخيرة، على بناية المسرح الوطني ، الذي لم يكن قد افتتح بعد ، لحظات الصمت الموجعة في اخر زيارة لفرقتي - مسرح اليوم - ، لقائي بالراحل الكبير جعفر السعدي ، عندما زرت مسرح بغداد ، اثناء اجراء فرقة المسرح الشعبي التمارين على مسرحية – رقصة الاقنعة – تاليف الشاعر شاكر السماوي واخراج جعفر السعدي ، والتى اضطر العديد من كادرها الفني الى الاختفاء او مغادرة العراق ، كالفنانة الكبيرة وداد سالم والفنانين المعروفين اديب القليه جي وفلاح شاكر ، بسبب اشتداد حملة ملاحقة المثقفين ، بعد ان اسفر الفرد المستبد عن نواياه المريبة في تشويه الثقافة وتزوير التاريخ ومصادرة حرية الاخر المختلف . الامر الذي حدا بالراحل جعفر السعدي ان ينفرد بي ويهمس في اذني – انه يحرق العراق ، والمؤلم يامنذر اننا لا نستطيع اطفاء الحرائق – ذلك ما قاله الراحل آنذاك ، على الضد من اولئك الذين امطروه بالاسماء الحسنى وحاولوا اضفاء الشرعية على قتله المنظم للانسان جسدا وروحا . والمؤلم هنا ، ان الحرائق مازالت مشتعلة ، يتطاير شررها أرهابا ، طائفية وفسادا ، وربما تتاح لي الفرصة في مقام اخر لاتحدث بتفصيل اكثر عن معالم تلك المرحلة .


الفنان منذر حلمي في مسرحية ( السيد والعبد)

دائرة الفحم البغدادية
ما اريد توجيه الاضواء عليه الان هو مسرحية تركت اثرا بالغا في نفسي وغصة ايضا . وعكس مآلها سمات تلك الفترة ، التي تميزت بتشوش السلطة واضطرابها ، وتنافر دعاواها ووعودها مع اجراءاتها الفعلية على الارض .
تلك هي مسرحية – دائرة الفحم البغدادية – التي اعدها الاستاذ عادل كاظم عن مسرحية – دائرة الطباشير القوقازية – لبرشت ، واخرجها للفرقة القومية الراحل الكبير – ابراهيم جلال – وقد استضافتني الفرقة في الموسم المسرحي لعام 1976 لتمثيل دور – المعنكي – (ازدك ) في تلك المسرحية . وكنت حينذاك عضوا في مجلس نقابة الفنانين ، ومتفرغا للعمل فيها ، اما الاستاذ ابراهيم جلال فكان نقيبا متفرغا . كان لدينا متسع من الوقت اذن لاجراء حوارات مستفيضة حول المسرحية وحول دوري فيها . اذكر انني كنت قلقا ومجهدا ، ومسكونا بهم غائر حارق ، وانا اشتغل على شخصية المعنكي ، بهدف اكتشاف دلالاتها ، تناقضها ومستوياتها المتعددة ، النفسية والثقافية والاجتماعية . اذ انك لاتمسك بمفاتيح الشخصية لمرة واحدة مكتفية بذاتها ، وانما عليك ان ترافقها وتتفاعل معها ، ومن ثم تستدرجها ، وتحرضها على مغادرة الماضي , مغادرة النص ، كيما تكون شخصية محايثة , تعيش الواقع الراهن ، وتعبر عن صبوات الجمهور ، تعكس معاناته وتتحدث بلسانه .

عن الفنان إبراهيم جلال
كان المخرج يطلب من الممثل منذ الوهلة الاولى ان يوازن بين الاداء التغريبي الواعي للشخصية وبين التدفق الحر لها على خشبة المسرح . فلم يحسب ابراهيم جلال على ذلك النمط من المخرجين الذين يدعون الممثل قانعا متطامنا الى تحليل المخرج للنص ولابعاد شخصياته ، فهو يشركه منذ ملامسة النص عند القراءة الاولى له وحتى ليلة العرض ، بل تتواصل هذه العملية في احيان كثيرة على امتداد ايام العرض ، في عملية التحليل هذه ، وفي ايجاد الحلول البصرية والصوتية ، وفي اعطاء هذه الحلول مذاقا خاصا ، ينفرد به الممثل ، ويتميز به عن اقرانه ، يسجل في رصيده وينتمي اليه . اما على صعيد الاخراج اجمالا ، فكان يحرص على الرغم من اعتماده على التغريب منهجا اساسا في التعامل مع ابعاد النص وتفاصيله ، وفي اعادة انتاج دلالاته ومعانيه ، على الاستفادة من مختلف المدارس الفنية عبر علاقة جدلية لا تخل بوحدة العرض المسرحي . كان الراحل ابراهيم جلال يمتلك حسا انسانيا رفيعا وخيالا فسيحا وموقفا نقديا واعيا . وقد امدته كل هذه الامكانيات بالقدرة على كتابة نص جديد ، هو نص ابراهيم جلال بامتياز . نص العرض المسرحي الذي ينطلق من نص المؤلف ، ليجعله اكثر خصوبة وثراء . وهذا ماتجسد في عرض مسرحية – دائرة الفحم البغدادية – اذ تجلت فيه قدرة المخرج الفائقة على تشكيل التكوينات ذات القيمة الجمالية العالية وعلى تحريك هذه التشكيلات عبر طرائق منسقة ومتوازنة ، تسهم في تعميق وعي الجمهور للنص ومضامينه.
وهناك سمة بارزة اخرى تميز بها الراحل إبراهيم جلال ، تمثلت في حرصه البالغ على تجديد رؤاه بالعلاقة مع حراك المشاهد ونبض الايقاع وطبيعة اداء الممثلين في تجسيد الصراع المتنامي والمحتدم بين شخوص المسرحية . فهو قد يعمد الى الاستغناء عن ما تم الاتفاق عليه من تشكيل وحركة ، والاستعاضة عنه بمخطط بديل ، لا يلغي ما تحقق سابقا ، بل يحتويه في علاقة جدلية جديدة ، تنفيه وتؤكده في الان نفسه ، ولكن في صيغة اخرى .
استمر العمل على المسرحية لاكثر من ثلاثة اشهر ، وكانت تلك الفترة واحدة من اخصب الفترات في حياتي الفنية ، تعرفت فيها على عدد غير قليل من فناني وفنانات الفرقة القومية ، الذين كانوا يعتبرون التمرينات ، موعدا لهم مع الفرح ولقاء لإجتراح الأرقى والأجمل ، الى المدى الذي استطاعوا فيه بجهودهم الحثيثة ان يصلوا الى ذروة عطائهم . وقد بذل الفنان الطيب رحيم التكريتي مدير المسارح والفنان القدير الراحل طعمة التميمي مدير الفرقة القومية كل ما في وسعهما لدعم الانتاج ، ولاشاعة جو من الالفة والانسجام بين صفوف العاملين في المسرحية . وجاء يوم العرض الموعود ، وعرضت المسرحية في جو مفعم بالتواصل بين الخشبة والصالة وابدع فيه الممثلون ايما ابداع ، وتجاوب من خلاله الجمهور مع المسرحية ، فاصبح ، هو نفسه احد عناصر العرض .
تحولت المسرحية بتشكيلاتها الاخاذة المبهرة – وكثيرا ما اعتمد الراحل في عروضه على عنصر الابهار - التي انتشلت الجمهور من حالة التلقي السلبي ووضتعه في قلب الاحداث ، وباداء ممثليها المتألق الصادق ، وبأناشيدها الهادرة ، الى مظاهرة شعبية واحتفال حاشد ، والى مرافعة ضد الاستبداد والعبودية . غادرنا المسرح القومي ، على امل اللقاء في اليوم التالي لمواصلة عرض المسرحية . وعند وصولي في الموعد المحدد للتهيؤ للعرض الثاني ، شاهدت الوجوه وهي تتشح بالحزن والارتباك . تقدم مني الاستاذ ابراهيم مضطربا ، وطلب مني حذف بعض العبارات في دوري وبخاصة تلك التي تعبر عن ازدراء المعنكي لقانون السادة وعن انحيازه للشعب . كذلك فعل مع الاخرين , واذكر من بينهم الفنان القدير - سامي قفطان - الذي مثل دور المغني ، حيث حذفت من دوره العبارات التى تندد بالاستبداد وتتوعد المستبدين بالعقاب الصارم الذي ينتظرهم . ارتدينا ملابسنا المسرحية ودخلنا غرفة المكياج وهنا لوحقنا مرة ثانية لمواصلة حذف المزيد من العبارات . ولم تنفع كل هذه الاجراءات ، اذ صدر القرار الحاسم – الغاء العرض- او بالاحرى منع المسرحية . وقع ذلك القرار علينا وقع الصاعقة . اصيب الجميع بالذهول والخيبة ، ودخل الاستاذ ابراهيم جلال اثر ذلك المستشفى مكتئبا حد الغثيان . اذ كان مقدرا ان يمتد عرض المسرحية بعد نجاحها المنقطع النظير في العرض الاول على امتداد الموسم المسرحي لذلك العام . ولكن ها هي السلطة تكشف ثانية عن عورتها وتتخلى مجددا عن حيائها الزائف . ومن الجدير بالذكرهنا ان طارق عزيز وزير الاعلام ـ آنذاك ـ وناصيف عواد مسؤول الاعلام القومي للحزب الحاكم حضرا العرض الاول بهدف تقييمه واختبار صحة التقارير التي كانت ترفع اليهما من داخل قاعة التمارين ، منددة بالعمل – كما علمنا مؤخرا – ومتهمة اياه بمعاداة خط الثورة ، وبالغمز من قناة قادتها . ثم بدات المصائب تلد مصائب اخرى . وزحف الظلام ليشمل العراق كله ، اذ اخذت السلطة تطلق الرصاص على الجميع وحدث بعد ذلك ما حدث ، حتى حلت الاصبوحات المسرحية الموحشة محل الامسيات المسرحية التي كانت تضج وتزدهي بجمهور المسرح ومحبيه . فمتى يستعيد العراق ، وبالتالي المسرح عافيته ليعود كما كان مصدرا للمتعة والمعرفة ، وسلاحا بوجه الطائفية المقيتة والفساد المستشري والارهاب المنفلت ؟ ؟؟


دليل مسرحية السيد والعبد



 

 

free web counter