نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

هذا الكتاب

 

 

 


الــدفــّــان والـغـجـــريــة

رقصة الحرية ... والزمن الضائع في جوف تابوت .... في روايــــة الدفان والغجرية


صباح كنجي

الدفان والغجريه رواية صادرة عن دار المنفى في السويد عام 1997 للكاتب النصير حمودي عبد المحسن- أبو كاظم- وهي ثاني رواية له بعد روايته الأولى التي كتبها باللغة السويديه.
وهي في مائة واربع صفحات من القطع المتوسط يشكل عنوانها بحد ذاته تلخيصا ً لمكونات الروايه واحداثها التي نسجها بلغة وصفها جنان جاسم حلاوي بأنها لغة برية ودغلية واطلق عليها تسمية اسطورة ، وهي في الحقيقة رواية يمكن تصنيفها ضمن سياق ما يعرف بالأدب الواقعي فقصتها ليست استثناء ً وتحدث في كل زمان ومكان وتجسد تحولات انسانيه لشخص يعمل دفانا ً في مقبرةٍ مقدسة قد تكون في كربلاء أو النجف أو أية بقعه فيها قبور لأئمه ورجال دين معظمّين عند بسطاء القوم من السواد ، ممن يربطون حياتهم ودنياهم بالهالة المقدسة التي تفيض من هذه المواقع ، وما اكثرها ، في العراق ، ويبقون مخلصين لقناعاتهم التي تتحول إلى عرف اجتماعي يفرض نفسه مع الزمن كقيود ثقيلة ومملة يصعب الركون لها بالمطلق ، فتحدث حالة من التمرد التي تنمو لتتحول إلى طاقه تدفع الأنسان في اتجاهات جديدة تحرره مما يطوقه من قيود واعراف باتت لا تتلائم مع متطلبات الحياة وغرائز البشر الطبيعيه .
في الصفحات التي تشكل ربع قوام الرواية تسير الأحداث ببطىء ، يستغرقه الكاتب في وصف حالة الدفان ، وتداعياته الذاتيه ،وهو ما عبر عنه الحلاوي بلغة دغلية وبريه ، ومع قرب لقاء الدفان بالغجريه في الصفحات ما قبل الثلاثين يحدث تحولا ً في سرد القصة وتداعياتها تتحول اللغة إلى انسياب شفاف يحكي تقلبات النفس البشريه وإنتقالها من الميل السريع لممارسة القسوة التي تجسدت بصفع الدفان للغجرية إلى التساؤل والميل للملاطفة في محاولة للتوقف إمام الذات التي تبحث عن نفسها وسط زمنين ، يتمحور الأول حول العمل في المقبرة كدفان وهي كناية عن رتابة في الحياة تعبر عنها الروايه (تختبىء في روحه القاهره اطياف سود ، واشباح السنين ، وابتسامات شاحبة مثل وجوه الموتى ) ، و( الميدان المشبع بالحزن والصمت الموحش ، والأزقة التي لا تصلها الشمس ، وطرقات الباب التي تدعوه لأستقبال ميت جديد وهي حاله حولته لكي يشعر انه ينام في القبر، ويسمع انين الجرحى والقتلى ونداءات تصرخ مذبحة مذبحة ، ويُعّرفُ المقبرة ،بالمكان الذي يزرع فيها الموت ، ويتعجب من كون الأموات لا يقاومون ، ويشهد أن موتهم حزين فهو يستخدم تعبير حزن الموت ، وكل هذا يحوله إلى مزيج شيطاني من موت وعتمه وفرار مصحوب بالتأمل والتساؤل، الصمت الذي يمتد لعصور الأجداد وازمنتهم الغابرة ، ازمنة الحروب والطاعون والطوفان ، حتى الجدول لا يصدر خريرا ولا الهواء يحرك غصنا ولا الطير يغرد .

هكذا كان الدفان يتامل الجدول والأشجار والأغصان المتشابكه أثناء الليالي المقمرة مع جمال البدر ، وروحه المحمله بثقل عذابات السنين واعباء وايمان القيم المقدسة ، سرعان ما تتداعى في الزمن اللاحق الذي هو ( زمن جديد قادم إليه يبدو انه صعب ، وصعبٌ هو أيضا ً التراجع عنه سوف يصعد دون أن يخاف الحرام ) لأنه صمم َعلى المواجهة وقد اتخذ قراره هذا في لحظة خروجه من ماء النهر الذي يكفل غسل الروح والجسد ، معبرا عن انقطاعه بكل ما يربطه بالماضي لكي يسعى لأيقاف نزيف القمر ، حينما يتحول اللقاء مع الغجريه إلى حب لا يمكن اخماد شعلته ولا يمكن النجاة منها الا بالتقدم للأمام وتحدي الليل والجدول والخوف ومن خلال هذا الحب يكتشف الدفان معنىً جديدا ً للحياة يربطه بمفهوم الحريه هذا الشعار الأزلي الذي احاط بالبشريه منذ نشأتها وما زالت الأجيال تنشده ُ ، ويتجسد في ثنايا الرواية من خلال الأنفصال الذي شكل حالة انسلاخ من واقع ماضوي كان يكره الغجرييين ويعاملهم بأحتقار وقسوة ، وهو في ذات الوقت تخلص من قيم وعادات كانت إلى الأمس تفرض على الدفان سماتها ويتوجس من المكان المقدس ، الذي تداعى أمام حالة الحب والعناق وممارسة الحب مع رقصة الحرية في الهواء الطلق وعلى الأرض المقدسة وعلى ضفاف النهر وأثناء العوم والسباحة ليؤكد في النهاية انتصار الحريه المطلق بعد أن قرر الدفان والغجريه مواصلة الحياة والتمتع بجمالها لكنهم يفاجؤن بمن يبحث عنهم ويتعقبهم ، وهنا يقرر الكاتب انهاء روايته ليقول لنا بلا كلمات في النهاية... حيات الدفان والغجريه في خطر! طالما كانت حريتهم في خطر، وقد نبهنا الكاتب قبلها إلى من يسعى لمعاقبة الحلم، ومن خلال ذلك نستتنج إن قيمة الحياة هي بمقدار ما نملكه من حريه ذلك ماقاله حمودي عبد محسن في روايته الجميلة والشيقة أنها بحق رقصة للحرية في مواجهة رقصة الموت ،ودعوة هي للتمتع بقراءة الرواية .