| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

كتاب الناس

 

 

 

أنّا ماري شيمل تدرس أكثر من ألف كتاب عنها بالعربية والفارسية والتركية

المنامات وكيف تدسّ أنفها في شؤون الحياة اليومية


بيروت: بلال عبد الهادي

في هذا الكتاب، تقدم المستشرقة الالمانية الراحلة أنّا ماري شيمل قراءة معمقة وممتعة للمنامات في التراث العربيّ والاسلاميّ. وتقول الكاتبة إن المكتبة الاسلامية غنية بالمؤلفات التي تدور فصولها حول المنامات بشتّى اشكالها، وهي مؤلفات تفوق الألف، وقراءتها مهمّة شاقّة وكاشفة، خاضتها الكاتبة بمهارة وسلاسة وطرافة في آن. ولا تكتفي الكاتبة بتتبع المؤلفات العربية التي تتكلم على المنامات، وإنما تغوص في منامات اللغتين الفارسية والتركية أيضا.
هل يمكن لأحد أن يدير ظهره للمنامات، ويعيش وكأنها شيء لم يكن؟ ومن لا يتذكر مناماً واحداً على الأقلّ في حياته، لا يكفّ عن ملاحقته ومداعبة يقظته في مناسبات كثيرة؟ أليس من العبث الاستهانة بالمنامات واعتبارها مجرد أضغاث؟ من لا يحلم بأن يرى طيف عزيز راحل في غفوة ليل، وكيف يكون شعوره حين يفتح عينيه على ضوء الصباح المعطّر بذلك الطيف؟
المستشرقة أنّا ماري شيمل تتبع المؤلفات العربية التي تتكلم على المنامات في كتابها «أحلام الخليفة، الأحلام وتعبيرها في الثقافة الاسلامية»، الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن دار الجمل بألمانيا. ولقد خرجت الكاتبة من تجوالها في التراث السخي للاحلام في البلدان العربية والإسلامية بخلاصة لا تخلو من الغرابة والصحة في آن، مفادها ان الأحلام في منتهى الواقعيّة. ويلحظ قارئ الكتاب صواب قناعة المؤلفة التي تطلعنا على منامات كثيرة كان لها دور في تغيير قناعات البعض، أو توليد منشآت عمرانية، أو تحرير مؤلّفات ما كانت تخطر في أذهان مؤلفيها لولا حثّ منام، كما حصل مع الزمخشريّ، او نصيحة ميّت تراءى لهم في النوم.
وتظهر لنا الكاتبة كيف أن جزءاً من الحياة ما كان له ان يوجد لولا منام عابر في ليلة راءٍ. وتروح الكاتبة تلقط لنا المثل تلو المثل من بطون الكتب الادبية والصوفية والفقهية والتاريخية لتشير الى دور المنام في تنشيط الاحياء على إنجاز أمور كثيرة، وفي تغيير مسارات أناس قلب منام حياتهم ظهراً على عقب.
الطريف في أمر المنامات، انها تدسّ بأنفها في شؤون الحياة اليومية، فكم من خصام بين أخوين على سبيل المثال، انتهى باعادة وصل الارحام نتيجة رؤية والد راحل، راح يمارس عاطفته الابوية لتغيير مسار الخصام؟ وتروح الكاتبة تسرد عشرات المنامات التي غيرت مسار الاحياء، فهي تخبرنا مثلا أن الأشعري لم يغير مسلكه الفكري الا بناء لأوامر منامية، إذ انتقل بقدرة منام، من كونه منافحا كبيرا عن الفكر المعتزلي إلى ألدّ اعداء ذلك الفكر. وتروي لنا حكاية المأمون مع المنام الذي رأى فيه ارسطو، وكيف كان أثر هذا المنام على الخليفة العباسيّ الذي دفعه الى تشييد «دار الحكمة» أهمّ قنطرة حضارية للترجمة، في ذلك الوقت، حيث انتقل من خلالها الفكر الاغريقي الى الثقافة الاسلامية.
والكاتبة في كلّ الاوقات، على اشتغالها بالامور التراثية أغلب الاحيان، تعمد إلى إدراج وقائع منامية حديثة، وتثير في نفس القارئ علاقته الشخصية مع المنامات لتثبت له ان ما تتكلم عنه ليس مجرّد أقاصيص موهومة لا محلّ لها في عالم الواقع. وتنقل لنا حكايات مدوّنة في كتب التاريخ العربيّ أو مروية في كتب السير تشير الى ان بعض الاعمال العمرانية كانت نتيجة رؤية رآها أحد المسؤولين في عزّ النوم، منها حكاية مسجد ابن طولون الذي رأى في المنام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو مستغرب عدم بناء مسجد في الناحية التي يقوم عليها الآن مسجد ابن طولون فما كان من هذا الاخير بعد ان نهض من نومه الا أن أمر ببناء المسجد. وتسرد الكاتبة أمثالا كثيرة عن هذا الضرب من المعمار المناميّ ان صحّ التعبير.
ان اثار المنامات ليست اثارا نفسية فقط، اذ سرعان ما يستقيظ الرائي لتحويل المنام الى واقع مرئيّ. ومن خلال قراءة الكاتبة للمنامات تلاحظ علاقة الحكام بالاحلام، وكيف ان البعض منهم يسخّر سلطان المنامات وايمان الناس بها لتحقيق مآرب سياسية، ولا يمكن لأحد ان يميز المنامات الحقيقية من تلك المفتعلة او المنحولة لدى السياسيين، وهي منامات تمهد لاتخاذ مواقف سياسية معينة أو لإزاحة منافس محتمل، فتذكر لنا من عصرنا الراهن منام صدام حسين الذي كلّف العالم العربي والدولة العراقيّة أحزانا دامية حين قال انه رأى الرسول في المنام يحثّه على الجهاد ضدّ الايرانيين. وتلفت المؤلفة في ختام كلامها الى ان صدام حسين كان من الزعماء الذين يتبنون المبادئ العلمانية. وتستشهد الكاتبة بحيل عدد كبير من الحكام كانوا يعتمدون «الحيلة المنامية» لفرض رغبات سياسية معينة، او لخوض حروب، فتقول هل كان تيمور لنك، قام بما قام به من فتوحات، لولا تلك الرؤيا التي حثّته على اجتياح العالم؟ وتتساءل الكاتبة عن سبب غزارة الاحلام التي جمعها المؤرخون وهل السبب في ذلك هو محاولة منهم لتجنب المساءلة؟
تشير الكاتبة في ثنايا قراءتها للاحلام، وتفسيرها الى امور قد لا ينته لها الرائي، منها ارتباط المنامات باللغة. فلكل لغة تفسيرها الخاصّ، فدلالة الذهب مثلا في المنام العربي غيره في منامات اخرى لأن تفسيره المناميّ في العربية مرتبط بالتعدد الدلالي المحتمل لجذر «ذهب» الذي يشير في صيغته الفعلية الى الرحيل. ومن هنا حمل الذهب في المنام العربي دلالته السلبية. وكذلك الامر بالنسبة لرؤية الحبْل في المنام العربي، ان مجرد التقارب الصوتي بين الحبْل والحبَل جعل من تفسير الحبْل في المنام دلالة على الانجاب، وهذا التفسير لا تتبناه لغات اخرى لان الصلة المعقودة بينهما ليست هي نفسها في مفردات لغة أخرى. وتتناثر في غير مكان من فصول الكتاب تلك الاشارات المضيئة التي تربط تعبير المنامات بخصائص اللغات. فهي تشير الى تأثير اللغة في تفسير المنام، مما يعني بالضرورة تفاوتاً في تفسير المنام الواحد من لغة الى اخرى، وهذا ما كان قد اشار اليه العالم النفسي الشهير إريك فروم في كتابه الثري عن المنامات «اللغة المنسية».
كما تشير ايضا الى ضرورة الأخذ بعناصر البيئة في تفسير الاحلام، فدلالة المنام الواحد تتغير بحسب الفصول والاوقات. تعتبر المؤلفة ان مفردات المنامات حياديّة الى حدّ بعيد، فالبيئة الجغرافية أو الدينية عنصر مهم من عناصر سياق المنام، وهذا العنصر هو الذي يسمح للمعبّر بالكشف عن مكنونات المنام. فإن رؤية الكنيسة في منام مسلم قد تجلب له الحيرة، في حين ان الكنيسة في منام مسيحي تجلب له المسرّة، من هنا يستحيل التفسير ان كنت لا اعرف المعتقد الشخصيّ للرائي كما تقول المؤلفة. وكذلك الشأن في اللباس أيضا، فإن رؤية الفرو في المنام لا يمكن تبيان دلالته الفعلية ان لم نكن نعرف الطقس الفعليّ لحظة المنام. فالفرو في لهب الصيف لا يحمل الدلالة نفسها في حال تمت رؤيته في فصل البرد. هنا الطقس هو الذي يساهم في تزويد المنام بدلالته.
وتروي لنا الكاتبة مناماً واحداً رآه شخص في فترتين متباعدتين، الا انه لم يتضمن الدلالة نفسها بسبب تغيّر طبيعة الطقس الجغرافيّ، فتروي لنا «ان احد الاشخاص رأى في منامه انه اخذ سبعين ورقة من اوراق الشجر، فأتى أبا بكر الصديق، فقال له أبو بكر تُضرب سبعين جلدة، وبعد عام رأى أيضا تلك الرؤيا نفسها، فأتى أبا بكر رغم ما لاقاه من جراء الاولى واخبره انه رأى تلك الرؤيا على هيأتها فقال: يحصل لك سبعون الف درهم، فبين له ابو بكر الصديق ان رؤياه الاولى حدثت والاشجار تنثر اوراقها (مما يدل على العصا) اما رؤياه الآن فعند نمو الاشجار واكتسائها بالاوراق». وترى الكاتبة من وراء هذا المنام الطريقة التي كان يستخدمها المعبر للاحلام من حيث أخذه للعامل الطبيعي بعين الاعتبار في عملية بناء المعنى المناميّ.
كما تقوم الكاتبة في فصل شيّق عن علاقة المؤلفين والمبدعين مع المنامات، فالكاتب قد يكون عرضة للقمع أو للخوف ولا يريد ان يتحمل مسؤولية ما يكتبه فبدلا من ان يلتفت الى المجاز او الى الغموض يقوم بالاعتماد على الكتابة المنامية، على الاستعانة بالمنامات لتمرير افكاره، فيقوم المنام بدور بطل السرد مثلا، او يملأ الكاتب أجواء روايته بعالم الاحلام كما نرى في رواية «البومة العمياء» للكاتب الايراني «صادق هدايت»، وتشير المؤلفة الى كون نجيب محفوظ قام باستثمار التراث المنامي في كتابة روايته «رأيت فيما يرى النائم»، وتعتبر الكاتبة ان المنامات في الروايات الحديثة جديرة بالدرس لانها تفصح عن حالات نفسية واجتماعية غنية بالمدلولات.
ولا شك في ان المنامات منها الحميد الذي يفرح الرائي ومنها الذي يعكر صفو يقظته ويطارده كالأشباح. وتلتفت المؤلفة الى قراءة المعالجات التي كانت تعتمد في التراث العربي لازالة مفعول المنام الموحش، وهي معالجات كثيرة ومتنوعة منها العلاج الشعبي القائم على الخرافة فتقول ان في المغرب العربي يلجأ البعض الى الغاء مفعول المنام الموحش بسرده لحجر او لسطل ماء.
ان الكتاب على ضخامة حجمه (500 صفحة)، يقرأه القارئ كما يقرأ رواية شيقة، مليئة بمغامرات منامية عاشها اناس من لحم ودم وكأنها استمرار طليّ وطبيعيّ لعالم اليقظة.

 الشرق الاوسط - 23 /8/ 2006