آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                    الثلاثاء 9/8/ 2011

 

صداقة من نوع آخر

فاطمة آل شبير الخاقاني
alshobairi@live.com

أسير كعادتي ببطء شديد نحو الأسواق بجو مشمس تموزي، اِذ اقتربَ مني أحدُهم بحالته الرثة طالبا مني ما يسد رمقه، فلم أتردد اِذ أعطيته ما أخرجت يدي بسرعة من حقيبتي..
استمعت لأحد المارين: هؤلاء لا يستحون وأغلبهم جشعون وكذابون..
فلم أبالي لهذا الكلام وقد تحسست نظرات هذا المسكين التي ارتعبت من تلك العبارات، خشية ان تؤثر عليّ وان أمنع عطائي له، وما اِن وجدني لم أبالي حتى أكثر من شكري والدعاء لي ..
كان دعاءُ هؤلاء أكثرَ شيء يؤثر بي، وكنت أشعر بلذة متناهية منه وكأني سأملكُ الدنيا بكل تأكيد، فقد كنت راغبة بالحصول على شيء من رب العالمين مقابل ما أقدمه لهؤلاء المساكين والفقراء .
اني في مثل هذه الحالة كأنني أستيقظ من سبات تقليدي أعيشه كأي انسانة في هذه الحياة، محاولة أن استشف أسرار هذا الاهتياج في داخلي في مثل هذه المواقف، ولم يكن تحديدُ المسكين من عدمه هو همّيَ الأكبرَ، لأن ما كنت أهتم به هو عجزي عن فهم الأمور وكيفية مجراها في هذه الدنيا، وتساؤلات تتقاذف في داخلي ..
:.. لماذا هذا فقير ولماذا هذا غني ؟ ..
وأحيانا أشعر بعجز حتى في قدماي أو يداي، وكأنني مشلولة بسبب فقداني للأجوبة أو عدم الحصول على أجابة شافية.
وطالما اتهمت نفسي اني أعيش في كوابيس اليقظة، وكأن الحزن دوما في مغازلتي، ولكن طالما يتداخل بسرعة حدث ما في عالمي كما حدث لي في هذا الشارع، يتلاعب في ضيقي أو يثير عواطفي وسرعان ما يجعلني في تناقضات ما بين حزن وألم أو بين فرح لا أعرف له سبب، وهنا أشعر بنفسي عدت للواقع وانتهت أحلام اليقظة أو كوابيسها.
ضجة في رأسي، أغلب ما فيها لا أفهمه، بل تجعلني لا أسمع من حولي واني غريبة عن من حولي، كان شعورٌ بالشلل وشعورٌ بالعجز وشعورٌ باللاشيء، اِلا قيمة ما يمكن أن أستمع الى مسكين، فلربما قد صدقت أمي قبل سنوات عندما كنت أبوحُ لها بهذه الهواجس لتخاطبني وكأنها تنتقدني، ولربما كانت تحاول أن تشجعني بأن أكون أقوى بالتخلي عن التفكير بالضعفاء، فلم أفهم قصدها..
عندما قالت: ستكونين حبيسة ضعفك .. وربما ينتهي بك المقال الى اِنك لا تجدين من يقدم لك خدمة وأنت على فراش الموت ..
لينتابني ما يشبه رغبة الانتقام، ولكن كنت أقاوم محاولة أن أكتشف نفسي بالضعفاء أكثر مما كنت أجد نفسي بالأقوياء من حولي.
وكم من مرة عندما أجد مثل هذه الحالات لا أشتهي الطعام، بل وحالتي تتدهور وفي نفس الوقت تأتيني فكرة أن لا أتناول أي دواء لأستكشف في نفسي ما هو مثير عن أولئك الذين لا يجدون ثمن الدواء بل وأولئك الذين لا ينفعهم أيّ دواء .
ومن تعقيبات ولدي المراهق على حالتي وبالأخص عندما يؤثر ذلك على نوعية الأكل الذي أعده لهم وهو يختلف برداءته عن طبخي الجيد المعتاد.. : .. أنت يا أمي هكذا تستسلمين للفكرة ..
فأندهش من ذكائه في الوقت الذي كان والده يرد عليه ..
: .. والدتك أبسط من ذلك ..
ولم أكن أرغب أن أناقش أيّا من والدتي وزوجي وولدي وأياً من حولي ، بأطروحاتهم الفلسفية، وبالأخص لم أكن أرغب أن أصل بالنقاش حول فكرة الاستسلام من كوني عاجزة ومن فكرة البساطة اني جاهلة، وحملتهم على المعنى الايجابي الذي كنت أشعر به في داخلي من طبيعتي التي تتعامل مع الأشياء وتصرفات الآخرين، وان كنت أصِل أحيانا في الاعياء الى درجة الموت لتخاطبني طبيبتي..
: .. كم انت حساسة يا ابنتي دعي الخلق للخالق ..
وفي خضم انقطاعي أحيانا عن الناس والأهل والأقارب والأحبة بما يشبه الاعتكاف، كنت على قدر من تحمل النقد الذي يصلني من هنا وهناك أو ما نصفه دينيا..
: .. انها معتدّة بنفسها ..
فتعثرت بباب الأسواق، ولم يخلو يوم اِلا تعثرت لأنني أعيش عالما آخرا، يفرضه أي حدث يمر عليّ كما سببه قبل لحظات ذلك المسكين.
فأنعشني للحظات نسيم السوق مرطبا مشاعري الثائرة قبل أن يبرد وجنتي، فتنفسته كله لأبصر ألوان السوق من السلع.
فاصطدمت بي طفلة وهي تحاول أن تبدو مسيطرة، فابتعدت عني بهدوء وهي تراقبني وكأنها تخشى شيئا، وما ان رأتني انشغلت عنها بالسلع، اهتمت هي الأخرى على مقربة مني بمأكولات الأطفال من جبس وعصير وهي تتحسس الأشياء برقة، أدهشتني بذلك دون ان تلمسها .
اِن تحسسها من عدم لمسها للسلع أوقع في نفسي صدمة، وبالأخص عندما توجهت الى النظر الى المأكولات، ولكن هذه المرة تتلمسها وسرعان ما اتجهت الى جهة ما ذبل من الأكل وهي الجهة المهملة من السوق، وبهذه الاختيارات منها أثارت فضولي لأقترب منها بعد ان لمحت في عينيها نوعا من الخشية مني ..
فسألتها: لماذا هذا الذابل من الأكل ؟ ..
فردّت ببسمة واطمئنان هذه المرة: لأنها أرخص ..
فسألتها : هل تريدين أساعدك بان تشترين الأفضل .. ؟ ..
فردّت وهي تنظر لي بعمق ..
: .. كلا لأني أشتريها للحيوانات التي تملأ بيتنا ..
لا أعرف لماذا شعرت بانها تكذب، وحملني عنادها بانها على ثقة بنفسها، ووجدت اِذا ما أصررت عليها سأيأس من النتيجة بسبب تلك الثقة لديها.
أحيانا علينا لاسعاد الآخرين ان نتركهم بحالهم ولا نفرض عليهم اِننا نضحي من أجلهم، لأنه سوف لا يعتبرون ذلك تضحية من أجل آلامهم بل منة على حساب كرامتهم .
على رغم رقة قلبي عليها تخليت عن موقف مساعدتها دون أن أعاند معها خشية مسّ كرامتها التي تذوب في شقاوة طفلة تعبر عن شقائها بعزة نفسها التي تجذب نفسي الى نفسها المرحة وكأنها قد تجاوزت عمرها الطبيعي كي تغطي على تعاستها في نضج بريء لطفلة سوف لا تعيش حتى مراهقة الفتيات وهي محتاجة للحنان والرقة.
فهمَمْت لأشتري عصيرا، وتناولت اثنان من الثلاجة المجاورة وحولت احداها اليها..
فخاطبتها: أعتقد أنت مثلي عطشانة في هذا القيض من الصيف .. ؟ ..
فردت بخجل: شكرا ان الجو هنا بارد ..
فادركت تبريرها، تحركت باستجابة طبيعية بحنان نحوها وارتحت كونه كان ردّ فعل لا ارادي انساني ..
فقلت: لا يردّ الكريم الا البخيل ليس هذا من شيم العرب ..
فاطرقت خجلة وأخذت العصير ووقفت للحظات، وكأنها تفكر بأمر يمنعها من الشرب، مطرقة بفكر بعيد ومحملة بهموم لا تطاق من الدنيا، فالتفتت نحوي ..
قائلة: هل يمكن أن أبقيه في كيسي وأتناوله فيما بعد .. ؟ ..
أخرستني بكلمتها التي لامست قلبي وقد ترنمت أوتاره بنغمة آه، خنقتها بصدري، وحاولت اِخفاء دمعتي لأني عرفت انها لا تتحمل شربه، وهناك من ينتظرها ولم يتناول مثل هذا العصير، فابديت لها ابتسامة حنونة ..
ورددت عليها: انه الآن عصيرك وأنت حرة معه في أي وقت تتناولينه ..
قد تنفسْت الصُّعداء، وان كان الوضع أكثر تعقيدا.
طالما كانت آلام الآخرين تحفيزا لانتصارنا على آلامنا، ففي تلك اللحظة استكشفت معنى لحواري الذاتي بمشاركة طفلة جميلة مثلها.
أحببت أن التقطها وأدخلها الحمام وألبسها أجمل الملابس وأنظفها، ولم أعرف ما الذي كان يمنعني من ذلك وكأني أخرج من غيبوبة مزمنة كنت أكابد فيها ما أعانيه، فاشحت بوجهي كي لا تلمح دمعتي خشية من انها تعتقد ذلك اشفاقا عليها، ولكن العَبْرة تتزحلق على وجنتي ..
فخاطبتها : خذي رقم هاتفي هذا ..
فترددت وقالت: .. لِما .. ؟ ..
أخذني الحياءُ منها على رغم ما شعرت به من نشوة اللقاء ببراءتها والاصرار لمشاركتها الشقاء في تلك اللحظة ..
فقلت لها : نتصل ببعضنا .. اصبحنا أصدقاء .. وبات بيننا ماء وملح ..
أطرقت وردت بابتسامة امتلكت خاطري بوجهها الطفولي وبراءتها المرحة وعباراتها الواعية التي اندهشت منها ..
: ماء وملح .. انه أيضا عصير وشكر .. أشكرك..
ابتعدت عني بخطوات وئيدة، وبالالتفاتات الشكر مطرقة الى أرضية السوق وكأنها ترغب بطفرة الى السماء لتعبر عن فرحتها المكبوتة تجاه موقف ربما لم تعشه منذ زمن، والتفتتْ آخر مرة وهي تضع اصبعها على شفتيها فقبلته وأرسلته نحوي، ووجهها متهلهل ببسمة أمل وقوة وبنفس امتلأت بالتحدي، وأبقتني غارقة بدموعي الصامتة تجعلني أن أراقبها في كل طفلة مترفهة وان أجدها على كل مائدة مملؤة، أملا أن تتصل بي يوما ما لكي نكون أصدقاء الى آخر العمر .
 

 

free web counter