آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الجمعة 5 /8/ 2005

 

 

 

شئ ..شئ

 

سميرة المانع

البائعة الهندية مع زوجها في مخزن خانبهادر للصحف والقرطاسية، الذي يملكانه بلندن، يجدان الفرصة كي يمزحا ويتلاطفا مع زبائنهما من ذوي الشعور الشقر والبشرة البيضاء. لنكن صريحين هنا، فنذكر للدقة أنهما نادراً ما يعبآن بغيرهما من الأجناس الأخرى عندما تدخل مخزنهما للشراء، بل العكس هو الصحيح. يظهر هذا، وبلا شعور، واضحاً على محياهما. بالتأكيد أنهما لا يقصدان أذىً ولا خطر منهما تجاهها ، فالمعروف عن الهنود أنهم قوم مسالمون هادئون عموما، لكن الغيمة السوداء، التي تكتسح محياهما،وتحتها لباس الجد والتجهم، لا يمكن السيطرة عليها من قبلهما ولا أن تتجاهلها لمياء  في نفس الوقت، إنها شيء خارج عن الإرادة، اوتوماتيكي. لماذا هذا الاعتقاد ؟  شئ تحس به لا أكثر. كم ودّت لو تغير الأمر قليلا، خصوصا  عندما  تسمع لمياء ، البائعةَ الهنديةَ منسجمة بالحديث والدعابة مع أحد الزبائن المفضلين لديها أثناء دخولها هي للمخزن. تتسمع للحوار والملاطفة عندما تكون على أشدّها بين هذا وذاك. تحاول التقدم قليلا للمشاركة، تتردد ، خائفة من أن تُرْفض بشكل ما. هناك دائما هاجس من يقول لها: إلزمي مكانك ، أنتِ مختلفة لا تشبهيننا ، لا تفهمين ماذا يقال وكيف يفكر الآخرون. المزاح والنكتة جزء من هذا الذي لا تفهمينه. تقف في نكوص وكأن البائعة الهندية تدفعها عنهم  برفق ممزوج بالحزم واليقظة. قفي بعيداً . خذي حاجتك وامشي بعد دفع النقود. هل هناك مبالغة في تصويرها ؟ لا تعتقد. هناك دائما، إحساس أن الهندية تشك فيها وفي إخلاصها في التعامل معهم . المهم ، اشترت صحيفتها ذلك النهار من المخزن  منهمكة في قراءة العناوين على الصفحة الأولى بعد دفع الحساب .

سارت في الطريق العام  ناسية الأمر ، قبل أن تصادفها جارتها الافغانية التي جاءتْ كلاجئة إلى بريطانيا قبل بضع سنوات أثناء حكم طالبان. رأتها تسير في الشارع منكسة الرأس ، تتحاشى الآحتكاك بالعالم الخارجي حولها. ثيابها داكنة متدلية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. اقتربتا أكثر من بعضهما أثناء السير ، سائرتين في نفس الاتجاه . دار حوار صامت فيما بينهما ، فيه لغط وضجيج واتهام. مغزاه العميق ، أنّ الافغانية تؤنب لمياء  بفزع: أين فوطة رأسك؟  أين الحجاب؟ لماذا تخلفتِ عنا؟ عندما رفعت الافغانية رأسها للسلام عليها، مضطرة ، كان تقاطيع وجهها معنكشة بما فيه الكفاية، غير مرتاحة من وجودها بوضوح. ما معنى أن تكوني مسلمة ولا تختفين تحت الحجاب، ها.  تسيران على هوادة ، قبل أن تغير الافغانية رأيها، فجأة ،  لديها مانع. تريد أن تبتعد عنها،  مستنكفة. أسرعتْ أمام لمياء تخبّ تحت سياج حديقة أحد البيوت المجاورة. إذهبي  أنت وشكوكك والتعقيدات ،  ابتعدي عني. وجودك وعدمه  بالنسبة لي سواء.  صارت تتمعن في الافغانية  بوضوح بعد أن صارت متقدمة، تلبس على جسدها، كل شيء ممكن أن يخفيه أو يساعدها كي تظهر أنوثتها كامرأة.  هناك شئ طويل جدّاً يهبهب، لا  هو  بالتنورة ولا بالسروال، يضيّع معالم  تفصيل أعضاء بدنها  غير عابئة بما يعلق  بها من أوساخ من عظم احتكاكها بإسفلت الطريق المبتل بسبب مطر ليلة أمس. لا زالت مستاءة  عجلة في خطواتها، كون العربية التي تسير خلفها كسرت نظامها الدقيق  في الوصول للشرف والفضيلة. ابتعدت عن العفة حتماً، فضيحة تشغل جلّ تفكيرها، لا تتوانى عن سردها  دوما  أمام زوجها وأولادها أثناء الغداء. فرصة ذهبية ثمينة للقيل والقال، يتلهون بمساوئ الخطاة من الجيران. الزوج يأكل بشهية مهماً، مشاركاً  زوجته الاستياء ، مهملاً كونه ينعم بلباس أوربي  على الآخر،  قبعة من الجوخ لاتقاء برد الشتاء اللندني. يغتابان جارتهما العربية بحماس وكأنهما يريدان إنقاذها من الغرق ، لكنهما يتجنبان  التطرق لمبانٍ لا زالت حية بأذهانهم، اجتثت من أساسها في عاصمتهم بافغانستان  عندما فروا منها للبلاد الأوربية كلاجئين، كيف صار البلد جثة متمرغة بالتراب يدب عليها أمثالهم باسمالهم البالية تائهين بلا مكان آنذاك.  على الرغم من ذلك همهم الوحيد  على ما يبدو  في الماضي والحاضر جعل النساء كالأكياس، لا فرق بين واحدة وأخرى. لاكتساب مزيد من الحسنات يوم الحساب في رأيهما. الرجل مصمم على ذلك والمرأة تتبع وصاياه كي تدفع الثمن، متمسكة بالفكرة كصندوق ادخار للنقود من أجل المستقبل.  اليوم وجدوا ملاذا آمنا مريحا لهم ببريطانيا، يغضون الطرف فيه عن دين الشعب الذي آواهم، لكنهما زيادة بالحيطة وحباً بالأوطان الأصلية، تعلقوا  بحجاب المرأة كنيشان يفتخران به كي يبرز على مرأى من الجميع .

قبل أن تـنـزعج الافغانية منها فتكيد لها  كي تفوز باستحسان زوجها من أجل الحسنة، تعرفت عليها لأول مرة بادئ ذي بدء في الطريق نفسه أيضاً. فهمت منها أنهما يعيشان اليوم في نفس الشارع.  فرا من إفغانستان لصعوبة العيش . وللتنبيه والاستذكار وللبرهنة على حلاوة لقائهما من حيث كونهما صارتا جارتين، دار الحوار التالي قبل وصولهما إلى محل بائع اللحم، بدأته الأفغانية مرتاحة:

ـ  قيل لنا يسكن في هذا الشارع مسلمون.

ـ  نعم ، نسكن هنا منذ زمن طويل. التسوق في هذه المنطقة سهل، كل شيء متوفر بيسر  في المخازن القريبة منا، حتى اللحم.

ـ  نحن لا نشتري من بائع اللحم المحلي. يجلب لنا زوجي لحماً حلالاً من المخزن الباكستاني.

ـ  وهل تأكلون هامبركر، فيه لحم خـنـزير كما تعرفين؟

ـ  زوجي  وأولادي يأكلونه، لا آكله أنا فهو ليس باللحم الحلال.

ـ  وزوجك مسموح له بأكله؟!

ـ  طبعاً هو رجل.

 تفارقا في اللقاء الأول  قبل وصولها إلى بيتها وقد كشفت المستور.لم تكترث لمياء  بعدها لمعرفة اسمها أو  تفكر في دعوتها لزيارتها في بيتها الذي يبعد عنهم بضع خطوات كما هي عادة الضيافة للجيران الجدد في التقاليد الشرقية. إذهبي مع ألف وداع وللأبد، لا فارقتك الطاعة العمياء. بعدها  صارت الأفغانية مستاءة منها لأسبابها الخاصة. الذنب ليس ذنبها.