موقع الناس     http://al-nnas.com/

قصة قصيرة

 الوداع الاول

بلقيس الربيعي

السبت 3/6/ 2006

كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر حين رن جرس الباب , ولم تمضي فترة قصيرة كان هناك طرقا على الباب . فزعت امل لأن طرق الابواب لا يعني لها سوى رجالات الامن .نظرت من فتحة صغيرة من خلف الستارة , فرأت سيارة فولكس فاكن بلزن ازرق سمائي و شخص سمين قصير يسير جيئة وذهابا يحملق في الباب . حاولت ان تبدو غير مبالية وفتحت الباب .
- اريد التحدث الى الدكتور .
- آسفة انه غير موجود .
- اتعرفين متى سيعود ؟
بعد ساعتين ,ثلاثة لا اكثر .
غادرها واغلقت الباب . اقتربت من زوجها ولم يكن وجهها يوحي بشئ سوى الخوف عليه .

- عليك ان تغادر الان .
هز احمد رأسه رافضا .
- ليس الان ولكن بعد نصف ساعة , فمن المتوقع ان يكونوا منتظرين ..ولربما سيعودوا ثانية.
ارتدى احمد ملابسه على الفور ,تناول بعض الاوراق وجواز سفره وغادر المدينة دون ان يلمحه احد متوجها الى مسقط رأسه . تعاظمت المخاوف داخل امل , .إرتدت هي الاخرى ملابسها والبست طفليها وغادرت بعده. لم يخطر ببالها بأنها ستلحق الباص الذي استقله زوجها. صعدت الى الباص ولم تقع عينيها على زوجها الذي كان يجلس في احد المقاعد الخلفية من الباص . لكزتها ابنتها التي لم تتجاوزالخامسة من العمر وقالت بصوت خفيض :
- ماما انظري ..بابا يجلس في الخلف .
همست امها في اذنها قائلة : حبيبتي لا تتكلمي ولا تنطقي كلمة بابا ولا تنظري بإتجاهه.
احتلت امل مكانا ستراتيجيا في الباص يسمح لها برؤية احمد دون ان تثير انتباه الاخرين . وفي مدينته ترجلا من الباص وسار كل منهما بإتجاه وكأنما لا يعرف احدهما الاخر. ذهبت امل مع طفليها الى بيت اهله تنتظر عودته .وحين قاربت الساعة العاشرة عاد احمد ,استلقى بجانبها على السرير وراح يحدثها عن القرار الذي توصل اليه وهو مغادرة الوطن .لم تنم امل في تلك الليلة ولم يغمض لها جفن .. انه سيغادر صباح اليوم التالي. القت برأسها على كتفه ولفته بذراعها وكانت تهمس ببعض الكلمات , كانت كلمات ضيق , وداع , كلمات جسد يأبى الانفصال .. احتضنها .. قبلها وقال : حبيبتي انا هنا بجانبك سنضطر الى الفراق لفترة قصيرة لكن سنلتقي . ستبقين وحدك في قلبي الى ان تحين منيتي .
- سأنتظرك ولا تقلق علينا . كنت ولاتزال سدرة بظهاري الصيف تجويني الشمس واكعد بسدك . لكن كن حذرا وهل جواز السفر بحوزتك؟
- نعم لا تقلقي بشأنه , ولا ترهقي نفسك في وضعي .
كان الوقت باكرا في الصباح والشوارع مقفرة , ومصاريع النوافذ ما برحت مغلقة حين ودعها احمد على ان يلتقيها في بغداد. حاولت امل طويلا ايقاف عقلها عن التفكير ,لكن دون طائل. رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالمدرسة التي تعمل فيها لتمديد إجازتها , تعللت بالمرض واستقر رأيها ان لا تخبر احدا عن سفره وراحت تحيك في خيالها قصة تستطيع ان تقنع العاملين مع زوجها سبب تأخره عن الدوام .
التقته بعد يومين لفترة قصيرة.
- احضرت لك بعض ملابسك وبعض المال وقد اقترضته من الاصدقاء وسأعيده لهم حين استلم القرض.
- لكن انت تحتاجين اليه لتكملة بناء البيت .
- لا تقلق سأتدبر امري .
- ما كمية المال الذي احضرتيه ؟
نظرت اليه نظرة سريعة وقالت :
- كمية ليست بالقليلة , تكفي احتياجاتك في الغربة لحين تستقر امورك .
انا الان اشعر بطمأنينة وتفاؤل وثقة بمستقبلي , فإليك يا حبيبتي احني رأسي إكبارا لوفائك واخلاصك لحبنا ولمبادئنا السامية .
سارا بصمت جنبا الى جنب . اصبحت امل كتلة من الخوف لكنها تمالكت نفسها لتحمل الوداع .اخذ قلبها ينبض بقوة واحست بأنها تسمع دقاته وبأن من حولها يستطيع ان يسمعه . تركها احمد دون التفوه بكلمة . تأملها وهي تعبر الشارع الى موقف الباص دون ان تلتفت الى الوراء .وقفت في موقف الباص وظل هو واقفا في مكانه ينظر اليها بعيون شاردة . استدارت اليه لكنها لم تستطع رفع ذراعها لتودعه لربما يوجد من يراقبهما.تحركت شفتاها وهي تنظر اليه ولكن لم يصدر عنها صوت,آه يا إلهي يشعر الانسان المطارد والراضخ تحت جبروت الخوف بأن اعين الناس جميعها متجهة اليه.
استقلت امل الباص المتوجه الى محطة القطار وغادر احمد الى احد الفنادق القريبة .
غادرها دون إختيار منه ,لكن صورته لم تغب عن مخيلتها ..كانت تراه في كل شئ حولها,،انت في حدقة العين يعترض خيالك كل ما أراه ,ترسم حدود الاشياء وكل العالم الذي يحيطني وانت في الذاكرة حيث صدى روحي ، ولم تفعل الغربة إلا زادته حبا واخلاصا لها ومن الغربة كتب لها يقول’يقولون لي هذه نساء صوفيا الجميلات امامك ,فما بالك لا تتخذ منهن واحدة صديقة او عشيقة ضحكت منهم ..ولا اشعر بأني صرخت بهم كأن شئ ينتفض في داخلي كيف ؟..كيف ؟ ...انكم لا تعرفون بأني تركت إمرأة في بلدي لا يمكن لنساء الارض قاطبة وإن اجتمعن أن يملأن فراغا تركته اويستملن قلبا عشقها وما عرف غيرها .