آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء 26 /7/ 2005

 

 

 

الريبة أولاً
 


سميرة المانع

علا صوت المرأة المتنافسة المتخاصمة : " دعوني أدخل على الطبيب ، أنا مستعجلة، عندي طفل وورائي طبخ بالبيت ".
 أطلّ رأس مساعدة الممرضة من باب الغرفة المجاورة. ظهر وجهها ملفوفاً بفوطة سوداء متلفعاً بها. رأت النسوة مكتظات في قاعة الانتظار بالعيادة الطبية، متكالبات على الوقوف قريباً من باب غرفة الطبيب المختص في الأمراض النسائية. كل واحدة تريد المكان المتقدم لنفسها، دون رعاية للأولوية في نظام الطابور حين تقف الواحدة وراء الأخرى. حدقت المساعدة مليّاً بهن، ثم استهدفت نظرتها المرأة المتصايحة طمعاً في الوصول إلى باب غرفة الطبيب بأسرع وقت ممكن. اقتنعت على الفور أنها محتالة تكذب كي تصل إلى غايتها . أنبتها بصوت متحشرج أجش، شوهت عادة التدخين المزمنة أوتاره ، متسائلة : " أريد أن أعرف من فيكنّ المستعجلة؟!"                                                                   
رفعت المرأة المتقدمة ، غصباً، عينيها لها، تغالب في دفع عنقها للأمام مستمرة كي لا تتأخر. في تلك اللحظة، سمعت منها مالا يسرّها:
" ها ، عرفتكِ، أنتِ إذن المستعجلة الآن ، أريد أن أراكِ جيدا ، عرفتكِ ، عندما كنتِ تقفين في طابور مخزن ( اورزدي باك ) للتبضع بالسفاسف لم تكوني مستعجلة. كنتِ راضية, ها ! بل متسلية ، الرجال أمامك وخَلفك ، كنتِ مرتاحة حينها "
ساد صمت عميق بين جموع النساء المضوضئات. خَفتَ اللغط فجأة. انتبهن بسرعة. ا لتفتنَ للمرأة المستعجلة كي يتفرجنَ عليها. أفاقت الأخيرة ، بحنق وعصبية من غيبوبة التدافع عنوة. ارادت أن ترد الصاع صاعين على التهمة الموجهة لها، مستعدة، بدورها للمهاجمة  " ابتعدي عني ، ابتعدي ، أنا أيضا أعرفكِ، كفي عني ( بربوك)* ".
اشتعل السباب العنيف بين المرأتين ووقفتْ حركة المرور بين النساء المتدافعات. شغل المنظر أمامهن أذهانهن كشاشة سينمائية مسلّية ِ. كان الطبيب داخل غرفته يتصنّت، بصمت، مدهوشاً أيضا. استغرب من تطور المعركة في الخارج. بدأ يشعر أن الوقت قد حان كي يقوم من مقعده ويفض النـزاع ا لشخصي لدائر. بدتْ المسألة له ، في كل الأحوال واضحة، معركة بين امرأ تين، الواحدة تعرف الأخرى جيدا.     
*******
في إحدى السيارات الخصوصية الصغيرة المارقة في شوارع مدينة بغداد، بداية شهر حزيران ، كانت السائقة تطمئن وتخفف من قلق صديقتها المدرّسة الجالسة قربها في المقعد الأمامي. خرجتا معا ، قبل قليل، من عيادة الطبيب الإخصائي، المكتظة بالمراجعات ذلك الصباح، نافضتين أيديهما من محاولة الوصول إليه أو لقائه من أجل الفحص والحصول على تقرير طبي . اقترحت عليها، وهي تسوق، متفادية الازدحام وحركة المرور، أن ما دامت لديها رغبة في السفر إلى الخارج عما قريب، فمن الأفضل ، باعتقادها، مراجعة طبيب اخصائي هناك. ردت الزميلة العارفة، بحكم وظيفتها، بقوانين وزارة التربية والتعليم، أن الموافقة على السفر والخروج من العراق بالنسبة لهيئة التدريس، قبل انقضاء شهر حزيران ، أمر صعب، ولابدّ من الانتظار، كما تنص الأوامر، حتى ينتهي الشهر كله، حرصا وحيطة من الوزارة كي لا تحصل مشاكل قبل نتائج الامتحانات النهائية. استمر الحديث بين الصديقتين، بين أخذ وردّ، إلى أن قررتا ، في نهاية الحوار، أن تتوجها بالسيارة الآن معا إلى الوزارة من أجل تقديم عريضة طلب سفر مفاجئ مبكر خوفا من أن تتردى صحة الصديقة أكثر ثم أكثر.
*****
احتقن ساخناً وجه موظف الإدارة في وزارة التربية والتعليم، بعد أن قرأ العريضة وفهم مضمونها. اشتد انزعاجه وبات انفعاله واضحا من الفكرة المطروحة فيها. لا يمكن برأيه وضع ختم دائرته على طلب إجازة سفر للمدرسين قبل موعدها ، بكل الظروف والأحوال.
 شخط على الورقة بكلمة( ممنوع ) التي يحبها، بسرور الظالم الذي نُصب في السلطة ، غفلة ، لكي يُعاقب ويؤذي الناس. قرّ قراره أن ينهي الموضوع باشمئزاز، مضيفاً :
- لا يُمكن أن تُمنح الإجازة المبكرة للمدرّسين مهما كانت الأسباب؟ ما معنى هذا الاستعجال؟
 -محتاجة للسفر كضرورة ماسة بسبب الصحة. سأجلب لك تقريرا طبياً قريبا.
 - ما الفرق بين حزيران وتموز! مااختلافك عن بقية المدرسات اللواتي يصبرن حتى يحين موعد انفكاكهن النهائي؟ سوف تسافرين وتسرحين وتمرحين، تفعلين في الخارج ما تشائين، آنذاك، تلبسين ما يحلو لك.
قال العبارة الأخيرة مختلساً النظر إلى زنود رفيقتها الواقفة قربها.                                                         
 - أُريد السفر الآن، وبأسرع وقت ممكن . رجاء ، لدي ظروف خاصة اضطرارية ( لم تقل له أن بها مرضا نسائيا تخشى أن يكون خبيثاً ) وليس هناك دوام في المدارس، لقد أُغلقت أبوابها منذ مدة. نحن كمدّرسين ، موجودون في بيوتنا عاطلون، كما تعلم.
- أنتم موجودون في بيوتكم للاحتياط . لا داعي لتغيير القانون من أجل السماح لامرأة مثلكِ بالسفر. لا داعي لإلحاحك ومناقشتك العقيمة، لدي مسائل مهمة أريد إنجازها.
أدار وجهه  عنها يسلمها عريضتها مستنكفاً.
 أمسكتْ المدّرسة الورقة وهي تغلي من شدة الإهانة والندم على فكرة القدوم إليه من أجل المساعدة. نظرت إلى رفيقتها حزينة يائسة من النتائج. سارتا باتجاه موقف السيارة حيث تركتاها مركونة في الموقف العام. كانت السيارة عونا في التغلب على صعوبة المواصلات ، بينما الحر ببغداد بات يهدد بجمراته. استمرتا في السير صامتتين ، وقد فهمت كلتاهما أن لا جدوى من الكلام. كانت رفيقتها سائقة السيارة تلبس ثوبا صيفياً أخضر اختارته بأكمام قصيرة لشدة الحرارة. دخلتا السيارة ، أخيراً ، وبدأتا في الحديث. شرعتا تتذمران وتصفان ما لقياه من عنت وسوء معاملة من ذاك الموظف المنـزعج الغاضب لسبب ما. قالت السائقة:       
- لم يبق عليه إلا أن يضربنا بالعصى. تصوري الذي يصيبنا.
-  من الممكن تسجيل سنوات أعمارنا و بعدها نُضيف كلمة ( الذل). فمثلا نقول: 30 سنة ذلاً أو 50 سنة ذلاً وهكذا..... بدلا من أن نضع السنة الميلادية أو الهجرية.
ضحكت الأخرى بمرارة. الشوارع تكنسها السيارات المهرولة. البشر السائرون يبتعدون عن اشعة الشمس اللاهبة كالهاربين من شئ يطاردهم.   
  - أتصور لو كان لدى هذا الشخص مسدس ، ولم يخف من العقاب، لأطلق النار علينا. أظنه سيستريح آنذاك!
- أعرف. شئ محّير. لكن لماذا يكرهنا لهذه الدرجة ؟! ما السبب الذي يجعل مثل هذا الإنسان يعاملنا بمثل هذا السلوك العدواني الفظ.
- بتصوري ، رأى ثوبك الحريري الأخضر من دون أكمام فجنّ من الغيظ، يا عيني. هذا كل ما كان يدور بطاسة دماغه في تلك اللحظة. تحولت مشكلتي التي أملتُ منه حلها وإيجاد مخرج ، إلى لغز من الألغاز المبهمة الصعبة. توقف تفكيره وشلّ. صار جامدا تماماً . تملكه هاجس واحد مسيطر ألا هو الخوف من ذراعيك المكشوفتين. الريبة طغتْ عليه والشك القاتل.
 -   هذا مريض، في حاجة لعلاج نفسي.
) - خذ الحكمة من أي وعاء خرجت) ، هذا ما شعرت به اليوم. أتصوره يكره الحياة كلها ، على ما أظن ، لا يبالي بموته أو بموت من حوله من شدة الحقد .
-  عجيب! أحقا هذا ؟!
  - يا امرأة، عليك مسؤولية ضخمة اليوم. ساعدي أخاك يا أختي على تجنب الرذيلة واختيار العفة والفضيلة عن طريق تضحيتك بالعودة رأسا إلى القرون المظلمة الوسطى. المسؤولية تقع عليكِ وحدك. حذارِ، حذارِ ، أن تلبسي ما تحبينه من ملبس ، أو ما يعجبك أنتِ.
- أأتحمل العبء وحدي؟! يا للمحنة، أين العدالة ؟ ألا يلبس هو نفسه ما يعجبه حالياً! قميصاً ملوناً جذاباً مفتوح الصدر قصير الأكمام، ولا مَن يصده أو يُنهي .
 -   طبعا، لا يهم. لكن عليكِ أنتِ تحمل القيظ كامرأة ، من دون تذمر أو شكوى. والأفضل لو تتدثرين بالأغطية من الرأس إلى القدم. كل هذا من أجل مساعدته كي يكون عفيفاً. المسألة شئ يخصك وحدك في المحافظة على عفته الهشة السريعة العطب والمعرضة للتكسر. هذا ما أراه يجري أمامي ، في هذه الأيام. للأسف.
 على أية حال، سأبعث أخي للمكان نفسه، غداً، وسيفلح، في الأغلب، كي يحصل على التوقيع المطلوب بالعريضة من صاحب العزة والفخامة والسعادة، وإلا لن يسمح لي بالسفر، رحمةً، حتى لو رأى الدم يجري بين ركبتي.
فطنت أثناء استغراقها في الحوار أن صديقتها السائقة تنحرف بالسير متجنبة شارعا معروفا، من المفروض اختراقه أو المرور به كي تصلا إلى البيت:
-  لماذا لم تمري في شارع " أم المؤمنين " ؟ كان اسهل علينا السير به للوصول.
-  ابتعدت عنه يُقال أنه مستهدف من قبل البعض لرمي القنابل والمتفجرات . فيه الكثير من الابنية الحكومية والمتاجر والمقاهي يؤمها الرجال والنساء.
-   وهم متنبهون بالطبع لمراقبة المرأة التي تكشف عن شعرها ولا تلبس الحجاب.
-  أحسنتِ، عزاء وسخام.
-  يقال إنها حملة لإصلاح الأوضاع. يبدأون بالمرأة كما تعرفين عندنا قبل أن يفكروا في محاربة الفساد . على حد قول المثل : ( أبوي لا يقدر إلا على أمي) !
-   تمام. بودي لو أعرف ما هو سبب هذا السر العظيم في الاهتمام بالشَّعر؟ لماذا يظنونه علامة فارقة للاغواء ؟ ماذا عن التقاطيع الأخرى ؟ العيون المكحلة أو الشفاه بالأحمر مثلا ؟!
- لستُ أدري ، هذا من سوء حظ المرأة ، لتصبح بعد فترة وجيزة صلعاء. شاهدتُ إحداهن بعد استعمالها للحجاب لمدة سنوات ، وإذا بجلدة رأسها تظهر تدريجيا، شعرها يتساقط كقشرة الرمان، لا حياة به، يابساً رويدا رويدا.
- بالتأكيد . حتى الشعر يحب الحرية، يريد يستنشق الأوكسجين .
المرأتان تخترقان أزقة خلفية غير معبدة أو مألوفة لديهما ، مملوءة بأكوام النفايات. رمتها ربات البيوت خارج مساكنهن وكأن الأمر قد انتهيـن منه. صمتتا وهما تتحدثان مع نفسيهما. الواحدة لا تُطلع الأخرى على ما يدور في خلدها. المدرّسة لا تدري ما هو مرضها . من الممكن أن لا يكون الورم خبيثاً فتنجو. موتها قد لا يكون وشيكا . على أية حال، وبكل الاوضاع، الحياة بالنسبة لها، ليست زاهية لتقلق . الأخرى تفكر في الأشياء الممنوعة والمحرمة عليها أثناء صيف حرّ بغداد لدرجة لا تستطيع أن تلبس أكماما قصيرة . فجأة ، صارت ترى الموت والحياة سواء . أثناء ذلك، في صمت،بعد ثوان ، تساءلت متعجبة من نفسها ، لماذا حاولت أن تتجنب الشارع خوفاً من القنابل والمتفجرات.
*****

* " بربوك" كلمة أجنبية عامية عراقية بمعنى الجرة المكسورة التي لا تغرق بالماء ويعنون بها الساقطة.