آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                    السبت 25/6/ 2011

 

خارطــة حــــزن

رائدة جرجيس

بدأت الأرض تراقص أقدامه على أنغام أغنية (راح للبصرة ونسانا) وهو يلوح لأصدقائه وزوجته ببطاقة سفره إلى العراق والبصرة المعطاء بلد السباب والنخيل بلد العشار وشط العرب  .

البصرة التي غادرها عام 1991 يافعا إلى مخيم رفحاء في السعودية مخيم الأسى والفراق هربا من جلاد حكم أراق دمه صبيا لاعتبارات طائفية أحيانا وسياسة ووهمية أحيانا اخرى .

أخذت الأفكار تقلب مواجعه شوقا وحيرة كيف سيلاقي والديه الكهلين وكيف سيقبل يديهما شكرا وطاعة , كيف سيأخذ إخوته الثلاثة بين طيات قلبه ويشم أخته الوحيدة وكيف مرّ قطار عمره محملا بالأسى والفراق..
ارتقى طائرته إلى العراق من أمريكا في  شهر أيلول من عام 2009 , وصل مطار البصرة ، ومن لحظة وصوله عجن دموعه بتراب بلدته وملاعب صباه، في قاعة المطار رأى أخاه ووالديه ينتظرانه اخذ والديه إلى حضنه وغسل أكتافهما بحر دموع الشوق والغربة وكان فرحا بضم أخاه وأخته الشابة التي تركها مع محطتها الأولى في قطار العمر .

طوال الطريق إلى قضاء المديْنة كان مسجل السيارة والعائلة يرددون معا ("مركب هوانا من البصرة جانا)" وصلوا المنزل , قبل باحته حيث أول خطوة خطاها وأول حرف نطق به وأول حب لابنة الجار ، سأل عن أخيه الأصغر فقالت له أمه انه في البصرة لبعض الأعمال .

كانت صينية المسموطة * في انتظاره خبز التنور الشهي الذي افتقده في سنوات ضياعه وتشرده بين الدول . بعد كاس الشاي المهيل سحب حقيبته وبدأ بتوزيع الهدايا على عائلته وترك ما جلبه من هدايا لأخيه الأصغر في الحقيبة أحس بشيء غريب وحزين في داخله  .

قال في سره ربما انه تعب الطريق.. قال له والده غدا صباحا سنذهب لزيارة قبر عمك في النجف فهي الأربعين قفز سؤال إلى ذاكرته ولم يبح به.. لماذا فقط قبر عمي ؟! لماذا لم يذكر أخ؟!وهناك عرف الإجابة عن سؤاله حين سأل عن قبر أخيه و خيم صمت اسود لف المقبرة بمزيد من الدموع  .
فقال أبوه :
لقد أًختطفه إرهابيون و بعد تجهيزنا الفدية وقبل تسليمها لهم اتصل بنا احد الحراس من جوال أخيك وقال لقد قتلوه لا تدفعوا لهم وحين اتصلوا بنا لتسليم الفدية طلبنا أن نسمع صوته مرة اخرى إلا إنهم رفضوا ذلك ولم يرن بعدها جواله و لم نعثر على جثته للان ولم نود أن نخبرك بالحقيقة .. ولأخبرك أيضا إن أخيك الأصغر متهم بجريمة قتل وهو الآن في احد سجون بغداد وسنذهب غدا لزيارته .
قتل؟ وكيف ومن ومتى؟
أجاب الشيخ  :
لقد اتهم بها زورا وبهتانا وحكومة اللصوص والقتلى والخونة أفرجت عن القاتل لقاء مبلغ من المال وهرب إلى خارج القطر وألقت القبض على أخيك الذي كان شاهدا  .
سالت انهار دموعه على وجه الشيخ وامتزجت معا حائرة لتتساقط ورودا ذابلة على ارض المقبرة الثكلى بانكسارات الأحياء  .

تمالك الشيخ بأسه وحزنه بتمثيل رائع وقال :
لقد خلُفت رجالا وأخاك منهم .. وسنذهب غدا لزيارته في بغداد  .

لم ينم ليلتها حيث كانت الأفكار تراوده كيف يسجن بريء ويفرج عن القاتل ولماذا وهل إن المال أصبح كل شي؟ في الصباح الباكر ذهبوا جميعا لزيارة الأخ هناك لم يسمح له بزيارة أخيه حيث أن الزيارة كانت للنساء فقط  .
توسل بهم واخبرهم انه قد اتى من مكان بعيد ولم ير أخيه منذ 1991 وسيعود اليوم للبصرة ، توسل اليهم كي يراه ولو لدقائق معدودة  .
فقال احدهم ضاحكا الشهر القادم الزيارة للرجال تعال الشهر القادم وردد الآخر تعال غدا لأخذ جثته فغدا صباحا سينفذ به حكم الإعدام  .

لم يأخذ الكلام على محمل الجد فكيف يعدم الشاهد وينفذ به حكم الإعدام دون إجراءات سابقة  .

استفهم مجددا من الحارس فاخبره بان يأتي غدا ليستلم جثة أخيه دوت لاااااااااا تقاذفت الدموع شظايا غاصة بالفراق والألم لااااااا ملأت الوجود حزنا . عاد فتوسل وبكى لكن لا حياة ولا حياء لمن تنادي في زمن تيبست عروق القلوب وصارت حجارة صماء بل وأقسى .

قضى ليلته في احد الفنادق وفي الصباح ذهب ليستلم أخاه جثة باردة وضع صوره و هداياه على مقدمة التابوت .

بين زمنين والمشاهد تتهاوى بالشباب المذبوح الفار من عراق مباح إلى أرامل سوداء متشحة بدم الوطن , بين زمنين والرقاب متدلية لخبز بطعم الخوف وموائد السلطة تسقي الأرواح بجرار اليتم والندم لقيامات سلطة ممزقة الرجولة تبتكر الآلام وتأخذ براءة اختراعها أوراقا خضر  .

استلم عزاء أخيه فرقة وألما بلفحة الهجير وحسرة على أبيه الذي لم يحتمل الكارثة فودع بقايا العمر مناديلا تنشف حر دموع أهله وأولاده، لملم حقائب حزنه وهو يردد بعضا مما قاله السياب  :

لكَ الحـَمدُ مهما استطال البـــلاء
ومهمــا استبد الألـم
لكَ الحمدُ إن ٌ الرزايـا عطـــاء
وإنٌ المَصيبــات بعض الكـَـــرَم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السّحر؟ فهل تشكر الأرض قطر المطر

وعاد أدراجه مطعونا بخناجر الأرض والانتماء إلى البلد الذي اختاره له القدر ليودع وطنا لم يتبق من أمنياته إلا خارطة حزن في الذاكرة  .

 

* المسموطة أكلة سمك شعبية اشتهر بها جنوب العراق حيث ينظف السمك ويملح ليجفف في الهواء وبعدها يطبخ

 


 

free web counter