آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 25/4/ 2012

 

أحلام شائكة

نبيل جميل *
nabeelstory@yahoo.com

ثمّة دائما سبب أو فكرة ، وقد يكون حدث عرضي أو مجرد نزوة تقودك دون التفكير إلى القيام بتنفيذ أمر ما. أو اتخاذ قرار، دون إلمام تام بالموضوع أو معرفة مسبقة بالنتائج في الأقل . وبرغم معرفتك أن الخروج عن المألوف كالتزحلق على الجليد سرعان ما يهوي بصاحبه ، إلا انك تحاول أن تنسج من تراكم الصور العالقة في مخيلتك ما يثبت لأناك الحالمة بقاء شيء من الرغبة والتوهج في داخلك ، فتضيء نفسك سعادة غامرة و تشعر بطمأنينة و راحة بال. فيما تتأمل عيناك و على امتداد جهتي الرفوف المثبتة بمحامل الحديد ، صفوف الأضابير و السجلات المرصوفة بشكل مائل ، كأنك تطارد بصمت بقايا نثار حلم قديم ، صعوداً إلى السقف العاري و نزولاً إلى صفّي الدواليب الملاصقة للجدران. ذهابا و إياباً ، من بداية القاعة و حتى النهاية . تتطلع و تستمع لما يتخلل أذنيك من فتحة النافذة القريبة المطلة على الخارج. مركّزاً ناظريك في سكون العتمة ، غارقاً بين نثار ذرات الغبار المتراقصة ، محلقا بهدوء و خفة طائر وسط دوي الصمت ، تحملك أحلام اليقظة ، عبر سلالم ملتوية مفروشة بسجاد داكن ، تؤدي إلى ممرات ضيقة وأخرى واسعة عبقة بطبخات شاي و دخان سجائر، روحاً محطمة مستلبة بشوق عارم لرؤيتها من جديد ، حيث غرفة الإدارة …قسم العلاقات…الطابق الثالث…متمنياً العمل معها ثانية ، حيث بريق الثياب ، عبير الأنفاس ، جمال الوجوه …كما في السابق ، أينما تولي وجهك ثمة نساء . داخل الغرف ، في الممرات.. على السلالم.. في الحمامات.. يتهامسن بغنج كفراشات غضة ، بقلوب دافئة ، ناعمة ، يتأرجحن كفيض مويجات البحر، يتراقصن في السير كإوزّات ، فتهتز أجسادهن طرية لدنة ، بأثواب هفهافة تخفق مثل أجنحة من حرير .

في الخارج . ينهض النهار شعلة متوهجة ، من حياة وأمل ، أشرعة شفافة من حكايات ألف ليلة و ليلة . أشجاراً وارفة ، نباتات ، سيارات ، شوارع مزدحمة ، مقاهٍ وأسواقاً ، الكل في فرح و سرور، يرقص في فوران دائم و حديث لا ينتهي عن الحب و السعادة ، كلمات تَتجدد و تُجدد نفسها ، تخترق الصمت كانفجار بالونات هواء ، استمرارية دائمة لمن يريد الوجود… أكف تتصافح ، أفواه تلثم الخدود، احتفال كبير أو عيد متنقل لوجود حقيقي .

في الداخل .لا معنى لأيّ معنى..هكذا. العتمة وحدها تغلف كل شيء ، النهار بلون الرماد ، لا ضوء لا حركة، ليس من عمل لديك سوى متابعة الأضابير و إزالة الغبار. محامل الحديد في منتصف القاعة و الدواليب لصيقة الجدران ، السقف  تكاد تلمسه الأيدي ، أنسجة العناكب زوايا محكمة ، لا فروقات تذكر ، اليوم مثل الأمس ، الأمس مثل اليوم ، كرسي واحد  يكفي لظهر بلا رتوش ، في هذا القبو المعجون بأغلفة السجلات و أجنحة الصراصير. تنحني أمام المحامل بخشوع ثم تبدأ بالتقبيل ، واحداً.. واحداً ، مثل أشياء مقدّسة ، تختار سجلاً و تضعه على كتفك ، كان يرهقك الاختيار، كأنك تراهن على  شيء عفن يرفضه عقلك ، تشعر بظمأ شديد ،  ثم تمضي …خطوة..خطوتين.. والبقية قد لا تأتي . لا فائدة ترجى من رأس بلا جسد . جسد بلا أطراف ،  أطراف محطّمة. لا فائدة من انتزاع الروح هنا ، فقد انتزعت في الأعلى، لا فائدة.. لا فائدة. إذ بين البهجة و الألم يتحطم العقل ، إنها آخر الأحلام ، تتجول في ذهنك .  كل هذا تثبته في دفترك الصغير ، خلسة و بكل هدوء ، كأنك تخشى أن يراك أحدٌ ما ، تسأل نفسك : أهي النهاية ؟ بينما ينبئوك خدر أطرافك بمرض القلب ، فتخرج علبتك الصغيرة و تضع قرصاً صغيرا تحت لسانك ، تجلس ، تغمض عينيك و تسحب نفساً عميقا ، و ككل فترة ترافق ذوبان القرص تغرق في نشوة لا حدّ  لها تغمرك حدّ النخاع ، تغوص في متاهات خيالك ، تصغي لفوران دمك ، مطلقا لذاكرتك العنان في تذكر ما قالته لك ذات يوم حين أبدت برأيها في موضوع العلاقات الشخصية و كيفية تطورها مع الزمن ، عندما اقترحت تبادل الزيارات و التعرّف على الأهل . كنت تصغي و ترشح بالعرق ، مأخوذا بالدهشة ، كمن يتلقى شفرات حلم ، رعشات محمومة بشذرات هائجة… يختلط فيها كل شيء ، المرئي و المخفي ، الظلمة و النور، البكاء مع الضحك ، تشعر بأنك ملقى في عصر غير عصرك ، ترنو بفزع في سكون الفراغ ، إلى أشياء الأرشيف المغبرة الشاحبة ، المهشّمة ، وقد تطايرت حولها أوراق باهتة مصفرة ، كأشباح باردة تحمل غبرة أكفان متهرئة ، فتحاول أن تنهض ، أن تنطق ، لكن عبثا ، قدماك مشلولتان ، شفتاك من حجر ، تتقلص كفأر مهزوم ، تزحف ببطء سلحفاة نحو بقعة الضوء النازلة من فتحة النافذة ، تتبعك الآلاف من ذرات الغبار ، وأنت كما المشلول بعطن ديدان الأرضة ، تحدق دون حراك ، ليس بوسعك فعل شيء غير التلفت بعينين مغرورقتين ، تخنقك الحركة السريعة لصوت الأقدام المارّة في الأعلى دون انقطاع ، تنصت إليها كصدى تساقط قطرات المطر ، تحلق في فضاء الرصيف المشرّب بوهج النهار، مباغتة ، نشطة ، أو خافتة بطيئة . وكجندي يرفل بالنشاط ، تنهض فجأة ، تزيح كرسيّك إلى أحد الدواليب و تصعد ، تطلّ بوجه هائم من النافذة المشرعة إلى فناء الشركة ، ترنو إلى الأشجار/ أعمدة النور/ كراج السيارات / برج الاتصالات العملاق … تتلفت بنفاد صبر بين وجوه ساطتها الشمس و أخرى بيضاء كالثلج ، بحثاً عنها متوحدا مع أسرارك ، تتذكر ثقل اللحظة حين وقفت أمام مكتب مدير القسم تتلقى أمر النقل إلى وحدة الأرشيف ، أحسست إحساساً غامضا ، انك لعبة تتدحرج تحت الأقدام . لم تبد أي اعتراض حينها أو هذا ما بدا على قسمات وجهك ، ورغم ما في الأمر من قساوة آثرت قدر المستطاع كبح جماح حالة غضب الروح يساورك إحساس مرير بدفع ثمن قاس مقابل سلوك حسن . لكن من رآك تتحنط خارج غرفة مدير القسم لفترة ثم في الممر تجر قدمين حجريتين خمّن كما تبادر إلى ذهنك خطورة الأمر، هكذا فكرت …مختنقا بسؤالك : "عجبا لمَ لمْ يبادرني أحدهم السؤال ؟"

و الآن في جوف القبو ، تتناسخ روحك بمشاعر ملتهبة يقظتها ، فيما يجهد رئتيك استنشاق عفونته . روائح تتسلل ممتزجة بأنفاس من سبقوك ، ستشعر بالإغماء ، تتأوه ، كالغاطس في وحل ، تتخبط في حركاتك وقد انحبس صوتك و ذاب جسدك ، ضجراً ، تحاول أن تطلق بألم ما ترسب في صدرك من ثقل كلمات أسى ، محترقا ترنو إلى العمق المعتم منسحباً بدواليب و محامل انعكست صورها في عينيك شريطاً من تراب ، تمد يدك كالحالم بأصابع هائمة تتشبث في ظل الوحشة ، تجازف في صد تيار خيالك المتأرجح ، راسماً أثراً باهتاً في سواد المكان ، بقعاً من الظلمة تسيل و تختفي ، خائر القوى يتراءى لك العالم يحتضر ، كأن ينبوع الأحلام يجف و يتحجر ، فتصيبك رعشة و ينتفض وجهك بالدم كالقط تركّز فصّي عينيك في مرآتك المعلقة ، تبحث عن وجهك الآخر، بنظرة حيرى لا تخلو من قلق ، سيّء المزاج ، يمضي بك الوقت و إن لم تكن مهتما بما سيخلّف سريعا كعصف ريح ، حتى انك قد لا تدرك أنّ الإحساس بالتيه يشهد لحظة جنونك الخالد . تتراجع للخلف .. بضع خطوات و بنصف استدارة تلوي جذعك كالنمر ، تترصد شقّ الباب و تقفز.

 

العراق / البصرة
 

* عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين
صدرت له مجموعتين قصصيتين الاولى حارس المزرعة والثانية الصعود الى الاسفل




.


 

free web counter