آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 1/11/ 2006

 

 

القرادة...!!!


د. جمانة القروي

مشى مطأطأ الراس، شارد اللب ..تقوده قدماه إلى لامكان.. يقف امام واجهات المحلات.. يدخل الاسواق.. يعبرالجسور، يتكأ على سياجها يتامل النهربعينين حزينتين، يراقب جريانه بقلق... مشتت هو..!! في داخله اصوات تخاطبه، تحاوره وتدفعه للتساؤل بالحاح؟ اصوات يــزداد ضجيجها ، وتعلو داخل رأسه الذي لم يعد يحتمل .. !! فكرة اخذت مساحة غير قليلة من تفكيره سيطرت عليه.. كيف له النجاة ؟ وإلى متى ؟؟ كيف له الخلاص من هذه القرادة التي باتت تمص رحيق روحـــه، وتورثـــــه الما مبرحا في فؤاده وعقله..!! لطالما حلم ايام دراسته الجامعية ان يكون ناجحا في عمله، وان يحقق طموحاته..لقد توسم فيه اساتذته ان يكون من اشهروانجــح الصحفيين لما له من موهبــة وابداع..!! لمعت كما البرق في ذهنه المتعب صورة اللقاء الذي قلب حياتـــــه راسا على عقب !! ولكـــن اين هو الان ..؟؟ لماذا لم ينتبه لما هي عازمة عليه... ستحطمه إن هو مكث معها ؟؟، هل كان غباء منـــه،؟؟ ام ان رغبة الانتقام كانت الهدف ؟؟ لم يعد باستطاعته كتابة صفحة واحدة ..لا ولا حتى سطر واحد؟ هل هذا معقول ؟؟ اخذت الافكار تتلاطم امواجها، كما البحـــر الهائج .. لم يعد بقادر على التركيز على اي شئ !! أنتابه شعور غامض و احساس غريب غمرقلبه.. !!!
كان ماهر في بداية عامه الثامن والعشرين احد الصحفيين الشباب الموهوبين في القسم الذي تعمل به منى.. الفتيات في اقسام المؤسسة ، يهمن به حبا لما يتمتع به من ادب وجمال وموهبة وطيبة متناهية.. كن يتمنين نظرة من عينيه الساحرتين فقد كانت عيناه حالكتي السواد وتختبئان في غابة رموشه الكثيفة الفاحمة.. والتي لم تستطع النظارة الطبية من حجبهما وتغطيتهما فكانتا كسهمين يخترقان افئدتهن .. كن يتغزلن بابتسامته الخجولة التي ترتسم دائما على شفتيه الشهيتين، وهويلقي عليهن تحية الصباح او المساء.. ومما كان يزيد وجهه المدور جمالا الغمازة التي تقسم حنكه إلى نصفين، وكأنها اثر لابهام صغير..كان طول قامته يتناسب وكتفاه العريضان وصدره الواسع.. يتمتع بشحنات غير قليلة من الجاذبية الرجولية التي تعم مكان حضوره ..
منى ... سيدة شارفت على العقد الرابع، او ربما تعدته بقليل، سمراء، صارمة الملامح، ضخمة القوام تعلو وجهها عينان كبيرتان اقرب إلى الجهوض، مع حول بسيط في عينها اليسرى .. وما ان تبتسم ، وقلما تفعل ذلك ، حتى تكشف عن اسنان امامية مشوهة، مما يزيدها قبحا.. لم تكن تتمتع بأي جمال أو جاذبية .. رغم المساحيق، والمكياج المبالغ فيه، والملابس الصارخة الالوان التي تنم عن ذوق رديء.. على قسمات وجهها تطفح ترسبات اعماقها السوداء وعن حقد دفين، يظهر بين الحين والاخر من خلال نظرة عينيها المخادعتين.. أو ابتسامتها الصفراء المصطنعة.. إلا انها تتميز بامكانياتها الغير عادية، وبذكاء مسخرلجذب من تريد التسلق على اكتافه من خلال أبتسامتها الكاذبــــة وكلماتها المعسولــة، واساليبها الملتوية ...
لم يمض وقت طويل حتى توضحت امكانياتها المتواضعة في اداء عملها الصحفي ، فلم تكن صاحبة موهبة، او شهادة اكاديمية وكل ما في الامر، هو ارتباطها مع رئيس التحرير بعلاقة قرابة.. ولهاذا وجدت نفسها في هذه المؤسسة وبذالك فقط تفوقت علـى الاخرين ..
توسمت منى في ماهر، ومن النظرة الاولى بأنه من يستطيع تحقيق طموحها الصحفي لما له من موهبة وقدرات جيدة في مجال عمله، وايضا من يلجم جموحها، لفتوته وشبابه ووسامته...ولم تبال باربعة عشر عاما الفاصلة بين عمريهما .. فراحت تنسج خيوط شباكها العنكبوتية حوله، متبعة اساليب المرأة المجربة الخبيرة العارفة... وهكذا اخذت تتقرب منه بشتى الوسائل مرة بحجة المادة التي تكتبها، ومعرفة رايه بها .. وتارة بمساعدتها باعداد مقالة عاجلة مطلوبـــة منها، وفي كثير من الاحيان كان هو من يقوم بتأدية العمل نيابة عنها .. لم يكن ليبالِ بها وباغراءاتها وكثيرا ما حاول صدهـا .. فلم تكن باي حال من الاحوال المراة التي يحلم بها... كما انه مازال يعاني من صدمة عاطفية طوحت به وجرحت مشاعره، وكسرت قلبه الذي شرع بابه لاول مرة ... جعلت حب الانتقام من الجنس الاخر بشخص اي امراة هو غايته.. وقد عاهد نفسه إن يغلق كل منافذ قلبه امام اي حب حتى وان كان صادقا ....
لم تيأس منى .. استمرت في مساعيها نحوه . فكانت ترمقه بنظراتها الشبقة ، كلما رفع بصره اليها، او التفت ناحيتها... ما ان تلتقيه حتى تزداد غنجاً ودلالاً وتبالغ في اغداق عواطفها الكاذبة عليه ..

لم تمضِ سوى اسابيع قليلة حتى دعته لبيتها، واخذت تشكو له ظلم المجتمع كونها امراة مطلقة، وشيئا فشيئا أدخلته في دوامة مشاكلها مع طليقها وطفلتيها، وعلاقتها باهلها ومن يحيط بها...عزفت باتقان على احاسيسه، ومشاعره المرهفة وقلبه الرقيق، سيما امام دموع المراة،التي كانت تشكل احدى نقاط ضعفه والتي نفذت من خلالها اليه، وأخترقته .. ودون ان يدري وجدها تشكل هما من همومه، استجدت العواطف لديه فأستجاب لها ولدعواتها المتكررة... وهكذا وجد نفسه يسير في طريقها ويقع في فخها .. على الرغم من علاقاته المتعددة مع نساء مررن في حياته قبل حبه الوحيد، لكنها كانت الاكثر سخاءا.. إلا انه لم ينسَ جرحه الذي لم يندمل بعد....!!!
تطورت العلاقة بينهما خلال فترة قصيرة فكانا يلتقيان مرة في الاسبوع في احدى الاماكن العامة.. تقضيها منى في بث معاناتها مع الحياة ، وذرف الدموع الكاذبة.. في واحدة من تلك الجلسات الحميمة وهو يحاول ان يهدأ نوبة البكاء التي انتابتها شعر بذراعيها وهما تطوقانه، وشفتيها المحمومتين وهما تلهبان رقبته كسياط لاترحم، ثم امتدت يدها بجرأة لم يالفها لتداعبً شعيرات صدره..!! حاول تكذيب نفسه، متصورا بان ذلك ربما حدث دون قصد منها!! وجدها تقترب منه اكثر وتهمس في اذنه بكلمات حب لم يسمعها من قبل ..في خضم ذلك البركان الثائر من الافكار الشيطانية اراد الهرب، إلا انها كانت قد احكمت وثاقه اليها!!.. بقى لفترة مشدوها،"ايعقل انها تريدني كرجل؟؟ ما المانــع .. فهي امراة مطلقة منذ زمن .. وهي بحاجة لاسكات انين جسدها المتعطش للارتواء "!!.. حدث نفسه.. هو الاخر بحاجة اليها كأمرأة، ليس اكثر.. اما الحب فلم يكن يعنيهما بشئ.. وهو آخر مايفكران به ..

بكل عنفوان ونزق الشباب استسلم للتيار الهادر يجرفه ويطوح به يمينا ويسارا ليجد نفسه ينزلق معها إلى هاويــــة الجسد الســــحيقة .. رغم تجارب منى وعلاقاتها الغير قليلة، إلا انها لم تكن تتقن فنون واساليب الحب.. لكنهــا لم تتوان في عرض نفسها عليه متى ما شاء، وكيفما شاء!! .. فقد كانت تطمح باكثر مما تناله من اشباع رغباتها الجنسية.. لذلك لم ترفض له طلبا حتى وان قســى عليهــــا.. فهي تسترد كل ماتعطيـه ، بل واكثر بكثير ولكن بصور واشكال اخرى..
هو الاخر لم يستطع يوما أن يمنح قلبه لها.. إذ كان يعرف انانيتها المفرطة وحبها لذاتها، وكان على ثقة بانها لا ولن تحبه وكل ماتمنحه له ليس إلا إرضاءا لغرورها وأنانيتها، ولتحقيق غايتها في ان تصبح مشهورة ومعروفة على حسابه .. ومع يقينه هذا استمر ينفذ رغباتها كلما طلبت منه ذلك .. لم يكن بغافل عن ما تخطط له إلا ان ذلك لم يهمه... فما ان يختليان ببعضهما و يجمعهما سرير واحد حتى يفرغ فيها كل شحناته متصورا انه بذلك ينتقم من التي احبها قلبه وصدمته في كبريائه.. ولم تبال بـــــه ،او تقدر حبه الكبيرلها ..
اتسمت علاقتهما بالتحفظ التام في العمل. وحاولا تغليفها بطابع الزمالة.. فكانا يلتقيان مرة او مرتين في الشهر لقضاء بضعة ساعات يعدوان .. يلهثان .. يعرقان.. يصهلان.. يتداخلان في وصلة لايفرقان فيها بين جسدها وجسده . يذوبان في قبل كما الجمر تحرق احدهما الاخر.. كما لو انه يصب حمم انتقامه وحقده من الاخرى في شخص منى التي لم تستطع ان تنسيه حتى ولو للحظة واحدة قلبه المطعون.. ظل شبح ذلك الحب يطارده ويدمي قلبه الرقيق، ويطوق مشــــاعره كما القيد في يد الســــجين ..على الرغم من محاولاته الفاشلة بدفن الماضي في مقبرة النسيان..
اخذت الهواجس والافكار تعصف بمنى فقد كانت اذكى من ان تمكث على هذا الحال.. فحتما سياتي اليوم الذي يتخلى ماهر عنها نهائيا وإلى الابد..حينما يجد من يحبها حقا، وبذلك تفقد من يحقق لها ما تبغي في عملها، وحياتها ً.. لذلك كان لابد من لف الحبال حوله، وتضييقها اكثر واكثر.. زارتهم في بيت العائلة استعطفت والدته .. اقامت علاقة مع اخواته واخوته لجذبهم اليها.. حاولت كسب اهلـه إلى جانبها وفعلا نجحت بالتاثير على بعضهـــــم ،إلا احدى اخواته التي لم تكن تطيقها.. فقد كشفت الاعيبها من اول وهلة ..
مرت اسابيع وشهور طويلة وهما يتكتمان على علاقتهما، التي رويدا رويدا بدات تتكشف خيوطها للاخرين ، فما عادت تستطيع السيطرة على مشاعر الغيرة ، والحقد على الاخريات، حينما كن يلاطفن ماهر،او يمزحن معه ..وكاد ماهر مرة ان ينفجر بها امام الجميع لولا انه تمالك اعصابه .. حاولت استمالة قلبه ومشاعره اليها بكل قوة ..اغدقت عليه الهدايا، حاولت شراء طاعته وانصياعه لها ..جهدت في اشباع رغباتـه، لينقاد لها أكثر.. إلا انه بدأ يسأمها وينزعج من غيرتها. حتى لحظات السعادة تنغصها عليه بغيرتها التي انقلبت إلى شك دائم... والحاحها، الغير مبرر بزيادة لقاءتهم السرية، والتي اصبحت بالنسبة اليه شيئا مملا، وثقيلا .. كم من مرة فكـــر بانهاء كل شئ بينهمـــــا، ولكن لم يكن ليفطن لماذا لاينفذ قراره !! .. كثيرا ما كان يسال نفسه الحائرة ، بين الشك واليقين، إمن المعقول انه يحبها ؟؟...وهل تشكل جزءاً مهماً في حياته ؟؟؟ صرخة تدوي في اعماقه فتزعزع كيانه،!!" لا.. لا؟؟ لن يحدث ذلك ..!! انا اشتاق اليها نعم..!! اودها ممكن ..!! اعطف عليها ربما..!! احتاج اليها اكيد...!! لكن الحب ذلك المارد الجبار لن يتمكن ابداً من تحطيم قلب صدأ بابه.. انها ليست سوى امراة عابرة في حياتي ... ربما التقي بانسانة تعوضني عما افتقدتــه ربما !!"... كثيرا ما كان يطمئن نفسه الحيرى وقلبه الممزق بين الضياع والفراغ ..
مساء حار ، ليوم كان مفعما بمتاعب العمل اليومية، كان ماهر قد خرج توا من عمله .. فضل ان يمشي مسافة قبل ان يركب الحافلة التي تصل به إلى البيت كان بحاجة لان يكون لوحده ، شكلت منى عليه ضغطا نفسيا رهيبا، لم يعد بوسعه تحمله،، فهذه القرادة باتت لا تترك له مجالا حتى للتفكير بمستقبله، ابتزازها له والحاحها عليه ماعاد يطاق..!! اضافة للاجهاد في العمل..!! وما ان قطع مسافة قليلة حتى وقفت امامه .. تعلو وجهها الطفولي ابتسامة صافية نقية كماء ينبوع .. حيته، بهدوءها ورقتها اللتين كان يذوب فيهما هياما..هكذا وقف حبه الوحيد امامه شامخا، مذكرا اياه بتفاصيل تلك القصةالتي كان يعرفها كل اصدقائهما ..
لقد لمست تحيتها وسؤالها عنه شغاف قلبه المتيم بها .. لقاءهما هذا نقض كل العهود التي قطعها على نفسه.. حاول جاهدا تحقيق التوازن مابين الطرفين المتناقضيين .. بين حبه وعواطفه وذكرياته، وبين الانتقام والثأرمنها .. ثم بين الرغبة في اشباع الجسد وتحقيق الكثير من خلال ذلك.. كل طرف يجذبـــه، يشده بقوة .. حاول بعقلانية تفسير وتبرير اللاعقلانية..
بعد اكثر من عشرين شهرا وبعد لقاء خال من الحب اجابها ماهر حينما طلبت منه الزواج ، وهو يبعد جسده عنها، بان هذا لــن يكون ..!!
لم تستسلم منى لقرار ماهر فقد شعرت بانها ، لم تعد ترغب إلا به ولا تريد بديـــــــلا عنه..تصورت أنه يرفضهــــا بشــــكل مــؤقت، أنه لا يستطيع الاستغناء او التخلي عن لقاءاتهما، هكذا بدا لها.... كما لو انها كانت على يقين من ذلك ..لكن اصراره بالانسحاب من حياتها اذهلها، شل تفكيرها جعلها تدور كما النمرة المطعونة.. كيف تقنعه؟ وبأي اسلوب يعود إلى احضانها؟..فكرت ربما تستعطفه بدموعها، او تستميل قلبه بكلمات الحب.. اتصلت به وبحزن وشجن اعلمته بانها تراجعت عن ما قالته، فهـــي لا تريد الزواج ، فقط ليبقى معهـــا .. فهي لا تتخيل حياتها دونــه..كانت ترسل له الرسالة تلوالاخرى .. تبث له فيها حبها وتستحلفه أن لايتركها .. ماهر كان هذه المرة جاداً وصارما.. وقاسيا مع نفســه، اولا .. حاول التخلص من هذه القرادة، التي ابت إلا ان تلتصق به اكثر!!! فقد ارهقته، واستنزفته هذه العلاقــــة .. اثرت على عمله، ركن طموحه ومضى يلهث وراء ملذاتها..
كان مايزال يرتجف فرحا كلما راودته صورة ذلك اللقاء ، فتتسارع دقات قلبه، وتتهدج انفاسه ما ان يتذكر تلك الدقائق..
على مدى ستين يوما وهو يصدها ...لم تقتنع استمرت في توسلاتها، استعطفت اخوانه، توسلت والدته ليساندوها ويقفوا إلى جانبها ، واعدة اياهم بتنفيذ كل مايطلبونه منها..اياما طويلة وهم لايسلموا من الحاحها المتواصل المذل .. رفض ماهر المساومة باي شكل كان.. عندما ايقنت تماما انه لن يتراجع .. اخذت تهدده وتتوعده بانها ستقضي عليه وعلى مستقبله الصحفي .. لم يبال ولم يذعن ، وقد إمتلا إحتقاراً لها... طالبته بارجاع كل الاشياء والهدايا .. لم يتوان عن اعطائها كل شئ ، فقد كره كل شئ يذكره بها.. لم تهدأ ولم ترتد.، ولم تحترم ماكان بينهما.. كانت تتصل به لتشتمه، لكنهــا سرعان ما تتوسل به ان لايتركهـــــــا ...اصرت على ملاحقتـــــه بكل ما اوتيت مــــن قـــــوة .. تمسكت بإي قشة لتبقى الوشـائج بينهما.. اختلقت مختلف الحيل والاسـاليب ..حاولت ابتزازه بعدم ارجاع ما اقترضته من المال منه .. لم يهتم.. لم يرد ..!!. ظل يتارجح بين الحب الطاهر.. وبين الجسد ومتعته الزائلة.. بين الحب والكراهية.. بين الحنان والقســوة .. بين الوفاء والاخلاص .. وبين الانانية وحب الذات.. بين الخديعة والصدق.... بين الانتقام والصفح.. !!!!