آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 18/4/ 2010



قصة قصيرة

مدن لا مصور لها **

ابوطالب البوحيّة
 
- على تل صخري.. حين تهب رياح الخريف مثقلة بورق الشجر في اخف ساعاته تدرك انك للزوال ولا عظمة بعد اليوم حتى لو كنت الصورة الاكثر انتشاراً أمام اعين البشر، فالموت وحده من يكسر انوفاً وانوف ، واكركر من كل قلبي على جمع تحاشى لقاء الفقراء وجمع تصرّف وكأنه يمتلك من هذه الفانية شيئاً يفوق حجمه وجمع اسدل الستار على أخر فصلٍ من النبل والمال وحده اللاعب في النفوس ، ماذا لو خُلقنا لا نعرف عنه شيئاُ ؟؟ .

يتأفف ثم يصمت مبحراً بما تحته من مشاهد خلابة فوق ذلك التل بالقرب من الحدود البولندية عند مدينة ادرشباخ التشيكية حيث كان هو وصديقته (فاتيما) يتحاوران حول أسباب انقلابه شيئا فشيئا نحو إحلال موروثه الذي جاء معه عندما حلت اقدامه اوربا الواسعة الباردة ، كان عشائرياً ومتديناً ولا يمسك طرفاُ للحديث الا واحاله الى الشرق موطنه الولادي ، الان هو على عكس ماكان ، بدأت تجذبه الاحاديث السريعة ، الصمت الطويل ، ارتياد الاماكن المعجونة باللهو الفاضح مرتكناً زاوية مظلمة يشاهد الجميع عن بعد و يتخذ زوايا قلما يستطيع الآخرون مشاهدته من خلالها ، عمل باحثاً في شؤون شعوب العالم الثالث ضمن مركز (new world) بدأ يكتب بحتمية احلال الثقافة التسلطية والفوقية والدينية (المتسيسة) والكثير من المفاهيم الاخرى التي يعج بها عالم الجنوب ، تعالى صوته ناقداً لمكائد الأغبياء على تراثه الإنساني الكبير ، وجد بهم معول هدم الحضارة التي تلاقفها الغربيون على بساط أريحي فكونوا من خلالها حواضر أرهقت الحساد وأشعلت نفوس القابعين تحت الأرض حقداً ، الأغبياء كما عرّفهم ذات يوم في ندوة تخص حواراً للحضارات (هم اولئك المنتسبين إلى الواقع بطريقة غير مشرفة ويعملون على أساس أن الماضي موروثهم وأصالتهم وان خطابهم وعملهم يمثل جوهرة ديانتهم ومعتقداتهم السمائية والأرضية – الزمكانية - ، عملهم الذي يُسفك من خلاله الدم الحلال ، تُصادر فيه حريات الأفراد ، تُجهض فيه حقوق التواجد الحي المؤثر ، ركن الجميع في زاوية الخيانة والغلو والكفر والعداء) ، من خلال هذا العمل توفرت له زيارة سريعة إلى وطنه ، مغزى الزيارة أن يشارك في كتابة بحث يحاول مجموعة من الدارسين أن يتمّوه ، لم تكن مهمته محددة ، فقط طلب منه أن يكتب ما يود من خلال مشاهدته القادمة لوطنه بعد غياب دام عشر سنين.

شدّ حبال الوجد ، اقتفى اثر شوقه ، اعتصم أمام صور من كان معهم هناك في الزبير وسفوان والبصرة القديمة تلك المدن التي تختلف اختلافاً كلياً عن غيرها من المدن التي تناوب على زيارتها طالباً الهجر.
(فاتيما) تلك الشقراء الطويلة صاحبة العيون الملونة أبت أن لا تغادر إلاّ معه ، تزور حكاياته المنسية ، تشم رائحة سبيله اللامنقطع ، تتعرف على أكثر الأحياء قرباً من رفيقها الليلي المتقد ، رفض طلبها أول الأمر ، اكتشفت انه يخاف عليها ، لأول مرة تدرك الخطر ، تشعر انه يجابه أفكارها الغريبة بقوة وقسوة ، ليس كما عرفته رقيقاً حد الأنوثة.
 
(ناصر) يحزم حقائبه تساعده (فاتيما) في ذلك ، الرحلة تنطلق إلى الكويت وفي مطارها ينزل الاثنان بأحساسين مختلفين ، (فاتيما) تدرك أن استيعابها سيكون صعباً خصوصاً وان حر الصيف أخذ منها الكثير بعد دقائق معدودة من مواجهته وجه لوجه ، ناصر يخيم على حاله الخوف من الصورة التي ستلتقيه ، وبين هذه الأفكار وتلك ، وأحاديث عامة وصلوا عند نقطة الدخول والإيلاج بذاكرة الجوع والخوف والتسلط.
في البصرة ، حط الرحال ، توضأ بالتراب الحار ، بل تيمم ، متعبة تفاصيل الأرض ، مليئة بالتجاعيد ، تعزف على وتر مضلّ ، تشتهي ألوان الله الغامقة ، أندرك كم شاخت ؟ .
حين تطلع إلى جدول أعماله الخاص برحلته للأيام الست في البصرة ، قرر أن يخوض تجربته تباعاً عبر ما يمر به من مدن يعرفها جيداً وتعرفه ، رجالها ، نسائها ، الأطفال كبروا فصاروا شباناً ، وفي حديث واثق اخبر(فاتيما) انه ينوي المكوث يوماً هنا في سفوان ، وبعدها ينطلق إلى الزبير ، ثم يمر بالبصرة القديمة ليختتما جولتيهما السريعة .
 
في سفوان
 
سالم عذافة : ذو هيئة فلاّحية سمَحة ، يستقيم ظله المهاب حين تحف عباءته أرضية السوق المغبر ، كان دوماً لا يقبل الانحناء ، وعلى العهد وجده ناصر في زمن السوء ، تشقق أقدامه يدل على انتمائه الوفير لأرضه الرملية ، ناصر أيقن من الوهلة الأولى أن تقريره سيحمل بعض الايجابية.
  
مدرسة الحريري : ناصر الخميسي ، يوما ما كان مسؤلاً اتحادياً فيها ، عند أعتاب الباب الرئيس حاول أن يتذكر مهرجاناً علا صوته فيه منادياً بقضايا أبناء أمته المظلومين في فلسطين ، وحين افلت لسانه على نظام الحكم آنذاك ، أغلقوا مكبرات الصوت ولاذ أكثر أساتذته بالفرار صفق الطلاب ، وبدأت المشاكل.
 حين همّا بالدخول سأل البواب ناصر:
-       من أنت ؟ وماذا تريد؟
-       أنا ناصر عبدالرحمن الخميسي ، هل تذكر شخصاً بهذا الاسم "أجاب ناصر"
-       كلا ، عن أي ذاكرة مرهقة تسأل ؟
اتضح فيما بعد أن ناصر اتخذ المكان المبهم ، لا يعرف احداً ، لا يعرفه احد ، وحده وفاتيما سارقة نظرات الجميع .
 
في الزبير
 
في الطريق إلى مدينة الزبير عند مدخلها الشمالي ، هناك ركن الجامع الكبير لايزال قائماً ، كانت أولى معارك المسلمين فيما بينهم قريبة ، هذا الجامع كان مقراً لأحد أطراف القتال ، انه شاهد على البدايات التي لم تزل نهاياتنا قائمة عليها !!.
في الزبير شهد حركة التجارة وأمارة الجوع وحركة التدين وحركة الانكفاء على القيم الدينية ، اليوم يدخل (ناصر) باحثاً عن صورة تحمل المزيد من المتناقضات كأنه فهم أن هذه المدينة التي تفتح ذراعيها للصحراء من جهة الغرب وللبحر من جهة الجنوب والى الزراعة من الشمال مغلقة على أهلها لا تغير من نفوسهم شيء لا تبدل من أوصافهم ولا تعدل ، الزبير اليوم منقسمة التوجه متوحدة الانغماس في الانسحاق، في مقهى (سلوان) كانت له رسالة خاصة ، مغلفة بورق اسمر ملفوفة بكيس اسود لم يعطها الصندوق الخشبي الذي يحتويها فرصة للكبر والتقدم والذبول، بعد أن تناول الشاي كل من ناصر وسلوان وفاتيما التي حاولت بدورها أن تقلد أهل الدار حيث أقدمت على شرب الشاي بالطريقة التي يتم فيها التناول (بالصحن) لا (بالكاسة) وهي طريقة اعتمدها أهل الريف وبعض المتمدنين لسقاية أنفسهم ذاك السائل الأسود الغارق بطعم الهيل،  حينها سلم سلوان الأمانة لناصر كانت رسالة شخصية بحتة من صديق لم يعد عنوانه في متناول يد الجميع قرأها ناصر بتمعن وهدوء ولم يفصح عنها بعد ذلك غير انه تمتم بصوت مسموع جملة محصورة بين قوسين احتوتها الرسالة تقول (كلهن تتغير أوصافهن عند العري ، إلا هي ، فقط لأني عرفتها عارية).
معتصم مجيد الحسن : احد الأعمدة الكبيرة في المدينة ، كان بيته محط أنظار الناس لكرمه وشهامته ونخوته المفرطة ، كان يقال له " انك صاحب كل البيوت، ومرشد كياناتها الداخلية " ، مرت السنون العشر ليجده الجميع في حاجة لامتلاك وسادة يريح فيها رقبته التي لم تطأ الأرض ابداً.
 
في البصرة القديمة
 
هنا حط آخر رحاله قبل أن تتشكل له الملامح الأخيرة للتقرير الذي اجبره العودة ، في مدينة السمار العجيب ، عند (شناشيل) اليهود وبعض دكاكين أبناء عمه لا تزال الوحول والمستنقعات تعرض لوحة تشكيلية فائقة التعقيد ، النفط الذي تطفوا عليه هذه المدينة ومجاورتها من المدن أجهض مشروعية تطورها وأخفى عنها مستدركات العمران.
غفران السبتي: مندائية عظيمة النهدين ، عريضة الجبهة ، شعرها الكثيف غابة من السواد اللامع حين شكلت مع ناصر الخميسي معادلة الحب ، كانت بتصور كامل للنهاية ، وهو حين مس جسدها الممشوق ارتكب حماقة العمر وحين سألها بعد تنفس رائحة تعرق جسديهما ، " ما بالك؟"
صمتت ثم غطت في نوم عميق ، تسلق بعدها جدار الوطن وغادر !!

 
 
التقرير
 
(الاصدقاء ... مرحبا

شكرا لأنكم منحتموني احساساً علا بمخيلتي ، وعصمها من التشقق والشحوب .
عالمي الذي خضت فيه بعد عشرة اعوام من البعد والهجر والنسيان المتعمد ، لم يزل على حاله ، بل تراجع قليلاً ، بدا ممسكاً بما لا يجب ان يأخذ ، ورافضاً لأي استنتاجات عقلية جديدة ، انه المجتمع ، يمتلك في ثنايا مواطنه اختلافات ولادية وأمراض مزمنة  مثلما يحمل بكل عنفوان  طاقات انسانية تنشد التميز.

سفوان ، الزبير ، البصرة القديمة ، مدن صغيرة في جنوب بلدي للآن رغم انها مراكز التجارة العالمية في المستقبل تبحث بأسى عمن يصوّرها.. يرسمها كي تدخل مخيلة الباحثين ، اي باحثين ، انتم مثلاً.
عالمي متحرك ، على عكس عالمكم المتوقف ، أوربا اليوم لم تقدم أي جديد مغلقة على نفسها تعيش على ما اكتشفه أجدادكم وآبائكم قبل سنين مضت ، عالمي يتحرك نحو الخلف ، انكم تقفون .

انها فرصة كبيرة لو تغير الاتجاه ، فأحتمال لحاقكم وترككم في الخلف لايزال قائماً.

شكراً من جديد

ناصر الخميسي
باحث
)


 
 ** القصة الفائزة بالجائزة الثانية في مسابقة ديوان النيل والفرات للقصة القصيرة


 

free web counter