آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 13/12/ 2009

 

قصة قصيرة

القرية المهجورة

جمعة كنجي

لعلّي أجده هذا اليوم.
هكذا كان المتسول العجوز يمني نفسه- كل يوم- منذ أعوام عديدة، وهو ينقاد في شبه إذعان إلى صبي صغير.
وهمس الصغير وهو يتطلع إلى وجه العجوز المتغضن:
إنني جائع يا عم.
لم يجبه العم. إنه هو الآخر جائع. وظلّ الاثنان يشقان طريقهما على رصيف شارع حلب المتدفق بسيل لا نهائي من البشر.. كان الصغير متشبثا ً بتلابيب العجوز يجره وراءه على غير هدى وهو ينقل قدميه الحافيتين على ارض الشارع الملتهبة بحرارة الظهيرة في منتصف آب، وكان العجوز يتعقبه بخطوات واهنة ضعيفة، ومن حين إلى آخر يردد بلغته الكردية:
ـ بو خاترة خدي (في سبيل الله)
وهمس الصغير ثانية:
ـ إنني جائع.
أجابه العجوز:
ـ وأنا أيضا ً.
وقال الصغير بنفاذ صبر:
ـ أريد أن آكل!
تريّث قليلا ً، فسوف نحصل على الطعام من احد البيوت القريبة، ثم أخلد للصمت. وأغمض العجوز عينيه نصف إغماضه، ومضى يتحسس طريقه بعصا غليظ ثم عاد يردد في الناس نداءه التقليدي:
ـ بو خاترة خدي!
وراح يتطلع ببلادة في وجوه المارة وهو يقول في سره "ليتني أجده!". لقد سمع أنه يعيش منذ زمن في الموصل، ذلك الرجل الذي غير مجرى حياته. وإذا قدر له أن يجده؟ سيقول له كلمة واحدة فقط تكون عزاء لحياته الضائعة.. ومرق بالقرب منه رجل يمشي في اعتداد شديد فهمس لنفسه:" إنه هو!" وكاد يمسك به، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة وهو يقول:" لا.. ليس هو. آه! أنا سأتعرف عليك يا علي آغا حتى لو كنت بين مليون إنسان". وشرع يتفحص المارة خلسة غير آبه إلى اشمئزازهم من منظره الكريه.
ومضى يردد بنبرة أقوى:
ـ بو خاترة خدي.
وهمس الصغير بضراعة:
ـ إني جائع جدا ً.
..فاحت رائحة الشواء من مطعم قريب. وكظم العجوز رغبته جامحة في الحصول على وجبة طعام لذيذة.. وتوقف الصغير لحظة ليتطلع إلى داخل المطعم، لكزه العجوز فمشى وهو ما يزال يتطلع، في نصف استدارة، إلى داخل المطعم، وقد اكتسى وجه بمسحة من خيبة الأمل.. واعترضا سبيل امرأة مكتنزة في الأربعين من عمرها، إلاّ أن المرأة حدجتهما بنظرة استياء بالغة، لكنها ما لبثت أن ألقت قطعة نقود في الصحن، ثم مضت في طريقها.
استفسر العجوز من الصغير:
ـ كم قطعة جمعنا؟
أجابه الصغير:
ـ خمس قطع فقط.
عاد العجوز يفكر مع نفسه: لقد سلخ أعواما ً من عمره في هذه المهنة التافهة التي لا تحتاج إلاّ إلى خبرة قليلة، لكنه لم يتقن أبسط قواعدها. إنه متسول فاشل إلى أقصى حد. فهو لا يعرف متى يقول الكلمة المناسبة في الوقت المناسب للمسنين. وهو يجوب يوميا ً معظم شوارع المدينة لكنه لا يكاد يعرف من أين يبتدئ ولا أين ينتهي.. وحظه من اللغة العربية؟ أتعس! شبان المقاهي يشاكسونه كل يوم لكي ينطق ببضع كلمات فيقول لهم برطانة المعهودة: آني عربي نزانم.. ولذلك فإنه لا يكاد يحصل في معظم الأوقات على ما يسد رمقه ورمق الصغير. واليوم، قد انتصف النهار، إلا ّ أنه لم يحصل على أكثر من ثلاثين فلسا ً. والصغير جائع. وهو أيضا ً جائع. فماذا يفعل؟
مضى يردد بإيقاع رتيب:
ـ بو خاترة خدي!
وتطلع إليه الصغير وقال باحتجاج:
ـ إني جائع.. جائع..
وأجابه ببرود:
ـ أصبر.. سنحصل على الطعام.
في نهاية شارع حلب انعطف الصغير نحو الساحة ميماً باتجاه الدواسة، والعجوز من ورائه يجر جسمه بتثاقل. ومرّا بقرب محطة بنزين. كان الجوع ينهش أحشاءهما.. ثم انحرفا إلى شارع نظيف مظلل بالأشجار الباسقة، تصطف على جانبيه قصور فخمة ملونة من آخر طراز.
ردد المتسول بفتور:
ـ بو خاترة خدي.
ذكره الصغير بجوعه مرة أخرى. كان عدد المارة قد قلَّ كثيرا ً، وتضاءل أملهما في الحصول على أي منحة نقدية. عندئذ توقفا أمام باب كبير اصفر. ألقى العجوز بكيسه المتسخ على الأرض، وهو يعلل نفسه بالحصول على الطعام من ذلك القصر الفخم. بعد تردد قليل امتدت يده لتضغط على الجرس بأصابع متشنجة قاسية فتح الباب رجل في أواسط العمر، يعلو جسمه رأس كبير، بادره العجوز قائلا ً بتوسل دون أن ينظر إليه مباشرة:
ـ قليلا ً من الخبز نحن جائعان.
احتقن وجه الرجل بالغضب، وصرخ بلهجة كردية سليمة، وهو يصفق الباب في وجهيهما:
ـ لا يوجد!
..تناهى إلى سمع العجوز صوت الرجل يصب في سخط شديد آلاف اللعنات على أولئك المتسولين التعساء الذين يزعجون الناس في أوقات راحتهم. وظلت عينا العجوز متعلقتين بقضبان الباب الحديدي. كاد ينسى جوعه، وتشرده، وذله، إذ انصرف ذهنه إلى الماضي البعيد ليستعيد صورة الرجل الأصلية. وقال بذهول:
ـ إنه هو!
استفسر الصغير:
ـ من تقصد؟
ـ علي آغا. الرجل الذي طالما بحثتُ عنه.
ـ أتعرفه؟
ـ بالتأكيد.
ـ وهل يعرفك هو أيضا ً؟
ـ نعم. إذا كنت في غير هيأتي هذه.
ـ إذن. لماذا لم يمنحنا خبزا ؟
ـ إنه لا يعطي. تعود أن يأخذ فقط.
ـ يأخذ ماذا؟ أتعني أنه متسول مثلنا؟!
ـ أتعس.
ـ لكنه غني..؟
ـ أجل..
ـ لعله يمنحنا الخبز ما دمت تعرفه. لم لا نسأله ثانية؟ هز العجوز رأسه في أسى. وقال بحسرة:
ـ خبزه سام.
***
مضيا يائسين إلى الرصيف المجاور. في ظل سياج (حديقة الشهداء) كان ثمة مشرد آخر شاب مستلقٍ في الظل. لوى المشرد رقبته، وتطلع إليهما في صمت ثم عاود النوم من جديد. أنطرح الصغير على الأرض حتى التصق وجهه بإسفلت الشارع، ومضى في إغفاءة قصيرة بعدما فقد الأمل في الحصول على أي طعام. اتكأ العجوز على كيسه المليء بالحاجيات القذرة، ثم تعلقت أنظاره بباب القصر الذي طردهما صاحبه مثلما يطرد الكلاب الضالة. وغرق في التفكير:
إنه هو. عي آغا بعينه. لست مخطئا ً. نفس القامة المربوعة. والرأس الضخم كرأس الخنزير، ثم تلك الشامة السوداء على أذنه اليسرى؟ وذلك الجرح الغائر في ذقنه؟ إنه هو بعينه! آه.. يا ابن العاهرة. عثرت عليك أخيرا ً، ولسوف أصفي معك الحساب القديم.
وقطع عليه تفكيره رنين قطعة ألقت بها في الصحن عجوز شمطاء تتشحُ بالسواد. تطلع العجوز في وجه الصغير الذابل. وقرع أذنيه دوي منبه سيارة في الشارع المجاور.. تعلقت أنظاره ثانية بالباب الحديدي الأصفر. عبثا ً يأمل في أن يرى الرجل ثانية في ذلك الوقت القائظ من النهار. لكن.. لماذا؟؟ إنه هو. بلحمه وشحمه. وليس ثمة داع إلى مزيد من الأدلة. وتمتم:
ـ أنا لا أقل عنك وضاعة يا ابن الكلبة، ولكني عجوز واهن مجرد من كل سلاح.
..عادت به الذاكرة إلى الماضي البعيد. واستيقظت في أعماقه ذكريات نصف قرن. وفي غمرة الذكريات المحزنة شعر بمزيد من التعاسة والشقاء. أختلس نظرة أخرى إلى الصغير الذي نام خاوي البطن. نظر إلى هيأته المزرية القبيحة وتحسر. ما الذي يأمله من حياته البشعة تلك؟ ولكن.. الصغير؟ أيستطيع أن يتسول وحده؟ ولماذا؟.. كانوا سيعيشون إلى الأبد في عز ورخاء وسلام لو لم يعترض طريقهم ذلك الشرير علي آغا. وطفر إلى ذهنه خاطر مفاجئ:
ـ من العدل أن انهي حياتك يا علي آغا علنا ًأمام الناس وفي عرض الشارع.
استيقظ الصغير فرك عينيه، وقال بضراعة:
ـ إنني جائع!
نهض المشرد الشاب، اخرج من كيسه رغيفا ً من الخبز، ثم استلقى بجانبهما وهو يقول:
ـ هذا الرغيف زائد عن حاجتي. لقد تناولت طعامي . يستطيع الصغير أن يأكله.
تمتم العجوز ببضع كلمات امتنان، ثم سأله:
ـ ما الذي تفعله أنت هنا؟
أجابه الشاب:
ـ أمضي وقتي.
لماذا؟
ـ لأني مشرد. فقد طردني صاحب العمل منذ أسبوع. كنت اعمل موزعاً للصمون في احد الأفران الكبيرة، لكن صاحب العمل فصلني زاعما ًبأني واحد من المشاغبين الذين لا يرغب فيهم.
وبعد لحظة صمت:
ـ كم كان فظا ً قاسيا ً!
سأله المتسول العجوز:
ـ لمَ لا تبحث لك عن عمل آخر؟
ـ إني سقط اليد. وكل الأعمال لا تلائمني.
سأله العجوز:
ـ من يكون صاحب ذلك القصر ذي البوابة الصفراء؟
ـ علي آغا.
وسال العجوز بإلحاح هذه المرة:
ـ من هو علي آغا هذا؟
ـ صاحب العمل الذي طردني، وهو احد النواب السابقين. يقولون عنه أنه من شخصيات المدينة، ويمتلك عدة شركات، في الحقيقة أحط من كلب لأنه يحتقر الفقراء.
حك العجوز رأسه وقال:
ـ يوجد أثر جرح على فكه، وشامة كبيرة على أذنه. أليس كذلك؟
ـ بالضبط.
ـ أتعرف من أين جاء إلى المدينة؟
حملق الشاب المشرد في وجه الجوز باستغراب وقال:
ـ إقطاعي انحدر إلى المدينة من أحدى قرى الشمال.
عندئذ قال العجوز بنزق وهو يتحسس عصاه:
ـ لقد نويت أن انهي حياة هذا السافل علي آغا!
قهقه المشرد ثم قال ساخرا ً وهو يغمز بعينه:
لأنه طردك.. هه؟
ـ كلا!
ـ لماذا إذن؟
ـ هذه فكرة ظلت تراود ذهني أعواما ً عديدة..
ـ أنت مجنون.. أنت عجوز خرف. أنت لا تستطيع أن تقترب منه، والذين يحرسونه سيسحقونك مثل حشرة قذرة.
قال العجوز بإصرار:
ـ قراري هذا قديم! ولكن..
قاطعه المشرد قائلا ً بحزم:
ـ تريد أن تقتله ومتى؟ اليوم . حسن.. هناك من يفكر بقتله ولكن المشكلة تكمن في القوة الجبارة التي تحرسه.
ـ لا أرى أمام قصره أي حرس.
ـ أنت عجوز لا يمكن أن ترى شيئا ً!
سرح المشرد الشاب بأنظاره بعيدا ً، كأنما يستعيد في ذهنه ذكريات محزنة وتنهد. ثم استطرد يقول:
ـ علي آغا رمز للشر والجريمة. مصاص للدماء. لقد حطم عوائل كثيرة. وسرح من العمال دون أي سبب.
قال بذهول:
ـ عمن تتحدث؟
..فجأة أخفى العجوز رأسه بين يديه ثم انخرط في بكاء مر صامت.. أخذت الدموع تنساب غزيرة في تجاعيد وجهه كما تنساب المياه في الأرض المحروقة. وظل الصغير صامتا ً يراقب الرجلين بفتور وهو يلوك آخر قطعة تبقت لديه من الخبز. تطلع الشاب المشرد في حيرة إلى العجوز المتهدم. ما الذي يبكيه؟ هذا الإنسان المسخ كأنه عاش أبدا ً في وسط دخان. أجفانه غليظة محمرة بلون الدم. وجهه بشع مقرف تعلوه آلاف الثنايا والتجاعيد يتوسطه انف مقوس كبير. والرقبة متهدلة كخرطوم المياه القذرة. كومة من الأقذار والأسمال المزنخة. ما الذي يبكيه؟ وسأله الشاب برفق:
ـ ما الذي يبكيك؟
ـ علي آغا!
ـ لكنك أنكرته قبل فترة.
ـ اعرف علي آغا الآخر.
ـ ماذا تقصد؟ أنت مجنون.
ـ كلا..كلا.. لقد تحطمت عائلتي، وتشرد أهل قريتي، وضاعت أرضنا بسبب علي آغا .. وبسببي أنا أيضاً..
ـ لكن الأرض بدأت ترجع إلى أصحابها . الم تسمع ؟
ـ ما الفائدة بالنسبة لي؟ لقد ضاع كل شيء.
وحدجه الشاب باستغراب مرة أخرى وقال:
ـ عدت إلى جنونك.
على أن العجوز مضى يتحسس عصاه. وقال برعونة:
ـ سأنهي حياته هذا اليوم.
حدجه الشاب بنظرة استياء كما لو كان ينظر إلى علي آغا نفسه. ثم قال يحذره مرة أخرى:
ـ أنت واهم.. القوة التي تحرسه لا تنام لها عين لأنها تعرف بأنه معرض للخطر على الدوام.
ـ لكن لابد من معاقبة المجرمين.
ـ دعه. أعداؤه كثيرون. والزمن كفيل بمعاقبته.
وشرد ذهن العجوز وتمتم:
ـ لن أدعه. يجب ألا ّ تضيع الحقيقة التي طالما ظلت طي الكتمان. علي آغا مجرم، وأنا شريكه في الجريمة، لكني نلت عقابي في هذه الحياة العفنة التي عشتها. أما هو فلم ينل عقابه. أنا شريكه في الجريمة، وضعت نفسي طوع أمره، وساهمت معه في تخريب القرية وتشريد أهلها، أنا لا اقل عنه سفالة.. آه.. المجرم، أو تدري كيف أشعل النيران في القرية الآمنة؟ كان ذلك منذ زمن طويل جدا ً عندما وفد على قريتنا لاجئا ً بعدما طرده أبوه لأسباب خاصة. وبعد أن كسب ود الأكثرية بتزلفه وتململه اخذ يثير الفتن بين الأقارب، وذات مرة استغل النزاع بين فريقين من الفلاحين تنازعا حول قطعة من الأرض، وأقنعني أن أطلق النار على رجل معين ينتمي إلى إحدى الطائفتين المتنازعتين في سبيل مصلحتنا، أنا وهو، آه..ما زلت أتذكر كل شيء وكأنه حدث بالأمس، كان العم احمد منكبا ًعلى حذاء قديم يصلحه على ضوء فانوس، ومن كوة الحائط أطلقت عليه النار، انطفأ وانتهى الرجل، احتدم الصراع بين الطرفين ورحلوا جميعا ً عن القرية حقنا ً للدماء، كانت خطة سافلة لم تنكشف حتى اليوم.. على أن ظنون معلم القرية اتجهت نحونا، فاغتاله علي آغا ذات ليلة عاصفة من ليالي الشتاء، وضمت غياهب السجون أربعة شبان أبرياء من القرية، وبدأت نذر الشؤم تلوح في الأفق، وقلق أهل القرية على أنفسهم وحاولوا طرد علي آغا من القرية، وكان يقودهم ملا خليل، وأقنعني المجرم بقتله لقاء منحي قطعة ارض ثمينة.. وقتلته.. ثم انهارت معنويات الفلاحين وتفرقوا في أطراف الأرض شذر مذر لائذين بجلودهم كقطيع من الغزلان يطارده ذئب جائع.
أجهش العجوز كرة أخرى في البكاء وهو يردد:
كان ذلك منذ زمن طويل، لكنه خدعني، خدَعني، وجَهَ ضربته الأخيرة لعائلتي فتحطمت.
وبعد فترة صمت:
ـ الويل لأبن الزانية.
هبت من الحديقة نسمة منعشة، ودق ناقوس كنيسة قريبة، تعلقت أنظار العجوز بالبوابة الحديدية الصفراء، وقال:
ـ منذ ذلك الوقت وأنا ابحث عنه، حتى وجدته اليوم، ولا بد من تصفية الحساب القديم معه.
قال الشاب محاولا ً تهدئته:
ـ علي آغا هو..هو، تحكم في مصيركم بالأمس، ويتحكم بمصيرنا اليوم، وغداً سيزول كأن لم يكن، حتى أقوى السدود ينهار يوما ًما وتجرف أحجاره السيول المتدفقة في الربيع.
نظر الشاب إلى الشارع في أقصى اليسار من الحديقة، وانتصب على قدميه. ثم قال بهدوء: لنمضِ.. لنمضِ كل في سبيله. لقد خفت حدة الحر، وبدأ الناس يخرجون إلى الشوارع.
استند العجوز بظهره غلى سياج (حديقة الشهداء)، ومدَّ رجليه على عرض الرصيف. وداعب عصاه، ثم قال بإصرار:
ـ أنا لن امضي، لا بد من تصفية الحساب معه.
حذره الشاب مرة أخرى:
ـ أنت تتخبط سيسحقونك مثل حشرة أنت وحدك لا تستطيع أن تفعل شيئاً خير لك أن تمضي معنا.
ـ دعني وشأني.. فليكن ما يكون.
ـ والصغير ما ذنبه؟
صمت العجوز.. وكرر الشاب سؤاله:
ـ ما ذنب الصغير؟
ـ لا ادري.
وفكر الشاب قليلا ً ثم قال:
ـ سآخذ الصغير معي. ما ذنبه لكي يبقى جالسا ً معك، مشدودا ً إلى الأرض؟ هه.. ماذا تقول؟
وسحب يد الصغير وهو يقول:
ـ سآخذه .. ألا ترافقنا؟
أجاب العجوز بإصرار:
ـ سأبقى حيث أنا ولن أرافق أحدا .
انحدرت الشمس نحو المغيب، وزحفت ظلال الأشجار باتجاه القصر، وخرج الناس من دورهم إلى الشوارع، وعج شارع الحرية، الكائن إلى اليسار من حديقة الشهداء بسيل لا نهائي من البشر.. وأما علي آغا فكان يغط في نوم عميق في قصره الفخم، ذي البوابة الحديدية الصفراء، كانت الستائر مسدلة على الشبابيك والمروحة فوق رأسه تدور بدون ضجة، وإلى جانبه كأس شراب فارغ، ومن فرجة بين الستائر تسلل شعاع اصفر إلى الغرفة مؤذنا ً بانتهاء النهار، وأفاق الرجل من نومه مضطربا ً، أدرك بأنه قد تأخر أكثر مما ينبغي، نظر من شباك في يمينه إلى الشمس الغاربة، فأعشى عينيه شعاع اصفر ذهبي ساطع، احكم وضع الستائر وهو يلعن الأضوية الساطعة.
***

تحسَسَ العجوز عصاهُ بشوق وهو يرمق الشاب والصغير وهما يقفان في بداية الشارع. ثم رآهما يغيبان في السيل البشري المتدفق على طول الشارع.
 


بحزاني في 6/5/1969

 

 

free web counter