الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 8/5/ 2006

 

 


رحيل عام 78 ألق الماضي ... أوجاع الحاضر


جاسم العايف

عام 1978 ارتحل الشاعر ( مهدي محمد علي ) قسراً عن البصرة بسبب الليل الدموي – البعثي – وأكمل رحلته متخفيا ،عبر الصحراء, ليستقر في المنافي الكثيرة، وليوثق رحلته تلك مع المهربين:
((غادرت الوطن بزي بدوي
وعبر صحاراه على ظهر بعير
..............
(...) أتوسد رمل الصحراء
ملتحفاً برحال
تملأ سمعي أصوات كلاب الصحراء
تتخطفني أنوار الدوريات
))
عدن 1979

(1)
في أوائل السبعينيات،مع ان بداياته تمتد قبلها, عُرف الشاعر (مهدي محمد علي) من خلال قصائده التي نشرت في الصحف والمجلات العراقية، عرّف به سعدي يوسف وكتب عنه أنور الغساني وصادق الصائغ وآخرون ، لم يكن وقت ارتحاله قد أصدر مجموعة شعرية – احتفظ له بمخطوط شعري أول بعنوان (سيناريو أولي للحب), وكانت مجلة (الكلمة) التي أصدرت عددها الخاص بشعراء السبعينيات، قد نشرت له في عددها ذاك قصيدة واحدة . وساهم ايضا في (الملف الشعري) الذي اصدرته مجلة الثقافة الجديدة وكذلك له مساهمة في الكتاب الشعري الذي صدر لمناسبة الذكرى الاربعين لتاسيس الحزب الشيوعي العراقي. في المنفى أصدر ديوانه الأول (رحيل عام 78) عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي – دمشق – ثم توالت إصداراته الشعرية التي تجاوزت ست مجاميع شعرية ومع تلك الاصدارات الشعرية المتعاقبة الا انه بقي بعيدا عن التصنيف والتجييل الشعري العراقي , كما لم يتم تناول مااصدره من دواوين شعرية نقديا بشكل جاد وما كتب عنه وعنها لاتجاوز التعريف الصحفي فقط ولم يرد له ولشعره في الانطولوجيات الشعرية التي صدرت عن الشعر العراقي شيئا ما – حسب معرفتي-وكأنه لاينتسب للشعر العراقي بأي شكل كان , ويقف خلف ذلك في الغالب عوامل شتى في مقدمتها الدوافع السياسية ليس الا, حول ذلك يقول الشاعر في حوار اجراه معه الناقد (مقداد مسعود) -:هذا من اختصاص النقاد ومن مهماتهم..ومن جانبي فانني لا ابيح لنفسي ان احدد صفتي او موضعي غير انني استطيع ان اصف تجربتي الشعرية لاضيئها لا لكي اعطيها قيمة محددة او درجة بعينها..ولقد وصفت نفسي مرة وانا التحدث عن تجربتي بانني ((شجرة في حديقة عامة ))انتظر ان يلتفت اليّ احد العابرين فينبه عابرا اخر,فاخر..حتى يقبل الناس نحوي.. (جريدة –الحقيقة الاسبوعية- البصرة- العدد19 - 2005 ) .وأصدر كذلك كتابا نثريا بعنوان (البصرة ... جنة البستان) عن البصرة في خمسينيات القرن العشرين والذي استغرق منه ثلاث سنوات بدأ من عام 1982 حين تأكدت حالة النفي وحين استشرف المستقبل ورأى انه لن يعود الى مدينته الا بعد سنين طويلة وانه بالتاكيد لن يعود الى بصرة الطفولة والصبا لانها بدأت في الواقع تتثلم منذ ازالة (الطاق) في (العشار) ومبنى (البنك العربي) وساعة (سورين) و مع تتابع الهدم والمحو ((قررت ان احمل بصرتي –مدينتي- معي مهما تتبدل المنافي والبلدان بكل احوالها وتحولاتها ورأ يت ان ذلك يستلزم ان احفظ مدينتي تلك في صفحات كتاب وعليه باشرت برسمه بالكلمات..وقد رسمت المدينة كما رأيتها وعشتها وكما رأيت ناسها وعايشتهم من عمر الخامسة حتى الخامسة عشرة)) .

 (2)
يستثمر (رحيل عام 78) ثنائية / الحضور – الغياب/ حضور الذاكرة – الماضي – وغيابها الآني، استدلال الأمكنة والأحداث والأشخاص بوضوح، محاورتهم ، طغيان ملامحهم ، الاحتفاظ بأدق الخصائص الواقعية للمشهد – الماضي القابع في الذاكرة – غياب الوطن في المنفى واختراق المنفى ذاته في حضور الوطن، الناس، الأحداث، الصلات اليومية ، المدن ، الشوارع، الساحات العامة وغبارها، حدائق البيوت، الأزقة، البساتين، الأنهر ، ألوان الستائر، المنزلية، تراب الغرف المقفلة، وحتى فسحة ضوء نافذة المطبخ، هذه الاستحضارات، محاولة للتشبث بالماضي الهارب استنادا على قوة الذاكرة وحضورها العيني- المتفوق، المتوقد من خلال إقصاء المنفى والعمل على نفيه كوجود عيني متحقق في الحاضر وتجاوز حضوره اليومي الطاغي المتجسد بالحاضر ذاته الملموس المباشر، تستدعي الذاكرة المشاهد بطريقة ليست حلمية، بل متجاوزة ومنظمة من خلال اشتغال آليات الذاكرة التي تستدعي الوطن (الحاضر – الغائب) ، الصديق ، الأم، صبية الجيران، المكتبة، الأخت الكبرى، وتعود لتحتفي بالبئر العذبة – بئر الطفولة –
(( أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثا عن صحيفة قديمة
أو تلبية لرغبة طفل
بحثا عن أجزاء لعبة محطمة
وأنا الآن أتدلى نحو وطني
كما أتدلى نحو بئر أليفة وموحشة
))
عدن 1980
تقبض ذاكرة المنفى على الماضي، لتستريح من أعباء الحاضر، لتخترق – الراهن – ولتمسك بالأشياء – الغائبة – ولتؤنسن العلاقات الهاربة في حدود الوطن، مع الذاكرة وعبرها، حتى الجمادات، وتستدعي كلاب الجيران السائبة النابحة ليلا في مشهد فنتازي، بقصدية, لتجاوز وقائع الحياة اليومية الراهنة، فحضور الطفل المتدلي مرتبط بفضاء الذاكرة لخلق معادلة مع الحاضر (الموجع – الموحش) المقصى، تتشبث الذاكرة بالأشياء الهاربة من الحاضر والساكنة هناك_:
((أما زالت غرفتي وحيدة
تتمرغ في سكون الوطن
الوطن الذي تلوى على رماد الحرب
الحرب التي تلتهم الذكريات ؟!
))
موسكو 1981
ثمة حضور يومي للمشاهد، مستقى من بساطة الحياة، ومصادفاتها الغريبة، المكتظة، فالأطفال بصخبهم وشقاواتهم والذين يمتنعون عن تسلق سياج البيت، بعد نهرهم، يحولون السياج إلى عازل عن الحياة ذاتها بعد أن كانوا (النبات البشري المتسلق)، وتبادل الأدوار بين المانح والمتسكع والخاضع للمصادفة البحتة، وصبية الحارس التي تراقب ستائر المنزل و تجهل لماذا وكيف وأين توضع تلك الستائر؟!
وتتحول الصور اليومية إلى جزء من الفعل – الحدث المملوء بالغضب والمرارة ويبقى الأمل الذي يفعّل هذه الحيوات المنطوية المقتنعة بحياتها اليومية وهامشيتها التي تحولها اللغة والصور إلى نسيج يضج بالحركة والوجود العيني – الإنساني.

(3)
عام 1973 نشر الشاعر (مهدي محمد علي) قصيدة بعنوان (قصيدة منزلية) اعتبرت في حينه من أهم القصائد التي تناولت امرأة المنزل وعبودية عملها المنزلي اليومي والتي ترى الغرفات والأبواب والشبابيك مشرعة والحديقة مهجورة للعصافير عند الضحى وهي تنقل خطواتها في بيتها لتعيد ترتيبه ، الأواني ، الستائر ، الأحذية ، الأسرة، الكتب المدرسية المبعثرة ,ملابس النوم، كراسي الحديقة, وبعد دورتها تلك في (عبوديتها اليومية – المنزلية) تستدعي ضحكاتهم وإهمالهم المتعمد المملوء بصخبهم الذي يثير الزوابع في بيتها الساكن الآن وتؤاخذهم بأسى مغلف بالحنان والعتب :
((لو يدخلون المطابخ يوماً))
وتظل رهن الهواجس عند تأخر عودتهم، وفرحها بالبيت المتوازن، المرتب، الأنيق بعملها ، وبصماتها، ثم لتبدأ دورة أخرى :

((يصطفق الباب
تملأ ضجتهم باحة البيت والغرفات
والعصافير تهتز فوق غصون الحديقة
والبيت يرتج
)) 1973

بعد سنوات يعود (مهدي محمد علي) ليكتب (هوامش على قصيدة منزلية) عن المرأة ذاتها، التي تفقد الأبناء واحدا واحدا بعد انقطاع توازنها وسكونها القديم وهي ملفوفة بالسواد وتنتقل بين المدن وبوابات المواقف والسجون والأسئلة تشم رائحة الأبناء الذين ((أوغلوا في الكلام)) وتبعثروا هنا وهناك وعند عودتها اليائسة، إلى بيتها القديم، حيث حديقته مهجورة للعصافير ليلا ،وللغربان نهارا :

((ترين البيت خاليا
بينما يمتلئ فراغه بالأناشيد المعادية
تأتي من مدرسة مجاورة
تأتي في كل وقت
لتمحو من على الجدران
أرقاما عزيزة
)) خريف 1979

(4)
في قصيدة (صديق) ثمة مفارقة بين المعرفة وشقاء الوعي ومرارة الأشياء اليومية، وإذ يستدل الصديق على المنزل عبر دلالة الخارج – العتبة الحجرية ، الشجيرة نحو اليمين والممر الضيق الصغير و(المخبرين) غير متوقف على ما هو عارض وسطحي، ولتتساوى مرارة القهوة والحياة -اليومية في فسحة التشبث بالمعرفة وألق الصداقة والصفاء – المُغيّبين
((قهوته مرة
وابتسامته مرة
وهو يجهد أن يستضيء الكتب
وكلام الصديق
.))