الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                        الأحد 8/5/ 2011

 

رحلة السلام والشعر
على نهر العشق

علاء شاكر

كان الشعر أولا وأخيرا .. الشعر أن تكون في رحلة نهرية إلى الجنوب ،الشعر أن ترى الوجه الآخر للمدينة بوجهها الحسن ، الشعر يعني النهر ووقع سحره على النفوس ، وهو يدعوها للغناء والضحك والاستمتاع كما يدعوها إلى التأمل والهدوء والصفاء ، عطر البساتين يحمله النسيم البارد ويضرب الوجوه ،والشمس تلملم نفسها وترتحل بعيدة بينما السفينة تواصل رحلتها بسلام إلى أبي الخصيب ... جيوش الفرح تغزو القلوب وتهدهد الروح وتعلو الضحكات وينفلت القلب من إساره ويبوح .. لم تكن النوارس حاضرة هذه المرة ، النهر كان وحيدا صامتا هادئا ، النوارس تذكرنا بالنهر ... والنهر يذكرنا بالنوارس ، ثمة نورسات فوق سطح السفينة يقتعدن الكراسي، كن َّ يغنين ويطربن القلوب بجمالهن ، سعفات النخل من على الضفة وشعرهن المنسرح يلاعبه النسيم ، موجات النهر يميَّلن أكتافهن ويرتفع صوت الغناء ، ويعلو شدو الحناجر ... ــ كيف لك أن تحيا ببهجة ناقصة .. وحنجرة لا تعرف الشدو..*

كنت آخر من ركب السفينة،دوت محركاتها وعلا هديرها ، وأطلق ربانها صفارة الانطلاق التي تشبه نفخ البوق .. ، بدأت حركة مسيرتها عبر النهر هادئة وجميلة اجتزت الممر الذي يفصل بين حافة بدنها والغرف بنوافذها الكبيرة متجها صوب السلم الذي يفضي إلى سطح السفينة ، كانت رحلة نهرية لوفد الشعراء القادم من البعيد، مررت بغرفة الكافتريا وكان بعض الشعراء يجلسون إلى طاولات صغيرة، تصلهم أقداح العصائر والقهوة من العاملين الذين يرتدون زيا بحريا يليق بسفينة سياحية، لمحت من نافذة الصالة المزججة الشاعر عبد الكريم يهمس بالكلام لآخر يشاركه المكان ، تجاور الكافتيريا غرفة صغيرة واجهتها من الزجاج تكشف عن الموجودين ، طاولة عريضة وتحفها كراسي شغلتها شخصيات ثقافية كان القاص محمود يجلس في الطرف وكان بوجه متعب وهو يجهد نفسه في السماع ، باديا عليهم الاهتمام وهم يصغون لما يطرحه الاتروشي ، صعدت السلم ومن الزجاج رأيت بعض الشعراء داخل صالة المطعم وهم ينشدون الشعر في جو ضبابي ومزدحم ، وأنا اصعد السلم اصطدمت بشاب وصبية كانا واقفين نهاية السلم تجاوزتهما إلى السطح ،كانت وفاء تقف إلى سياج سطح السفينة ،تشغل كاميرة جهازها المحمول ، كانت مجموعات منهم تجلس إلى طاولات وأوجههم إلى ضفة النهر، والبعض تسلق سلم قصير يؤدي إلى سقف غرفة قيادة السفينة، والبعض الأخر وقف إلى سياج سطح السفينة، اجتزت الجموع ووقفت في مكان قرب مؤخرة السفينة بين المدخنتين العموديتين ، أراقب وفاء وهي ترسم ابتسامة عريضة ، كأنها تدعوني للوقف قربها ، اقتربت منها ومن الخلف سمعت احد الشعراء العراقيين يقول ( شبر واحد ... لو امتلك شبر واحد هنا .. ( حياة .. لا امتلك بقرة ..لأعيش طويلا ..بين الأشجار) * ....كانت تخبرني أنها ستعود قريبا إلى الوطن اقصد وفاء والكآبة بدأت تخترق قلبها .. وعندما أخبرتها، انك في ألمانيا لا تشعرين بالغربة مثلما نشعر هنا .. ما لك بوطن لا يرحم أهله .. تقول بصدق ، لنتبادل الأمكنة .

كانت تسجل بكاميرة جهازها المحمول أمكنة الضفة التي تمتد على طول النهر ، من لحظة انطلاقنا والسفينة قد اجتازت (التعليمي) المستشفى الذي يرمي بوجعه على كورنيش النهر، ويصلنا عبر نوافذها أنين المرضى الراقدين ، بدا الكورنيش الصغير الذي ينتهي ببوابة القصور الرئاسية المحرمة ، ولأول مرة أشاهد ما موجود خلف البوابة ، آيات من الجمال لقصور مبنية بطراز شناشيلي قديم ، تعود لفترة الملكية لعائلات إقطاعية مالكة ، دونمات من البساتين ـ اللاحق يغتصب السابق ـ سرقت في وضح النهار ومعها مساحات شاسعة من البساتين وسورت بسور عال مخيف ، لا يخترقه إنسان ، وقد رممت القصور بأخشاب الصندل والصاج ونقشت النقوش على الأبواب والجدران وهي تحمل صور القصور الملكية مثل قصور سليمان وبلقيس ، غنية بالتحف والهدايا والغرائب ،حماماتها الكبيرة والمترعة بالماء الملون والمسابح ، صنابير الماء مطلية بالذهب أما كراسيها وأسرتها وسقوفها ومراياها وحجراتها وصالاتها وتحفها وثرياتها وأرضيتها المرمرية فهي قادمة من وراء البحار ومذكورة في خيالات قصص (ألف ليلى وليلى) وجدرانها محفورة بنقوش عربية إسلامية رسمها امهر النقاشين،كان يأتي بهم من المدن الفقيرة ، حرفيون معماريون ونجارون وفنانون ونقاشون ورسامون،يعملون ليل نهار تحت رحمة الجلادين ، كأنهم عبيد بنو إسرائيل ، ليبنوا الصرح العظيم ، أربعة قصور لأربعة ملوك عرب ، القصر الكبير الذي يتوسط المجموعة احتلته القنصلية البريطانية ، وكان هذا فال سيء أن الثلاثة من الملوك الباقين سيوافون ملكنا في قصور من نار في جهنم .

كان النهر يسير بنا عبر حكاياته ونحن ننصت لجمال سردياته التي تظهر أمامنا ، عرائش من الأشجار تظلل الجرف ،سعف النخيل يظلل الجرف بخضرته الداكنة، بيوت تنام على حافة النهر ، صبية يجلسون بصمت تشغل أيديهم صنارات الصيد قوارب صغيرة مربوطة بالحبال إلى جذع شجرة كبيرة ، نساء يقتعدن العصر بعد كدح طويل في الحقول ، فتاة بفستانها الريفي تخطف جهازها المحمول وتصورنا بينما وفاء تومئ لها بكفها .

كان الغناء يتصاعد مع صعود السفينة باتجاه أقصى الجنوب ، وتخلفنا الشمس وهي تنزل وراء أفق النخيل ، نمر على أكثر أماكن أبي الخصيب سحرا أخاذا ، الوجه الآخر لأبي الخصيب ، ضفاف وبط وصيادي سمك وصغار يلوحون وسفن صيد صغيرة راسية وسفن أخرى غارقة ، رائحة الماء والأشجار والأزهار والحشائش والدغل ، كان قرص الشمس يهبط رويدا ، كانت تريدني وفاء أن ادخلها في الفلم ، وأن اجعل وجهها قرب قرص الشمس وهو يريد الاختفاء وراء الأفق المصبوغ بالغروب ، وبينما تختفي ابتسامة الشمس تظهر ابتسامتها العريضة ،كنت اعرف يقينا أن خلف هذه الابتسامة حزن كبير ، هي تعرف بأنها ستبكي كلما سترى قرص وجهها يختفي وراء الأفق الملون بالغروب ، كانت الضفة تستمر بالمسير ولكنها تبدل أماكنها ، وكان الصبية يلوحون لنا ، وكنا نلوح لهم ، بكاميراتنا ، كنت امتص حزن وفاء كله ، وهي تسرف بالحزن والفرح معا ، تشارك البعض بأغاني عراقية قديمة ، وكانت الأغاني تتصاعد مع صعودنا اتجاه البحر ... ( ياعشكنا فرحة الطير ليرد لأعشاشه عصاري ... ياعشكنا .. كانت تعرف إن فرحها سوف لن يدوم ستترع بالحزن حينما تغادر في الطائرة عائدة إلى ألمانيا ، قلت لها ، هذا يذكرني بلحظات الالتحاق بعد انتهاء الإجازة العسكرية.

البعض يغير مكانه ينزل إلى الأسفل إلى الكافتريا والبعض الآخر يصعد إلى السطح ، وكانت حركة المسافرين في السفينة لا تهدأ ، راكبين فقط كانا ثابتين في مكانيهما ، صبية حسناء وشاب في منتصف عقده الثالث قرب نهاية السلم يلفهم الغروب ، أو منهم من وقف في الممر يراقب النهر ، والبعض الآخر جلس على دكة عريضة، انتبهت وقتها لمغادرة محمود الغرفة ليقف في الممر متكئا على حافة البدن متأبطا كتبه وحقيبته الصغيرة ، كان يبدو عليه التعب أو الضجر، انه يختزن في داخله ذكرياته الجميلة ويقارن هذه اللحظات التي تمر مع تلك التي مرت ، العمر معطوب وتفوح منه رائحة الشواء ، أو العمر ما عادت تغريه رحلات الشباب ، كان هو يتأبط كتابه والشاب الفوق نهاية السلم يتأبط الصبية الفرحة بأنوثتها وغبائها ، ولا تعرف إن من قادها إلى وكر الثعالب هو اقرب الناس إليها في الحياة .

الجميع منغمسون ،إلا أنا ـ بالحديث والضحك والهمس واللمس والدخان واللمز والهمز واللفتات والانفراد .... ما الذي أحزنني وقتها وأشعل فتيل كآبتي ،كنت اسحب دخان حزني إلى صدري عميقا ، وازفره فيتلبد الجو بغيوم سوداء ويضيع مع ظلام الغروب ، ـ الملاك يحشر الشياطين ـ كم تبدو اللعبة قروية ـ ملائكة تبكي ـ وشياطين يغنون ..* وظللت أسير بين الحاضرين وكأني وحدي ، حاولت أن امحي صور الموجودين على السطح ، واوصدت عليهم بابا من الحديد السميك حتى اختفت اصواتهم ولغوهم ، جو الغروب ، والقمر وحده يضيء ، والسفينة تسير على الماء بهدوء ، وأخرجت موسيقاي ، التي اختزنها عند الحاجة ، كلما مر بي حزن ، ـ تسربت مواجعي ... رغم إني .. أقفلت عليها .. بجيش أصابعي .. وتسعين رداء ..* واجزم أن البعض منهم كان يخفي حزنه ولكن يغلفه بابتسامات عريضة ناشفة ، ويخفي خيبته بغناء صادح لا يشبه الغناء ، ويثرثر بأحاديث ليس وراءها فائدة ، لعلها تافهة .. البعض نفق من الصمت ، والبعض ساح منه ضجره ، تدوسه الأقدام المتصارعة وهي تنتقل داخل ممرات السفينة ، انتبهت إلى طفلة سمراء ولها جديلتين طويلتين وثوب بسيط ،تقف قربي لا ادري إن كانت تتأمل الغروب أو الضفاف البعيدة أو صورة وجهها في الماء، حاولت أن أشاكسها بقولي .. ستصبحين شاعرة مثل أبيك (علي أل .. ) .. بعمرها يمكن أن تصمت أو تفرح بتصور نفسها شاعرة مثل أبيها ، تحضر المهرجانات الشعرية وينشر لها في الصحف وتتصدر المجالس ويطبع لها الكتب ..ولكني فوجئت بقولها .. لا أحب الشعر ولا أريد أن أكون شاعرة .. ماذا تحبين ؟ أحب العلم.. سأكون عالمة .

الأميرة صاحبة الجلالة ، غاب أميرك في زحمة الحياة، شاب رأسه ، وكبرت بطنه ،وكثر عياله ، انه فلاح يا أميرتي ،عاد إلى أرضه ، يزرع البامياء في بستان أبيه السراجي ، ما عادت تغريه العطور ، والملابس المخملية ولا سحر المرايا ولا السجاجيد ولا الرحلات ،كل نهار ومساء يراقب الأصابع وهي خضراء طازجة ، كيف تنفطم من زهرتها ، وتسقط لينة مترعة بالماء ، يجمعها بكفيه الخشنتين ،ويودعها سلة الخوص ،كيف يمكن لهاتين الكفين الآن، تلامس ترف خدودك ،وتسرح نعومة شعرك ، أميرك فلاح يا أميرة ما عادت تغريه كؤوسك الكرستال وهو لا ينسى في طواشه بين شجيرات التوت والنبق والبمبر وشتلات البامياء والخيار ،لا ينسى كأس خمرته ،يكرعها ويطوش ... يكرعها ويطوش ومزته قضمة رأس الفجل الأبيض.. حافي القدمين .. إلى آخر الليل ... واحلم انه يحلم ، تقفين عند شرفتك في قصرك المهيب، في انتظار مسهد ،من بعيد ترتفع تلول الثلج ، يكشف بياضها نور القمر، تبدين شفيفة الثوب ، باذخة في عريك ، خدرة من الشوق ، ويأتي ببيجامته المقلمة العريضة، يتسلل إلى أسفل شرفتك ، وينادي بين شجرات الورد، أميرتي .. يهمس إليك .. يقرأ ويقرأ أشعار الغزل والعشق ، تتورد خداك ، جلنار ورازقي ، تسحبينه بغنج إلى مخدعك ، وتختفيان في بياض الشراشف ... وأفيق ..

أفيق على أصوات غناء .. مروان عادل وعدنان الفضلي وعمر السراي ووفاء الربيعي وهادي الناصري وحمد دوخي وآخرين .. في مؤخرة السفينة وهي تريل .. غنوا .. مرينه بيكم حمد .. ياعشكنه .. حلو وكذابي .. غريبة من بعد عينج .. وأغاني حلوة مع الغروب .. تشدو حناجرهم بأغاني عراقية قديمة توقظ الحنين وتنبش الذكريات .. والسفينة تقفل رحلتها لتعود إلى كورنيش النهر وكانت عدسات التصوير تجمد لحظة الفرح، تؤرخها، تعيدها لحاضر غابت فيه الضحكات المجلجلات والغناء .






 

free web counter