الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 27/7/ 2010

 

"أبو إسحق الصابي: درر النثر وغرر الشعر"
قراءة في كتاب للأستاذ الدكتور قيس مغشغش السعدي

فرهاد مصطفى

" أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها"، ظلت هذه العبارة في ذاكرتي مذ قرأتها في الجامعة شاهدة على زور كتابة التأريخ الذي يكتب بأمر الملوك والولاة. وهي العبارة التي كادت أن تضع قائلها " أبو إسحق الصابي" تحت أرجل الفيلة بأمر من الأمير البويهي عضد الدولة الذي ملك حكم بغداد والعراق إبان الخلافة العباسية في زمن المطيع لله في القرن الرابع الهجري. كان الصابي صاحب ديوان الإنشاء والمستخلف على الوزارة في أيام الوزير المهلبي والأمير عز الدولة بختيار. وقد نقم عضد الدولة المخاطبات التي تصله والتي كان الصابي يكتبها على لسان بختيار، فلما ملك العراق سجنه واشترط للعفو عنه أن يضع له كتابا عن تأريخ الدولة البويهية. إنشغل الصابي وهو بسجنه بوضع الكتاب الذي أسماه" التاجي" وهو ملزم بمجاراة حاكمه وسجّانه فيما يؤرخ حتى زاره من كان يحسبه صديقا فسأله عن حاله وعمله فقال قولته التي ذهبت مثلا وصارت حكمة في زيف التأريخ الذي يوثقه الغالبون. فليصحو اليوم أبو إسحق الصابي ليرى كم هي الأباطيل التي تنمق والأكاذيب التي تلفق في العراق حكما ومساومات وإتفاقات باطنة وباطلة، وجميع العراقيين يكاد يكونون تحت أرجل الفيلة في حقوقهم ورأيهم وإنتخاباتهم ومناشداتهم وخدماتهم وضياع ثرواتهم...

لقد عادت ذاكرتي إلى ما درسناه عن أبي إسحق في إنشاء الترسل والبلاغة والسجع حينما سررت بأن أجد كتابا خاصا بهذه الشخصية الأدبية الفذة والسياسية البارعة يضعه أحد أحفاده عنه هو الأستاذ الدكتور قيس مغشغش السعدي وهو اليوم من أبرز أعلام المندائيين بعنوان " أبو إسحق الصابي: درر النثر وغرر الشعر". والجميل أن تتبنى وزارة الثقافة في إقليم كردستان طباعة الكتاب ونشره فذاك دليل الإنفتاح والتقبل والتذوق الأدبي. وجدت الكتاب في إحدى مكتبات أربيل أثناء زيارتي لها. سارعت في إقتنائه لأجد مؤلفا شاملا يقع في 460 صفحة مشتملا على ثلاثة أبواب تناول المؤلف في بابه الأول نشأة الصابي وسيرة حياته وديانته، وعدوله عن مهنة آبائه وأجداده في الطب إلى الأدب وترقيه فيه حتى تربعه على كرسي ديوان الإنشاء، هذا الديوان المهم الذي ظل حكرا على المسلمين في دولة الخلافة الإسلامية، حتى كسر تلك القاعدة الملزمة الأديب الصابي بكفاءتين: الأولى، كفاءته الأدبية والمعرفية المقتدرة التي جاوز بها مناظريه من الكتاب، والثانية الأخلاقية بما عرف عن الصابي من خلق راق وحفظ للقرآن الكريم قيل أنه كان يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وكذلك السيرة والأحاديث النبوية والأحكام والشريعة بما لا يحتاج إلى سؤال عند الكتابة في كل المواضيع التي تخص نظام الدولة على تنوع المخاطبات فيها. كما أنه كان حسن العشرة للمسلمين حتى أنه يصوم شهر رمضان معهم موالاة وتأدبا، لكنه بقي على ديانته رغم أن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة إن هو أسلم.

ويطلعنا المؤلف على مدى ما مدح به الصابي من قبل الشعراء والأدباء، ولعله يأتي بجديد في أن يثبت المخاطبة بينه وبين الشاعر المعروف أبو الطيب المتنبي، كما أن المؤلف تابع سير حياته حد أن يجهد في إيجاد مكان قبره في مقبرة "الشوينزي"، ما يسمى اليوم مقبرة الشيخ معروف.

وفي الباب الثاني يتناول فيه المؤلف الصابي الكاتب في كل أدبه وتصنيف رسائله التي زاد ما وصلنا منها على 1000 صفحة من حيث أغراضها وقيمتها التأريخية والأدبية ويتحفنا برسائل بليغة بعضها ينشر لأول مرة تحقيقا من بعض المخطوطات في جامعة لايدن بهولندا وبذلك يوفر فرصة الإطلاع لغير القادرين على الوصول إليها. وفي جميع ما عرض من رسائل يوقفنا المؤلف على الكثير من قيم البلاغة والترسل والسجع والمحسنات اللفظية.

أما الباب الثالث فقد خُصص لأبي إسحق الشاعر فيما وصل من شعره ذلك أن ديوان شعره قد ضاع كما أن كتاب المختار من شعر أبي إسحق الذي وضعه الشريف الرضي بحسب ما يوثق قد ضاع أيضا. وما بقي وتناقلته الكتب ليس قليلا. وقد أجاد المؤلف في جمع كل ما حوته الكتب من شعر الصابي وتم تصنيفه بحسب أغراضه في التهاني والمدح والغزل والهجاء والرثاء والمرض والشيب وأغراض أخرى.

ومن أبرز ما تم توثيقه في الكتاب علاقة الصداقة الراقية بين أبي إسحق الصابي والشريف الرضي بجميع المخاطبات التي تمت بينهما شعرا ورسائلا، ليوقفنا المؤلف على القيم الراقية وراء تلك الصداقة وأن الفضل هو الذي ناسب بين الإثنين على الرغم من إختلاف الدين والعمر بينهما.

والكتاب يقدم لنا قيمة التسامح الديني التي سادت في تلك العصور بحيث مكنت المتفوقين كفاءة" التكنوقراط" أن يحتلوا مكانتهم بعيدا عن التمايز الديني أو العرقي. فليتنا نفعل اليوم ولا نعيد كلام الصابي في هجائه للدولة التي تحكم تسلطها على الناس بقوله البليغ:

ألا قل لأهل الدولة النذلة التي       ثـوى داؤها فينا فأعيا دواؤهــا
لقد كبت الدنيا على أم وجهها       فـنحن لها أرضٌ وأنتم سماؤها
فلا تفلحوا بالحظ منها فأنهــا       قـليل على هـذا المحال بقــاؤها

مات الصابي واستحق الرثاء الطيب والموضوعي الذي كان أبلغه وأقيمه ما رثاه به صديقه الشريف الرضي في مرثية طويلة صارت مشهورة بمطلعها:

أعلمتَ مَـن حملـــوا على الأعــوادِ       أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
جبلٌ هوى لو خرَّ في البحر إغتدى        مِــن وقعــــه متلاطم الأزبـــادِ

وكلمة شكر قليلة لمؤلف الكتاب الدكتورالسعدي الذي وضع بأيدينا هذا التوثيق لشخصية أدبية شغلت المحافل في زمانها وتناقلت أدبها المجالس والمدارس ليس عربيا وحسب بل إن بعضا من قصائد ورسائل الصابي قد ترجمت إلى الفارسية والإنكليزية والألمانية. والكتاب جدير بالإقتناء والقراءة والحفظ كمرجع شامل لهذه الشخصية الأدبية والسياسية المتقدمة.

 

free web counter