الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 24/11/ 2009

 

عبـد الكريـم كاصـد
الشاعر.. خارج النص
(الفصل الثاني)

تأليف: عبدالقادر الجموسي

الطريـق إلى عـدن

ولادة ثانية:

الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نفتتح هذا المحور بالحديث عن تلك الرحلة المخاطرة التي اجتزتها عبر الصحراء من العراق إلى عدن، على أمل إعادة قراءتها بمنظور جديد.
يبدو من خلال النص الذي كتبته عن هذه الرحلة أنها، رغم ضراوتها، كانت عامرة بعناصر الدهشة اللازمة لجوهر الشعر: "ليلة يكاد صحوها أن يمطر"، "آثار حيوانات غامضة في الرمل"، "ثلاثة جراء/وحيدة في القفر"، و "بدوي يقبل من الخلاء ليذهب إلى الخلاء كأنه سهم يخترق الأبدية". كيف استطعت وسط ذلك الهول و الذهول الذي وصفته أن تحافظ على يقظة حس الشاعر فيك وتستجيب لبواعث الدهشة بهذا الشكل المرهف؟
- ما إن ابتعدنا عن القرية واحتوتنا الصحراء حتى ألفيتني إزاء كون شاسعٍ مضيء ينحني كالقوس فيزداد إضاءةً. ولا أدري كيف نبدو وسط هذا الكون لمن يرانا على الأرض أو في السماء: مخلوقات تدبّ على الأرض كالنمل، ولكن يا لظلالنا الهائلة وهي تمتدّ لتغمر الكون وتهبه وهو الساكن حركة وإيقاعاً بطيئاً وألفةً في اتساعٍ مدهشٍ ملئ بالأصداء. ولم يكن النهار بأشد غرابة إذ امتلأت الصحراء فجأةً بالآثار...آثار تحوطنا من كلّ جهةٍ، حتّى حسبنا، لكثرتها، أن نجوم السماء آثارٌ هي أيضاً يطبعها الليل فوق سماء الصحراء:

آثارٌ

آثارٌ لجمالٍ ترعى

آثارٌ لجمالٍ آتيةٍ من جهة الشرق

آثارٌ تتعقبنا حتّى الماء وأقدامْ

أصغر من راحة كفّ

( أين تُرى غادر ذاك الطفل

وغابت أظلاف الأغنامْ ؟ )

آثارٌ لذئابٍ عطشى وحوافر خيل

آثارٌ للنمل

يخطّ كتابته البيضاء

أثارٌ

أثارٌ سوداء

آثارٌ يطبعها الليل

فوق سماء الصحراء

في هذا العالم الخلاء إلاّ من ظلالنا والآثار لم يعد للهول مكان في قافلتنا الصغيرة. لقد أصبحنا جزءاً من هذا الكون الصحراويّ المضيء بعيداً عن عالم الأحياء و الأموات وعن هوله، ومخاوفه، ورغائبه ولم يُفاجئنا العالم ثانية إلاّ بعد ليال حين باغتنا ضوء سيارة بعيد حسبناه قريباً وقد كنّا في ارضٍ منخفضة...حادثة أو حادثتان ويرجع الكون إلى صفائه وسكونه العجيبين، وإصغائه المرهف إلى هذا السكون الذي نعبره صامتين غير أنّا حين يحلّ المساء ننيخ الجمال ونسرع، رغم أجسادنا المنهكة من ركوبها، إلى جمع الحطب لنشعل النار: 

عندما عضّت الشمسُ (عين النخيلة)،

نادوا: أنيخوا

ثمّ سارت على مهل للمياه الجمال

عندئذٍ نبدأ تسليتنا الوحيدة في ليل الصحراء: القص. نتحول أطفالاً نصغي لحكايات تمتلئ بكل ما هو متخيّل، على حدّ تعبير جمال الدين بن الشيخ، من جن وعفاريت وجمال طائرة وغيلان، ويبدو الكون سلساً عذباً مصغياً لا لنفسه بل لنا، بينما تدور كؤوس الشاي وعيدان الأشجار، وكأننا لسنا على الأرض، بل في كوكب آخر. وحين ينتهي طقسنا الليليّ وينهض الراوي (مطشر) والساهرون إلى أسرتهم الرمل يبقى الشاعر ساهراً وحيداً لتبدأ الحكاية ثانية و قد أمسى الشاعر أحد شخوصها وحيداً في هذا القفر:

" مطشّر" رحل الأعرابْ

وبقيتُ وحيداً في القفر أدقّ بلا أبوابْ

في هذه الأيام السبعة التي أمضيناها في السير في الصحراء لم تعد تشغلنا سلطة أو بشرٌ حتّى ولا ماضٍ، بل حاضر حسب..حاضرٌ يتكرّر و يتكرّر صحراءَ تمرّ بآثارها وحيواتها وفضائها: أرنب بريّ بأذنين حمراوين يمرق وكأنه يحمل ناراً في أرض بيضاء ملحية تزلق فيها الجمال، خيمة وحيدة اشترينا منها وجبتنا الوحيدة..خروفاً التهمناه في جلسة واحدة. بركة صغيرة تلوح بين مسافة وأخرى وقد احتشدت حولها آثار حيوانات شتّى. نخلة وحيدة بفسائلها المكتظة أغادرها وأنا أتلفّت إلى خضرتها المتوهجة في شمس الصحراء.. صحراء تنبسط وتنبسط و معها نحن ننبسط فنألفها وتألفنا.. فلا خوف هناك ولا قتل ولا مباغتة بل امتداد مكشوف لانهائي ّ حتى إنني تساءلت: في الصحراء/ أين ترى يختبئ الموت؟

كانت روحي مفتوحة على هذا العالم الجديد تستقبله كما يستقبل الطفل العالم مدهوشاً .

       لقد طالت الدهشة حتى اللغة نفسها حيث وجدتم جملا و عبارات تتخللها، حسب تعبيرك، ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنة واندثرت و لكنها لم تندثر في الصحراء. قلت: "لم أصدق أن مفردات امرئ القيس و عنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشاق الذين لم يشعروني أبدا بمعرفتهم بهويتي". كل شيء يعود بنا إلى البدايات، بداية العالم و رحم الكلام، لكأنها رحلة إلى البدايات الأسطورية للشعر.
-
نعم كأنها رحم ضَمّني .. كأنها طفل الحياة في ملحمة الماهابهاراتا وقد احتوتني بجسدها لأرى الكون في بكوريته وبراءته الأولى بعيداً عمّا يحدث لي. صحراء لا تمتدّ في حاضرْ فحسب وإنما تنبسط في ماضٍ هو حاضر أيضاً..ماضٍ سحيق يعود حين تجمعنا النار حولها بألفاظه وعاداته وبساطته.

كان صديقي المهرّب الحريص على نظافته يأخذ دوماً على عاتقه تهيئة العجين ليطعمنا خبزه اللذيذ . يسمونه خبز الملة الذي ورد في قصيدة الحطيئة الشهيرة التي يصف فيها ضيفاً حلّ عليهم ولم يكن لديهم ما يقدمونه للضيف :

                عراة حفاة ما اغتذوا خبر ملّة         ولا عرفوا للبُرّ مذ خلقوا طعما

أمّا الرشأ، أي الحبل، وغيره من الألفاظ فإنها تمرّعلى ألسنتهم وكأننا سنلتقي بعد قليل بامرئ القيس أو عنترة العبسيّ وهو يترجل قادماً بفرسه .

كانت لنا لذائذنا وأفراحنا الصغيرة التي تشبّ في الليل مع النار، وكانت لنا دهشتنا بهذا العالم البكر. ذات مرّةٍ نزلنا قرب شجيرات خفيضةٍ فاقتربت منّا أفعىً كبيرة. تخيلتُ أن المهربين سيقتلونها في الحال ، لكني فوجئت باقتراب أحدهم من الأفعى ليحملها بعصاه هادئاً إلى ناحية بعيدة دون أن يخطر في باله أن الأفعى قد تقترب منّا ثانيةً.

حين يجئ الليل بقوسه المضيء ثم يعقبه النهار ولا ترى حولك غير كون صامت وحيوانات تمر بآثارها فكيف لا تشعر كأنّك في عَوْدٍ أبديّ ترى الوجود وقد شفّ بعد أن ضاق حتى أن يكون غرفة تأويك في غابة الموت التي اسمها المدينة.

      ما دمنا نتحدث عن رحلة في قلب الصحراء، لا بد لنا، في هذا المقام، من أن نقف احتراما، ولو لوهلة، أمام ذلك الكائن الميثولوجي الذي عبر بك الصحراء، و أقصد به الجمل؟ هلا حدثتنا عن جمالك الميثولوجية هاته؟
-
حين صدر ديواني الشاهدة في بيروت عن دار الفارابي، تناوله العديد من الشعراء والنقاد، وبين  هؤلاء الشاعر بسّام حجّار الذي نعت جمالي أنها جمال ميثولوجية. وهي قد تكون ذلك بالنسبة إليّ الآن، غير أنها كانت آنذاك جمالاً من لحمٍ ودم لها لحظات فرحها الغامر أيضاً حين تستروح الماء من بعيد فتهتزّ طرباً وينبت لها أجنحة فتكاد تطير (آنذاك عرفت لماذا تُنعت في الحكايات بالطائرة)، وحين تنيخ جوارنا تجتر طعامها على مهل. تبدو وكأنها تصغي  لحكاياتنا، مستسلمة لاسترخاء عذب بعد مسير طويل:

الجمال الخفيفة كالهواء

الجمال الحبيبة المسحورة

توسّدت ذراعي

ورحلت ..

تبحث عن مقيل

كنّا نفضل السير أحياناً على ركوبها ولاسيّما في يومنا الأخير إذ يسبب ركوبها المتواصل آلاماً شديدةً في الخاصرة حتى تستحيل إلى حصىً يقدح ، غير أنّا ، أنا ومهدي ، كنّا نتحملها فلا نشكوها لأحد أو نطلب استراحة قصيرة لتهدئتها ، فيضطرّون ، هم ، للتعبير عنها طالبين استراحة قصيرة تمنوا لو كنّا نحن الذين طلبناها مثلما عبّروا لنا عن ذلك فيما بعد مازحين.

لقد أبدت الجمال صبراً عجيباً وهي تحملنا فنلوح على ظهورها في الليل كأننا شواهد سوداء، غير أن خوفها كان عجيباً أيضاً، في مرّتين: مرّةً حين اجتزنا بقعة ماء واسعة تخللها شجر وطئته الخنازير فكانت تنزلق مذعورة وتمتنع عن السير فنضطر إلى جرّها عنوة وهي تجأر. ومرّةً أخرى حين باغتنا ضوء سيّارة بعيد حسبناه قريباً لأننا كنا في منخفضٍ فارتعبت ولكننا استطعنا تهدئتها إلاّ جملاً فرّ مذعوراً براكبه فلحقته وأوقفته. قالوا لي أن الجمل يمكنه في مثل هذه الحالة، أن يقتلني، وحسبوا منّي ذلك شجاعة لا جهلاً بعادات الجمل:

ما لهذا القطا لا ينام ..؟ اقتربنا نحاذر في الليل .. يلمع ضوء

سحبنا الأزمّة ( تصمتُ رجرجةُ الماءِ في الرحل ) يقترب الضوء

نهبط منحدراً منحنين شواهدَ سوداء فوق الجمال المنيخة ..

تجأر .. ننهرها، ثم يبتعد الضوء...

ترفع أعناقَها للرحيل.

ما رأيت الجمل في أيّ مكان، فيما بعد، إلا وأحسست أنني ألتقي مخلوقاً عزيزاً لديّ. بعد وصولي إلى عدن فاجأني الجمل وهو يسحب عربةً وأثقالاً و يسير على الأسفلت ذليلاً يائساً هزيلاً فيحضرني جملي الذي كاد أن يطير بي يوماً حين استروح الماء . وكانت المفاجأة الأخرى في صنعاء حين دعيت إلى حضور احتفالاتها بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية. كنتُ في طريقي إلى بيت إبرهة الحبشيّ وفجأة يستوقفني جمل يلوح في معصرة زيت وهو يحدقّ بي. كان جملاً أسطورياً حقّاً بحجمه الهائل وعينيه الكبيرتين. حتى أنني دُهشت كيف لمثل هذا المكان الضيق أن يتسع لهذا الجمل الضخم. كان يحدّق بي وكأنه يسألني: هل تتذكرني؟

وكثيراً ما كنت ألتقيه في الكتب حين أفتقده في الواقع ولعل أطرف ما قرأته عنه هو ما كتبه فرانسوا دو شاتوبريان في رحلته إلى القدس: "تنتقل القبائل في قوافل، وتسير الجمال في خط واحد فيربط الجمل الذي يترأس الجمال بحبل مصنوع من حشوة النخيل برقبة حمار يكون هو المرشد للقطيع ، ويعفى هذا الحمار من حمل الأثقال نظراً لكونه الرئيس، ويتمتع بامتيازات عديدة". 

ثمة محطة مهيبة في طقس العبور هذا، تتمثل في هروبك في "خزان ماء" صحبة رفقاء لك لتلافي عيون الدوريات. قلت في هذا الصدد: " و حين قدم (خزان الماء) الذي سيحملنا جميعا تقدمنا منه كما تتقدم الضحايا في الطقوس إلى الموت. تكدسنا عشرين شخصا، بعضنا فوق بعض، في رحلة رهيبة استغرقت خمس ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة حين أوشك اثنان منا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزان و تمديدهما ليستنشقا الهواء". إنها تجربة وجودية بامتياز أن يقف الإنسان على عتبة الموت وجها لوجه. هل من موقف فلسفي يمكن استخلاصه من التجربة؟
-
كانت الصحراء لي رحماً لولادة أخرى.. لحياة أخرى.. لأمل آخر. لم يكن الموت حاضراً وقد انبسطت الصحراء فلم يعد هناك مخبأ للموت. لقد خلفت الموت ورائي وعليه أن يقطع المسافة التي قطعتها فلم يفعل. وحتى حين هبطنا في اليوم السابع في منخفض في الصحراء نحن وقافلة أخرى معرضين للدوريات لم يكن الموت هاجساً وقد تخليت عن لحية البدويّ في وجهي، بقطعة مرآة وجدتها.. (لا أدري كيف ؟)  وآلة حلاقة حادة، بعد أن رافقتني هذه اللحية زمناً طويلاً..هل هي تهيئة لموت أم حياة؟ كم يبدو الفارق ضئيلاً أحياناً، لكنني أحسست به حين طُلب منا على عجلٍ أن نتفرق خلف الشجيرات، وقد قدم تنكر الماء، لئلا نكون عرضة للرصد. أرجفني تناثر الهاربين وارتباكهم ودخولهم المفاجئ السريع إلى التنكر فتذكرت غسان كنفاني وروايته "رجال في الشمس" (1963) وندمت. كانت لحظة عسيرة حقّا يمثل فيها الموت بوجهه الغائم الذي لم أتبينه بعد.

لكن ما إن دخلنا باطن الخزان متكدسين بعضنا فوق بعض وصررنا الفقيرة في أيدينا حتى شعرت ثانية، ويا للغرابة، لا برحم الصحراء هذه المرة، وإنما برحم آخر هو رحم الخزان وألفة الآخر. لاحظت أن الرجل الجالس فوقي (أو بالأحرى المحشور فوقي) يتململ فسألته: كيف أنت؟ أجابني: وردة (وهذه هي الإجابة الشائعة لدى ناسنا البسطاء في العراق) ثمّ سألني: وأنت؟ فقلت له: مزهرية. عندئذ ضحك كل من في التنكر وكان عددهم عشرين هارباً. أما صديقي المهرّب فكان يجلس جوار السائق هو ومهرب آخر. وكم كانت اللحظة مشبعة بالأخوة حين تخليا عن مكانيهما لاثنين منا اختنقا. كانا في قعر الخزّان فسحبناهما إلى سقفه ليتنفسا الهواء. كان ذلك قريباً من أحد المخافر. حتّى في أشدّ اللحظات حلكة ثمة خيط من الضوء.

اللحظة الأخرى التي فقدت فيها اطمئناني هي لحظة الوصول حين قذفنا التنكر وسط بيوت لم يكتمل بناؤها بعد. كان انتشارنا انتشاراً أخرق في اتجاهات شتى لائذين بحفرٍ أو حائط. نرتدي ملابسنا المحمولة في الصرة على عجلٍ وكأننا نتحرك في فيلم صامت . لنقف هناك في الجادة العامة بانتظار ما يقلنا إلى المدينة.

الموت الذي خلّفته ورائي كان يسبقني أحياناً لكن لا أدري لِمَ كان يعبرني. مرة عند جسرٍ في أبي الخصيب كنت راكباً دراجتي وقت حلول الليل . لم أكن أعلم أن أمامي سيارة وقد أطفأت أحد مصباحيها الأماميين فحسبتها دراجة بخارية ولولا انحرافي الغريزيّ الذي سلخ جلدي لكنت في عداد الموتى الآن. ومرّة في طريقي إلى باريس قادماً من ليون بصحبة صديق كادت سيارته تصطدم بسيارة مسرعة أخرى قادمة من شارع فرعيّ .. كان الفارق ثانية أو ثانيتين ربما.

ومرة في بغداد في طريقنا من فندق بابل إلى المسرح الوطني قبل عامين إذ حدث انفجار بعد أن غادرنا موضع الانفجار بثوان. ليس الموت بالخصم السهل ، فهو له أيضاً مباغتاته وفعله المحكم الخبيث الذي يفاجئك لا في مغامرة أو حدث بارز بل في استراحة أو استرخاء تراوغه ويراوغك وفجأة يفجعك بأحب إنسان لديك. أتراني أعيش فائض وقتي؟

لقد كان بصحبتك الشاعر مهدي محمد علي، كيف عاش شاعران تجربة من هذا النوع؟ هل قمتما بتأملها سويا فيما بعد؟ و ما كانت خلاصتكما للتجربة؟
-
لم نتأملها معاً. ولم تكن لنا خلاصة هناك، رغم أننا عشنا قريبين في منافٍ شتّى: اليمن، سوريا، الكويت، لأسباب يطول شرحها أهمها ربما انشغالاتنا في تفاصيل حياة المنفى اليومية المعذّبة في هذه البلدان، بالإضافة إلى انشغالاتنا الخاصة التي لم تترك لنا تفكيراً في مثل هذه التجربة. وفي الحقيقة لم يطرأ في ذهننا لا أنا ولا مهدي أن نكتب عملاً مشتركاً. سؤالك نبّهني إلى ذلك. ولعلّ غفلتنا هي جزء من ظاهرة عامة هي ندرة هذا التقليد في ثقافتنا.

     أعلم أنك كتبت عن التجربة في أكثر من عمل أدبي: ديوان "الشاهدة" و"وردة البيكاجي" والنص الرحلي "باتجاه الجنوب...شمالا". ماذا عن الشاعر مهدي محمد علي، كيف كانت معالجته للموقف شعريا؟ ما أوجه الاختلاف و الائتلاف في رؤيتكما الشعرية للتجربة؟ ألم تفكرا حينها في إصدار عمل مشترك يعرض للرحلة ويستكنه أبعادها الوجودية و الرمزية خصوصا بالنسبة لشاعرين مسكونين بلعنة الاستعارة و الرمز وحرقة الأسئلة؟  
- مثلما قلت لك لم نفكر في ذلك. كان غفلة منا نحن الاثنين. لعلّ الشيء الوحيد الذي عملناه معاً هو كتابته عن قصيدتي (الرحيل عبر بادية السماوة)، وكتابتي عن مجموعته التي لم يكتب عنها أحد (رحيل عام 78). وحين كنّا في سوريا نعيش متجاورين كان هو مشغولاً بمشروعه الرائع (البصرة جنة البستان) وهذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى . قرأه الكثيرون: مهندسون أطباء، عمال، طلاب وتمّ تهريبه إلى العراق آنذاك ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً في الجو الثقافي العراقي والعربي الصدئ.

يقول غابريال غارثيا ماركيز، في رواية الحب في زمن الكوليرا، إذا لم تخني الذاكرة: "لا يولد البشر مرة واحدة و إلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا أنفسهم بأنفسهم".ألا ترى معي، الشاعر عبد الكريم كاصد، أن هذه التجربة تحمل معها كل عناصر الولادة الجديدة: "مخاض الرحلة" و "رحم الخزان" و " نسغ اللغة الأول"؟ هل يمكن الحديث عن ولادة ثانية فعلا؟
-
حين غادرت رحم الخزّان كنت حقّاً كالطفل الذي يتعثر في مشيه ويتلعثم في كلامه ويتطلع حوله مشدوهاً وهو يرى العالم أول مرّة. لم تعنني التفاصيل قطّ. كان المنفيّون في عدن يتخاصمون ويتقاتلون وكنت أنظر إليهم مستغرباً حماستهم وصراعاتهم ، غير أنني سرعان ما وجدت نفسي مغموراً في التفاصيل ثانيةً دون أن تغادرني الدهشة وأنا أتطلع من حولي إلى الحياة وهي تنبض في البشر والأشياء دون أن يعيرها الآخرون اهتماماً، غافلين عنها.. عن بساطتها وجمالها. كان مجيء زوجتي إليّ في عدن بهجة أخرى.. هدية أخرى في هذا المنأى الذي اسمه عدن. لقد أصبحت الصحراء تاريخاً سحيقاً عاشه شخص آخر سواي يروي لي حكاياته فأتمثلها وأعيشها وأظنني أنا ذلك الآخر.. الذي لا يصدقني أبداً . أرى جمالي الآن وهي تمر دون أن تعرفني وقد تحملني يوماً في صورة ذلك الآخر.. فالولادة إن كانت خلقاً لدى من انبعث من رماده، فهي قد تكون مخلوقاً مشوّهاً بشعاً يتناسل في سلطة أخرى تشبهها ولا تشبهها، وقد تكرر فعلتها في نفي شاعرٍ آخر.. سلطات تتناسل.

     وردة البيكاجي

    يتفق العديد من النقاد الذين تناولوا منجزك الشعري، على أن ديوان "وردة البيكاجي" (دمشق 1983) الذي يعتبر ثمرة التجربة العدنية، هو ولادتك الشعرية الثانية بحيث يمثل انعطافة أساسية في مسارك الشعري و  الاختيارات الجمالية و طرح الأسئلة على الذات و على الشعر، كما يبدو أنه جاء محكوما بقلق أسئلة مغايرة و بحث عن لغة تعبير قادرة على احتضان هواء التجربة الجديدة. ما نوع هذه الأسئلة التي طرحها عليك وضعك الجديد كشاعر عراقي لاجئ؟
- لا أدري هل يمثّل البيكاجي انعطافةً أساسية أم لا سيما إنه كان مسبوقاً بديوان (الشاهدة) الذي لا تقلّ قصائده أهمية بالنسبة إليّ وإلى بعض من تناولوه من النقاد والشعراء ، لكنني أتفق معك أنّ في (وردة البيكاجي) لغة تعبير أخرى وهواء تجربة جديدة: الحرب والمنفى. والعجيب أن الطفل حاضر في الاثنين ففي قصائد الحرب ثمة مفتتح يحضر فيه الطفل :

في مقهىً يتوقف فيه الأعراب

وسيارات الأجرة

يعبر طفل محشورٌ في باصٍ خشبيّ بين الأغنام

يمدّ إلى المارّة عُنُقاً

ويغادر

كانوا كوفيّات حمراء

أسمالاً بقّعها الزيتُ ورائحة البنزين المحروق

جنوداً يستمعون إلى المذياع

ولا يحتفلون

حدوداً كانوا

وحدوداً سيموتون كماشيةٍ

وحدوداً سيعودون

إلى مقهىً طينيّ يتوقف فيه الأعراب

وسيّارات الجند الآتين من الجبهة محمولين إلى الأهل 

ويظلّ هذا الطفل يخترق المجموعة كالظلّ ، يطلّ ويختفي لكنه لا يغيب أبداً وقد يتمهل في بعض القصائد معلناً عن حضوره الشفاف كما في قصيدة طفولة :

ونهضتُ أيّ طفولةٍ دهمتني بالأحجار! ألقتني كرخّ السندباد بساحة الأطفال، أيّ طفولةٍ نهضتْ فنمتُ ! أعشرةٌ في بيت (زينب) يكنسون البيت، وامرأةٌ تدبّ وراءهم سوداء تهوي بالسلاسل.. عشرةٌ سودٌ من العبدان يلمع فوقهم صيفٌ تأرجح كالغبار على السطوح وبيت (زينب). مسّني القمرُ الجميلُ فصحت بالخفاش: جاء الليل، تعبر ساحة الأطفال أجنحةٌ تضئ. نهمّ بالأحجار.. يصعقنا الضياء. أفيق مرتجفاً. ألمّ خيوطي انقطعتْ، وكأس الماء، أشربُ، والصباح كأنّه وجهي تلبّث برهةً ومضى يدحرجه الهواء...

مثلما هو حاضر في قصائد المنفى ، فحين يعثر البيكاجي يكون الطفل هناك وكأنّ حضوره إشارة إلى حياة لن تتوقف . ليس الطفل هنا شاهداً بل جزءاً فاعلاً في مشهد إنسانيّ وليس وحده بل صار جميع الأطفال .

ثمة تشابك في هذه المجموعة وتناص ولغة وعوالم لم تكن مألوفة من قبل: الموقف وغرائبيته، رامبو وعالم عدن الخرافيّ مما جعل الأسئلة أكثر تشابكاً لا تشير بقدر ما توقظ..  وحين كنت مقيما في دمشق دعيت إلى واحدة من الفعاليات الثقافية في عدن فتوجه إليّ بعض اليمنيين عاتبين لأن الواقع الذي كتبته بمخيلتي لا يرغبون في رؤيته. بعد أعوام فاجأني الشاعر الجميل علي المقري حين كنت في صنعاء برأيٍ آخر هو أن قصائدي كانت نبوءة بما حلّ فيما بعد مشيراً إلى قصيدة بالذات هي قصيدة "ليل عدنيّ".

هل كان هاجس تطوير الأدوات التعبيرية و تجاوز الذات و امتحان اللغة حاضرين بشكل واع أثناء تأليف الديوان؟ و ما هي التجارب الشعرية المعاصرة آنذاك التي وجدت فيها عناصر رؤية جديدة سواء على المستوى العربي أو العالمي؟
-
ليس لديّ هاجس بتطوير أدواتي التعبيرية، فأنا لا يهمني أن أكتب بأيّ أداة تعبير بسيطة أو معقدة. مثلما أنا لا أسبق قصيدتي.. على الرغم من تعدد الأشكال في مجموعاتي الشعرية المختلفة التي لا يشبه بعضها بعضاً. لم يكن شاغلي الشكل يوماً رغم اعتنائي الشديد به وحساسيتي إزاءه فأنا أنفر من أيّ قصيدة مائعةٍ بلا شكل. القصيدة لديّ هي التي تقترح أدواتها. لذلك تفاجئني قصائدي بأشكالها، وقد تجترح هي مضمونها أحياناً. لأنني لستُ بصائغ أفكار حسب وإنما أنا معنيّ بالدرجة الأولى بالقصيدة ذاتها.. بعالمها وما يحتويه من صور و أفكار شعورية ولا شعورية، ومن أشياء لها صلابتها تماماً كأشياء العالم الواقعيّ، مثلما لها مدلولاتها المختلفة التي مهما اختلفت وتعدّدتْ لا تلغي أشياء القصيدة إذ يظل لهذه الأشياء بروزها وثباتها.. من هنا يأتي وضوح القصيدة وغموضها في آن واحد.

لم أكتب قصيدة يوماً وفي ذهني شكل قصيدة أخرى لشاعر آخر. قد يكون للأشكال البسيطة عمقها، وللأشكال المعقدة بساطتها الساذجة. إنّ حداثة الشاعر لا تتأتي من اجتراحه الدائم للأشكال الجديدة. ثمة أشكال قديمة قد تحضر بين فترة وأخرى هي أكثر امتحاناً للشاعر الحديث من الأشكال الجديدة في الشعر، لأنها اختبار لقدرة الشاعر على تمثلها.. اختيار لا يقل صعوبة عن اجتراح أي تجديد إن لم يكن هو التجديد بعينه. ماذا يعني التجديد؟ أليس هو كسر المألوف. فحين يأتي مثلاً شاعر ويكسر هذا التكرار الممل لما يسمى بالأشكال الجديدة التي هي بلا شكل أصلا، ويبث روحاً جديدة في شكل قديم مهمل. أليس هذا هو التجديد؟

ألم يكتب رامبو قصيدته الرائدة في الشعر (المركب السكران) بأكثر الأوزان شيوعاً؟ هل انتهى الهايكو ، وكتابة السونيتات والرباعيات في شعر العالم ؟ في قصيدة لي كتبتها عن البصرة ترددت في وضعها بين قصائدي الأخرى عن المدينة لبساطتها الشديدة فهي التقاطة يومية سريعة لأطفال رأيتهم يستحمون في شط العرب وهم يتصايحون وقد انعكست الشمس بحدة على أجسادهم العارية:

في البصرة

أبصرتْ:

أحمد

و زياد

وغسان

"أحمد .. !"

صاح زياد

فاندفعوا في المدّ

"يا هو.. و .. و"

واشتعلت نارٌ في الماء

ورددّ ت الأصداء

في الضفّة:

"أحمدُ ..

            أحمدُ ..

                     أحمدْ"

ترددت ولكن عندما تذكرت تجارب الشعراء الكبار تخليت عن ترددي لِمَ أضع في ذهني أكداس القصائد والكتابات الضاجة بادعاءاتها ولا أضع في ذهني هؤلاء الكبار؟ تذكرت بالذات والاس ستيفنس وقصائده القصيرة الجميلة ومن بينها هذه القصيدة المذهلة ببساطتها وتوجهها الشعبيّ وهو الشاعر الأكثر تعقيدا في الشعر الأمريكي:  

في أوكلاهوما

بوني وجوزي

يرقصان حول جذع

مرتدين الكاليكو

ويصرخان 

"أوهوياهو

أوهو " ...

محتفلين بعرس

الدم والهواء

(الكاليكو : نوع من القماش)

خلال مقامك بعدن اشتغلت في مجلة ثقافية، هل كان من السهولة العثور على عمل هناك؟ ما هي العوامل التي ساعدت على ذلك؟
-
منذ اليوم الأول لي في عدن طُرح عليّ العمل في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية وهي تكاد تكون المجلة الثقافية الرئيسية الصادرة في عدن. كان يعمل فيها الشاعر سعيد البطاطي والصحفية رضية شمشير. صادف يوم وصولي أن زار الراحل الدكتور حسين مروّة الفندق الذي أقمت فيه رغبة منه في اللقاء بالعراقيين وحنيناً لماضيه في العراق الحاضر في وجوه هؤلاء المنفيين وإحساسه العميق بالرفقة والهم الإنسانيّ. ولحسن الحظ إنني كنت قد قرأت كتابه الصادر حديثاً (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) حين كنت مختفياً في الكويت، لذلك لم يكن ثمة إشكال أو صعوبة حين اقترح عليّ أن أحاوره بعد يومين أو ثلاثة من إقامتي في عدن، أو أدير ندوة يشارك فيها العديد من الوجوه الثقافية في عدن: الدكتور محمد الزعبي من سوريا، الشاعر جيلي عبدالرحمن من السودان، وعلي عقيل من اليمن. حضر أيضاً فيما بعد دون أن يشارك في الندوة الشهيد الدكتور توفيق رشدي.

أجريت الحوار مع الدكتور حسين مروه في الصباح، وأجريتُ الندوة في المساء واحتل الحوار والندوة سبعين صفحة في المجلة. كان من بين الملاحظات التي طرحتها في الحوار والتي تقبلها الدكتور مروه برحابة صدر وتواضع العالم الجليل عدم دقة الكثير من المصطلحات في الكتاب مثل إطلاق (المثالية الذاتية) على فلسفتي أفلاطون وابن عربي نظراً لأنّ المثالية الذاتية إذ تعترف بأولوية الوعي الإنساني تنفي الوجود الموضوعي وتعتبر الأشياء نتاجاً للإحساسات والأفكار بينما للمثل عند أفلاطون وجودها المستقل لذلك كان الأولى نعتها بالمثالية الموضوعية. أقرني في ذلك، بينما اعتبر المثالية الذاتية أكثر انطباقاً على فلسفة ابن عربي. وفي الحوار استفاض الدكتور مروّه بالحديث عن سؤالي الأول له المتعلق بجوهر الكتاب: هل مهمة الباحث هو الكشف عن الأساس المادي للتراث الفلسفي أو الفكري بوجه عام أم البحث عن مدى فعالية هذا التراث في واقعه الاجتماعي الذي أنتجه ومدى تأثيره في الوقت الحاضر وهذا كان أيضاً موضوع الندوة الأساسي في المساء.

بعد الندوة تمت دعوتنا إلى العشاء في مطعم فاخر في أحد الفنادق الحكومية. قُدّم لنا فيه نوع من السمك غير المتوفر في الأسواق لأنه يصدّر إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة، فكان موضع تندرنا جميعاً.

لم ألتق بالراحل توفيق رشدي من قبل لذلك حين تمّ تعارفنا اندهش الشاعر جيلي عبد الرحمن وعلّق ساخراً: هل هذا جزء من عملكم السريّ أيها الرفاق العراقيون؟ كان توفيق رشدي متوترا طوال الليلة صامتاً وكأنه يحدس أن اغتياله واقع لا محالة، جراء التهديد العلني الذي وصله من السفارة العراقية الموجودة في عدن آنذاك. وبالفعل تمّ اغتياله بعد يومين فقط من لقائنا العابر في الفندق. اغتيال معلن .. لم يكن خافياً على أحد..فكيف حدث ذلك؟

كيف كان المشهد الثقافي في عدن آنذاك؟ و ما هي العلاقات التي نسجت مع شعراء المرحلة الذين تبادلت معهم التأثير و التأثر؟
-
لم يكن المشهد الثقافي بتلك الحيوية التي اعتدنا عليها في بلدان أخرى حللنا بها، ولكن ثمة أصوات شابة مبدعة في الشعر والقصة كان من بينهم محمد حسين هيثم الذي أحمل له مودّة كبيرة وهو شاعر مبدع حقا لم ينقطع عن الإبداع والنشر. كان هناك أيضاً أصدقائي الشعراء: شوقي شفيق، عبد الرحمن ابراهيم ، سعيد البطاطي، فريد بركات، والراحل زكي بركات الذي أحزنني اغتياله، ومن القصاصين ميفع عبد الرحمن. بالإضافة إلى الشعراء العرب المقيمين في عدن: جيلي عبد الرحمن الذي تربطني به صداقة قديمة منذ لقاءاتنا الأولى في موسكو، الشاعر المصري الشعبي المبدع زكي عمر الذي مات غرقاً حين حاول إنقاذ ابنته القادمة في الصيف من دراستها في موسكو.

وعلى قصر الفترة التي أمضيتها في عدن.. سنة تقريباً التقيت أيضاً بشعراء قادمين إلى عدن. أتذكر منهم أدونيس، أحمد دحبور، ثم من المغرب الباحث عبد الكبير الخطيبي. وعند مجيء أدونيس ومعه عبد الكبير الخطيبي جمعتنا جلسة في بيت مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية في عدن. كنا مدعوين إليها أنا وجيلي أيضاً عقب الأمسية الجميلة التي أحياها أدونيس والتي قرأ فيها "ملوك الطوائف" وقصيدة عن طفولته كما أتذكر.

قال لي أدونيس، حين غاب جيلي لدقائق:

هل ما زال جيلي يكتب الشعر؟

قلت له : نعم

قال : وكيف ترى شعره؟

قلت : لطيف

قال ضاحكاً هذا يعني بالعراقي ليس لطيفاً.

قلت له ضاحكاً بدوري : لماذا؟

قال : لأنكم العراقيون حين تقولون لطيف فهذا يعني العكس.

لا أزال أعتقد أن ثمة نماذج في شعر جيلي عبد الرحمن ستبقى حية حقاً. و لعل الدراسة التي كتبها عفيف دمشقية عن قصيدته  (حارة عابدين ) في أحد أعداد مجلة "الطريق" اللبنانية هي من الدراسات النادرة التي تحمل وفاءً ودقة وكشفاً لشعر يبدو بسيطاً ولكنه يحتوي على غنىً فنيّ نادر في الشعر. أسرّني جيلي مرّة أنه حين دخل السجن فوجئ بحائط الزنزانة وهو يتحرك فاندهش ولم يصدّق عينيه، وعرف فيما بعد أن حركة الحائط لم تكن غير حركة القمل الحاشد الذي يتحرك عليه:

في السجن

رأى جيلي عبد الرحمن

الحائطَ يتحرّك

فأبى إلاّ إن يوقفهُ

لكنّ الحائطَ لم يتوقّفْ

كانت تدفعهُ بين طوابير السجناء ..

طوابيرُ القملْ     

 قصيدة "الحائط"      

مما أتذكره عن جيلي وزكي أننا دعينا مرة، من قبل صديقنا الدكتور محمد أبو مندور الكاتب الاقتصادي المعروف في عدن بكتاباته الاقتصادية المتواصلة في الصحف، دعوة مرتجلة مستغلاّ غياب زوجته وسفرها إلى مصر، ولم يكن في بيته غير البصل المخلل الذي كان مزتنا الوحيدة تلك الليلة النادرة التي ضحكنا فيها كثيراً. كان موضوعنا الأثير في الجلسة هو نقد قيادات الأحزاب الشيوعية العربية فلم يقصر زكي عمر ولا محمد مندور في نقدهما اللاذع لقيادة حزبهما، وهذا ما فعلته أنا أيضاً. وبقي جيلي صامتاً إذ كان عنصراً قيادياً في الحزب الشيوعي السوداني ومسؤول منظمة الحزب الشيوعي السوداني في عدن. آنذاك التفت إليه زكي عمر بروحه المشاكسة: وأنت إيه رأيك يا عم جيلي؟

عندئذٍ استرسل جيلي في بث همومه وشكواه من قاعدة الحزب وما يسببه له رفاقه من آلام أين منها آلام فرتر. فكان هذا موضع تندرنا وضحكنا المتواصل تتخلله ابتسامة جيلي الوقورة الحبيبة وهو يتقبل تعليقات زكي الجارحة بروح رفاقية عالية وكأنه في جلسة حزبية يمارس فيها النقد والنقد الذاتيّ ، موافقاً على كلّ ما قلناه.

لم تكن إقامتي في عدن خالية من الطرائف والبهجة أحياناً. مرّة تلقينا أنا ومهدي، أول وصولنا إلى عدن، دعوة من قبل عمال أحد المؤسسات الحكومية. وبعد انتهاء الأمسية أهدونا قفصين ممتلئين بفواكه شتى فتقبلناهما مسرورين وسط التعليقات والضحك. كانت الهدية الأولى التي تسلمتها في حياتي عن شعري.

كان من بين أصدقائي الأعزاء آنذاك أيضاً الدكتور عبدالقادر باجمال رئيس وزراء اليمن الحالي وكان دائم الحضور إلى المجلة جالباً معه مقالاته ومحبته وتساؤلاته وكنا نتحدث طويلاً. حين علم بوجودي صدفة بين الحاضرين في افتتاح معرض تشكيليّ في صنعاء عند زيارتي لها السنة الماضية، أسرّ للشاعر الصديق علي المقري رغبته في رؤيتي فكان لقاء مؤثراً حقّاً. كان عبد القادر باجمال نفسه هو ذلك الصديق العزيز بشخصه الحبيب وكلماته المعبرة عن أخوتنا أمام الحضور من الوزراء المستغربين من هذا اللقاء الحميم الخالي من التكلف المليء بالألفة الصادقة وسط هذا الجوّ الرسمي الثقيل.

حاولنا في عدن ألاّ نثقل على أحدٍ، أو أن نُدخل اتحادهم في أيّ إشكال قد يؤثر عليهم في علاقتهم ببغداد ولاسيما أنهم قالوا لنا صراحة أن اتحادهم فقير ويعتمد كلّيا على معونة العراق، بل كنا أحياناً وقد اتفقنا معهم على لقاء مهنيّ نغفل عن الموضوع القادمين من أجله لنشاركهم تحليقاتهم ببعض أوراق من القات التي لا تسعف في اللحاق بهم إلى مقاماتهم العليا مكتفين بالأحاديث اللطيفة والمودة المتبادلة. وأظن أنهم كانوا مسرورين بهذا التغافل. 

الشاعر العربي الوحيد الذي أهديته قصيدة تحمل اسمه في هذا الديوان هو صديقك الشاعر اليمني الراحل سعيد البطاطي. هلا حدثتنا عن عطائه الشعري و عن طبيعة العلاقة التي ربطت بينكما؟ وما جوهر تجربته التي جعلت منه بطلا لإحدى قصائدك؟ ثم ما هي الصورة التي يمثلها البطاطي للشاعر في ثمانينيات القرن العشرين؟
-
كما قلت لك كان البطاطي يعمل محرّرا معي في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية. كان له وجه طفل وعينان صغيرتان ذاهلتان دوماً ولاسيما حين يتناول قاته فيبدو وكأنه في عالم آخر. وكعادة الشعراء لم يكن راضياً بوضعه ، رغم ألفته ووداعته والرضى الظاهر الذي يشيع في وجهه الدائريّ. حلمه أن يغادر عدن إلى صنعاء ، وما من طريق سوى طريق الهرب عبر الحدود بأية وسيلة كانت.

حدث هذا بعد أن غادرت عدن غير أنه لم يكن موفقاً بخطته إذ قبض عليه وأرجع عنوة إلى عدن إلى موقعه الوظيفيّ نفسه في الثقافة الجديدة. علمت بعد ذلك أنه تزوج وسكن في الغرفة ذاتها التي كنت أسكنها أنا وزوجتي في البيكاجي، بعد رحيلي.

لم نتراسل ويا للأسف، ولكن وصلني عندما كنت في دمشق أو بيروت لا أتذكر بالضبط أحد أعداد الثقافة الجديدة وفيها مقالة له طويلة عن مجموعتي الأولى الحقائب مكتوبة بحب نادر مؤثر لم أحتفظ بها إذ ضاعت وسط تنقلي الدائم وهجرتي الدائمة . قيل لي أنه قبل موته كان يذرع البيكاجي كالمجنون ذاهباً آيباً. لم تمهله طويلاً كما يبدو صدمة العودة إلى عدن.

كتبت عنه قصيدتي قبل وصول نبأ موته إليّ، مستحضراً ذهوله حين يتناول القات وبراءته وحبي له وحلمه الدائم بالحوريات وهدايا التمر التي يجلبها من مدينة طفولته حضرموت.. لا أعرف ما مصير أشعاره؟ أو مصير زوجته وأطفاله إن كان له أطفال؟ لقد انقطعت أخباره عني تماماً، وذكرني جنونه الهادئ الخفيف فيما بعد بجنون مريم جارتنا في الطفولة حين خرجت ذات يوم من عزلتها الطويلة التي دامت سنوات، مزينة بإكليل العرس وهي الطاعنة في السن ذاهبة آيبة في الباحة التي تتوسط البيوت المجاورة لبيتها وهي تردّد بصوت منغّم عذب مخاطبةً رفيق عمرها الذي رحل قبل ثلاثين أو أربعين سنة:

معن! .. معن!.. ها أنا قادمة إليك..

إن قصيدة "تشيلي في القلب" (1973) المنشورة في ديوان "الحقائب" (1975) تحيل على ديوان للشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا "اسبانيا في القلب". هل كان بابلو نيرودا، بالنسبة إليك في تلك المرحلة، حاضرا هو أيضا كنموذج للشاعر و كاختيار شعري و موقف من العالم؟
- نيرودا واحد من شعراء عديدين أحببتهم ولم يفارقني حبهم طوال كلّ هذه السنوات، وإذا كنت أحببت نشيده الشامل وقصائده الغاضبة الصارخة بالمأساة في (اسبانيا في القلب) فانني أحببته أيضاً في أشعاره التي تردّدت فيها أصداء وحشته في البقاع النائية ولا سيما أشعاره التي قرأتها بالفرنسية في مجموعته الرائعة (الإقامة على الأرض. كان لخبر موته وما حلّ بتشيلي أفجع الأثر في نفسي . وقتها نشرت قصيدتي (تشيلي في القلب) سنة 1973 في مجلة "الآداب" وكان ناقدها في العدد اللاحق الشاعر الرقيق (فاروق شوشة) ومما قاله عنها (أخذتني قصيدة تشيلي في القلب). وحين قرأتها على خشبة مسرح مديرية تربية البصرة الذي حدثتك عنه في المحور الأول ، قال لي أحد الأدباء الحاضرين وكان بعثياً، بخبث لا يخلو من تقدير: تخيلتك قادماً بحقيبتك للتو من تشيلي.

عودا إلى "وردة البيكاجي". تقول في إحدى تصريحاتك: "ما أكثر الشعراء الذين يزورون مدنا وبلدانا و لا يرونها، و يلتقون بشرا و لا يرونهم". تجربة مدينة عدن فيها إحساس بفقدان الوطن، كما فيها تهيؤ لعناق مكان جديد؟ كيف رأى عبد الكريم كاصد مدينة عدن؟ و ما هي الشواغل الشعرية الأساسية التي حكمت التجربة؟
-
نعم ، ثمة فقدان وعثور على مكان جديد لم أصل إليه إلا بمشقة ومعاناة، فبعد حصولي على وثيقة سفر من السفارة اليمنية في الكويت، سلّمت نفسي إلى الشرطة، ومعي مهدي طبعاً، بصفتي يمنياً مقيماً في الكويت بشكل غير شرعيّ، غير أن الشرطة لم تستلمنا، و يا للمفارقة! بحجة انشغالهم وضيق وقتهم، ذلك اليوم، فاضطررنا إلى المجيء ثانية في اليوم التالي ومعنا تذاكر سفرنا، لنمضي في التوقيف عدة أيام، بعدها نقلنا إلى موقف المطار حيث أمضينا ليلة هناك قبل أن نغادر إلى عدن. كانت عدن بالنسبة إلينا خلاصاً و منفىً جديداً يحتشد فيه المنفيون متقاربين. كلّ في عزلته.. وحين تقترب العزلات من بعضها بعضاً يصبح الاقتراب خطراً وتهديداًً للعزلة وخلاصاً أيضاً لما تكتظّ به من وحشةٍ وأحزان وأخبار أهل، لا طاقة للمنفيّ على تحملها. وحين وصلت لم يكن هناك منفيون ينتظرون بعزلاتهم الموحشة وحدودهم المتصلبة والهشة في آن واحد بل كان هنالك أيضاً بشرٌ يجتازون غابة ولكن.. إلى  أين؟

كلّ نأمة هي شارة لوحش رابض ، وكلّ أثرٍ هو  أثر لوحشٍ مرّ وكانت الغابة تكتظّ وتكتظّ حتّى لم يعد للحيوان من موضع فيها وقد شغل الغابة البشر الذين ما تزال خيالاتهم مسكونة بالوحوش. التحقتْ بي زوجتي فيما بعد وصادف مجيئها حلول رمضان فكنّا نقضي لياليه متجولين في الأسواق حتى ساعة متأخرة من الليل بين محلات الأقمشة الخفيفة الهفهافة القادمة من الهند بألوانها الزاهية المبهجة، و أضواء عربات الباعة ، وزحام الناس ، ولطف معشرهم واسترخائهم النادر الذي لم تره في مكان آخر.

لم يتكرّر هذا الطقس الاحتفالي الرائع قطّ . سنة واحدة وانقضى.. إذ لم نشهده في السنة التالية التي غادرنا بعدها عدن إلى منافٍ أخرى. وحين أتساءل الآن لماذا ؟ لا أجد جواباً. كيف تتغير مثل هذه الطقوس المعروفة بثباتها ودوراتها و تكرارها بهذه السهولة التي لم يكن وراءها سبب.. لا انقلاب ولا حركة تصحيحية ولا غير ذلك من مصطلحات الثورات وإعلام العرب.

لم يدم فرحي بالنجاة ولا بمجيء الحبيبة فالأحداث تتسارع وقد اكتظت الغابة بالبشر.. صراعات .. اجتهادات في العزلة والتمرد.. محاكمات لا يحضرها خصومها، ومعارك صامتة بلا دم ، ولكنها صراعات يمكن أن تؤدي إلى ما هو أنأى من الدم .. استدعاء شرطة على رفاق الأمس وتهجير إلى منفىً آخر لا يقبل المنفيين. ولعلّ ما هو أقسى من ذلك حين يُهجّر المنفيّ وهو بلا وثيقةٍ.

إنه الجحيم ثانيةً، جحيم المدينة والآخرين.. جحيم يتغلغل فيك أيضاً فلا تجد ملاذاً إلاّ بالهروب ثانية إلى أرضٍ أخرى.. إلى سماءٍ أخرى.. إلى بشرٍ آخرين وغاباتٍ أخرى.. ربّما.

     الوردة الحجرية

   في قصيدة "وردة البيكاجي" هناك تصوير لأدق تفاصيل المكان من مختلف الزوايا و الأبعاد. لماذ هذا الهوس بالتفاصيل؟
-
ما ذكرته في إجابتي السابقة، وإن جاءت تعميماً ، أليس هو الضياع عينه لحياةٍ استغرقتها التفاصيل؟ غير أن تفاصيل القصيدة شيء آخر، شيء يشير إلى مكان وقد يشير إلى زمن محدّد أيضاً، وبشر، وأحداثٍ وكلّ ما يرسّخ القصيدة ويحيلها واقعاً لا إنشاءً  في قصائد تتكدس كبضائع في خان. ما القصيدة دون تفصيلاتها.. ما الأرض الخراب دونها؟ وقصائد ريتسوس و رامبو وتفصيلاته المذهلة سواء في قصائده الأولى أو الأخيرة الموزونة والنثرية؟

" في التفاصيل يقيم الإله الطيب " يقول فلوبير. حتى لو كان الشعر بحثاً عن الكليات فإنه لن يكون شعراً إلا عبر تفصيلاته، وخصوصيته مهما اقترب أو امتزج بالأجناس الأدبية الأخرى أو احتوى أفكاراً ورؤىً شاملة. ما تسميه هوساً أسميه شغفاً وضرورة فنية نابعين، ربما، من هذه الرغبة المحمومة في جعل القصيدة حاضرة في كلماتها.. في جعل الكلمات أشياء والأشياء كلماتٍ، يمرّ بها القارئ مثلما يمرّ في مدينةٍ عابراً أو مقيماً. غير أن ما يقوّم القصيدة ليس تفصيلاتها وحدها وإنما هو ما تتضمنه من رؤية وزاوية نظر وتشكيل وتعامل مع الواقع وتفصيلاته واختياراته وسوى ذلك من مميزات أخرى لا تقلّ أهميةً في كتابة القصيدة.

تتشكل هذه القصيدة من عدة مقاطع، كل مقطع يحكي قصة المكان و شخوصه من زاوية مختلفة: الاستهلال/"الهنود ابتنوا في سقوفك أعشاشهم"، أغنية المهجرين:"خرجنا من باب واحدة"، نزهة المهجرين: "في المساء نتقاطع في الباحة...نهبط سلمنا المتآكل"، أغنية البيكاجي: "أنا البيكاجي"، غرف البيكاجي: "غرفة بابها أصلع"، خاتمة:" ركض البيكاجي/ رنت أجراس الخلخال/ عثر البيكاجي/ و التم جميع الأطفال". كأننا أمام لوحة تشكيلية تكعيبية تحتاج إلى جمالية تلقي مغايرة للمألوف.
- أشعر بالامتنان حقّاً لهذا التعبير الفاتن " لوحة تشكيلية تكعيبية " .

في مقطع "غرف البيكاجي"، هناك توظيف لطيف للتشكيل البصري من خلال تكرار و توازي كلمة "غرفة" في القصيدة بنحو يعكس تمثلا بصريا لمبنى البيكاجي و غرفه المرصوصة.
** لا أشعر أنّ هذا توصيف فقط وإنما هو تقييم أيضاً . أشكرك عليه .

في تعاملك مع البيكاجي كفضاء، تنحو إلى أسطرة المكان من جراء إسباغ هالة من السحر عليه عبر التشخيص و الأنسنة بحيث يقوم الشاعر بتسميته من جديد و كأنه يولد في التو "غرف تتقابل كالعربات، و حين تنفتح الأبواب تصير شارعا/ سميته البيكاجي". بل أكثر من ذلك، يتحول البيكاجي إلى كائن خرافي هائل يتحدث ككل الشخوص: "أنا البيكاجي/ لا أدري أأنا حجر أم حوت أم إنسان؟".
-
أشعر أيضاً أن توصيفك يحمل فهماً عميقاً للقصيدة وتقييماً لها وإشارتك إلى الولادة ذات دلالة تشير إلى ما هو أوسع من التوصيف .

قصيدة "مجنون" تطرح تحديا آخر على مفهوم الشعر. فهي تتألف من بيتين فقط تقول فيهما:                      

                      كان ضابطا بحريا

                                   و انحسر عنه البحر

هل هو انخطاف الشعر مرة أخرى؟ ما هي قصتك مع هذا الضابط البحري الذي انحسر عنه البحر؟ أين تكمن الشاعرية في مثل هذا الاقتضاب و الاقتصاد في العبارة؟ هل صورة مقترة بكل هذه الحدة الجارحة، على طريقة الهايكو اليابانية، قادرة على حمل الشحنة الشعورية اللازمة لتذوق الشعر؟ هل يكون بمستطاع قصيدة بهذا الحجم القصير الاستجابة لأفق انتظار القارئ وتحقيق الإشباع المطلوب؟ أم هي إحدى فضائل جماليات الحد الأدنى، حيث كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا؟
-
حين حللت في عدن وأقمت في الفندق أكثر من شهر كان هذا المجنون الضابط البحريّ سابقاً يطالعني كلّ يوم ببذلته القديمة المهترئة بذلة الضابط البحريّ، وأحياناً متخففا منها ... يسير باستقامة وتصلب غريبين ، لا يكلم أحداً . شغلني زمناً طويلاً : كيف أأسر هذا المجنون في قصيدتي؟ كانت البداية تقريرية ، عادية جدّاً : كان ضابطاً بحريّاً . وحين كتبت : وانحسر عنه البحر ، شعرت أن القصيدة اكتملت وأن ما جاء بعدها ليس سوى حشو  . لقد انحسر البحر عن الضابط ، كما ينحسر بساط من تحت القدمين، وانحسر معه كلّ شيء.. عقله أيضاً . لم يكن في ذهني الفكرة بل الرؤيا: وقوف الضابط المنعزل الوحيد في هذا القفر الواسع الذي كان بحراً. في ذهني حركة البحر وهو ينحسر عن الضابط وحيداً. أما الدلالات فهي لا حقة وما كانت شاغلي أبداً.

تحدّث عن ضيق العبارة واتساع الرؤيا الكثير من الشعراء والمتصوفة. فقد وردت لدى النفري بهذه الصيغة كما وردت لدي رامبو بصيغة أخرى يمكن ترجمتها بالكلمات التالية:  "رؤاك الكبيرة خنقت كلماتك ، واللانهاية المفزعة أرعبت عينك الزرقاء" .

في قلب الديوان هناك استعارة مركزية تتمثل في صورة "الوردة الحجرية"؟ ماذا أردت أن تشير إليه من خلال هذه الاستعارة؟
-
لا أدري كيف اجتمعت الوردة بالحجر. لعلّ ثمة تكثيف أو استبدال في القصيدة كما يحدث في الحلم، لدى فرويد، حين يكثف عناصره أو يستبدلها بعناصر أخرى ، فتتخذ الوردة شكل الحجر والحجر شكل الوردة، مثلما لا أدري أية صدفةٍ رمتنا حتّى آخر الأرض في مبنىً حجريّ هائل سكنه الإنجليزومن قبلهم سكنه الهنود، ثمّ جئناه بأطفالنا وعذاباتنا وموتانا مثقلين بالهواجس والأحلام، لنلمس حيطاناً غابرة تهرم وتموت في مكانها كأنها في انتظارنا: باحة واسعة وقبة أوسع تُسمى سقفاً وشبكة حديدية تتوسط شرفة فوق الطابق الأسفل وسلّم حجري يهبط ويرتفع بنا يوميّاً، وهناك ثمة جدار تحط عليه الغربان، وقد لا تطير محدّقة بالمنفيين وكأنها تسألنا: من أين؟ عبر هذا الجدار رأيت مرة حبل غسيل وقد تعلق فيه غراب كالمشنوق وقد بان عنقه الأحمر..هل يمكن أن أتحدث عن الوردة في هذا المبنى الحجريّ دون أن تقترن بالحجارة مجازاً أو استعارةً؟

في أكثر من مناسبة كنت تحاول تقديم عناصر تأويلية تصلح مفتاحا لقراءة نصوصك و لو على شكل سؤال؟ ألا يضيرك أن تخوض في عملية تفسير لقصائدك و كشف بعض لطائف الصنعة الخفية فيها. ألا يقتل التفسير حياة المعنى في القصيدة، أم أن القصيدة تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية؟
-
أعتقد أن القصيدة، مثلما قلت في سؤالك ، تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية بعيداً عن تفسيرات الشاعر والقارئ. لم أقدّم تفسيراً بل ملاحظات تبقى خارج القصيدة مهما بلغت من القيمة والعمق. لقد فعل إليوت أكثر من ذلك إذ قدّم تفسيرات لقصيدة "الأرض الخراب" لم تضر القصيدة بل ساعدت النقد الأكاديمي خاصة على الاقتراب من شعره. كانت تفسيراته مفاتيح لقصائده لكنها لم تشرع أبوابها تماما لتفسير الآخر. أ ليس حوارنا هو محاولة لمثل هذا الاقتراب؟ ليس ثمة تفسير مطلق.. في كل ما هو مطلق شيء من النسبيّ يخترقه مثلما يخترق النسبيّ كل شيء في العالم حياةً أو شعراً.

يقول الكاتب مصطفى عراقي حسن في مقال له عن عملك الشعري: " ديوان وردة البيكاجي جسد ذروة المشهد الشعري" مشيرا إلى أن المشهد هو الوسيلة الأثيرة لديك لبناء القصيدة. في تقديري أن التعبير المشهدي صيغة حداثية مميزة في البلاغة الشعرية لعبد الكريم كاصد، و هي تقابل "غموض العبارة" الذي اختاره بعض الشعراء ميسما لحداثتهم.   
- يرى بودلير إن عمق الحياة يتبدى في المشهد . في بناء المشهد في القصيدة ما يقي الشاعر من اندياحٍ لا مركز فيه.. المشهد الشعريّ يمنح القصيدة وجوداً واستقلالاً حتّى عن الشاعر نفسه  لتصبح القصيدة آنذاك هي التي تحدّ الشاعر لا العكس . من هنا يأتي اكتشاف الشاعر لقصيدته ودهشته أمامها كالقارئ تماماً.. 

أمّا غموض العبارة فلأراغون رأي في ذلك إذ يرى إن الوضوح في القصيدة هو بالتحديد ما هو غامض في الشعر.. والغريب أنه بحث عن الوضوح وأشكاله البسيطة في شعر رائد الحداثة في الشعر الفرنسي الذي هو أبولينير إضافة إلى الشعر الشعبي والأغاني القديمة، لا من أجل أن يكرر الفولكلور، بل من أجل أن يستخدمه استخداماً مجازياً. وليس مصادفة أن يقترن شعر أبولينير ووضوحه بالمشهد الواضح الغامض ذي الدلالات العميقة التي لا تنفد أبداً .

أما بالنسبة إلى دراسة الدكتور مصطفى عراقي فهي نموذج للنقد التطبيقي البارع البعيد عن ترديد مقولات تبتعد كلما اقتربت من تطبيقاتها.

بالمقارنة مع شعراء ينتسبون لمسمى الحداثة الشعرية، ألاحظ أن الوضوح سمة من سمات قصائدك. هل هو دليل رغبة الشاعر و رهانه على التواصل مع جمهور قراء الشعر؟ ألا تحتاج القصيدة في نظرك إلى حد من الغموض الملازم، أو قل السريالية المحببة، كما يسميها محمود درويش؟ من أين إذن تستمد القصيدة لغزها السري؟
- الوضوح ليس سمة شعري وحده. إنه سمة كل شعر جيّد. القصيدة ليست وجبة نضيف لها ملح الغموض لكي نتقبلها. إنها أعقد من ذلك بكثير، ومن أجل الوصول إلى بداهة الشعر ووضوحه في القصيدة فإنّ ذلك يتطلب مراناً ودربة ومعرفة بالشعر. هل هناك أوضح من قصيدة "أنشودة المطر" و"بويب" وقصائد برشت ونيرودا وإيليوار ووالت ويتمان الذي يبدو واضحاً وضوحاً ساطعاً ولكن كم من الظلال تختفي خلف ضوء وضوحه.

هل شعري واضح حقا؟ حين أقول في وردة البيكاجي هذه الأبيات هل أنا واضح حقا رغم وضوحها الشديد؟

ركض البيكاجي

رنّت أجراسُ الخلخال

عثر البيكاجي

و التمّ جميعُ الأطفال

سأسرك بشيء أرجو ألاّ أكون مغالياً فيه هو أنني كتبت هذه الأبيات في الحلم ونهضت فجأة لأدونها. وأكاد أنا نفسي لا أصدّق ولم يحدث لي ذلك إلا نادراً.

لقد حلم إليوت و رامبو و لوتريامون و شعراء كبار آخرون بكتابة شعر واضح بسيط يفهمه جميع الناس. يقول رامبو في قصيدة "المستحيل": "أوضح نفسي ". وفي مقالات إليوت عن دانتي وعن غيره من الشعراء يتضح معنى أن يكون الشاعر واضحاً، بل أن إليوت يغلو في ذلك ويعتبر  إن أهمية شعراء كدانتي تكمن في وضوحهم وبساطتهم وصورهم المرئية الواضحة وهذا ما سعى إليه في مراحل متأخرة من شعره الذي أخذ يقترب من الكلام اليومي وأغاني الأطفال كما في قصيدته "الرجال الجوف" و رباعياته التي سرني أن أطلع عليها بترجمتك مؤخرا. لكنني أقول إن الغموض والوضوح أمران نسبيان تماماً، وإن للشعر روافده العديدة و منها اللاوعي. وهذا لا يعني فقدان النظام في القصيدة واختفاء الوعي تماماً فحتى اللاوعي له قوانينه، عند فرويد، وآلياته التي تجعل من ادعاء السرياليين بالكتابة الميكانيكية خرافة وجهلاً بفرويد الذي يوضح هذه الحقيقة بجلاء في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي.

وإذا كان لنا أن ندرك ماذا يعني النظام في القصيدة فليس أدلّ على هذا من ذلك النظام الباهر في قصيدة "إشراقات" لرامبو رغم عوالمها المتداخلة بإيحاءاتها الثرية المتوهجة التي جعلت من مقلديها مهرجين حقيقيين لافتقادهم تلك الروح التي أشاعها رامبو في قصيدته وذلك النظام الذي استطاع أن يتحكم في تجربة نادرة هي تجربة رامبو الخارج من أكبر تجربة تاريخية هي تجربة كومونة باريس.

ليس الوضوح واضحاً، وإذا كان ثمة وضوح حقاً فهو وضوح غموض القصيدة - إذا صحّ التعبير-  لدى الشاعر المتمكن.   

يقول الكاتب و الناقد الإنجليزي بيتر أكرويد (Peter Ackroyd)في كتابه "سيرة لندن": "إن رؤية الشاعر ت.س.إليوت إلى الزمن تبلورت من خلال علاقته بمدينة لندن". بنوع من التأمل الذاتي، في نظرك ما هي الرؤية الخاصة التي تبلورت لديك من خلال مقامك بمدينة عدن".
- أعتقد أن علاقة إليوت بلندن على جانب كبير من التعقيد ، يتجاذبها طرفان : الكراهية والحب تبعاً للظروف النفسية و الاجتماعية التي مر بها الشاعر. وحين كتب قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب" ضمنها قصائد أخرى لم ينشرها من قبل احتوت على مقته لمدن أخرى كبوسطن. وهذا ما تحدث عنه بإسهاب بيتر أكرويد نفسه في كتابٍ آخر عن سيرة إليوت، ولعل رغبته في التواصل مع الماضي كتراث في مرحلة الحرب ما يفسر رعبه من حاضر لندن، بينما نجده في المرحلة التي أعقبت حصوله على جائزة نوبل واستقراره العاطفي يعود إلى ماضيه لا كتراث بل كطفولة وشعر درامي يتسم بوضوح كبير. لذلك اكتسبت رؤيته للزمن تلك الوشيجة المرتبطة بمدينة لندن أما بالنسبة لعلاقتي بعدن فهي ليست بتلك العلاقة ذات التعقيد الكبير الذي شهد مراحل وأزمات ولكنها لم تكن بعيدة عن تشكيل رؤيتي للزمن الذي استرعى انتباهي منذ دخولي مطار عدن وكأنني في عالم آخر يتوقف فيه الزمن  ليصبح حاضراً أبديّاً له شكل المكان المتحجر . ويصبح الفعل ضرباً من التكرار، ولولا الأحداث المتسارعة للمنفيين من شجارات و تنقل دائم و أخبار موتى ومشاهد حزن وأفراح غائبة لقلت أنني عدت إلى الصحراء ثانية.

لم يكن الزمن في عدن بالنسبة إليّ زمناً متعاقباً. كان زمناً مليئاً بالإشارات إلى ماضٍ يحضر بقوة ، يشبه الحاضر ولا يشبهه: غزوات، أقوام، حروب، تجار أسلحة، مهربون، وشاعر عاش مثلي هنا هو رامبو يشبهني ولا يشبهني.. ليس هذا ما يعنيني. ما يعنيني هو جوهر هذا الحضور.. حضور الماضي في حاضر رامبو وحاضري، في لحظته ولحظتي، وجوهر هذين الاثنين معاً في القصيدة.

كان للّحظة في عدن ثقل الأبدية. لحظة تمتدّ حتى تغمر كلّ شيء بضجرها، في فوهة هذا البركان التي اسمها عدن حيث سواد قبائل الغربان تلطّخ خضرة الأشجار في الساحات والطرق كأنّنا في عالم خرافيّ هو عالم رامبو وعالمي الموجود وغير الموجود لغرائبيته.

لم يكن زمني في عدن زمن إليوت لأنني لا أعود إلى ماضٍ منظم بذاكرة إرادية ولكنني أعود إلى ماضٍ من الفوضى اللانهائية للتاريخ على المستويين الشخصي وتاريخ الآخر. زمان يتقدّم ويرتدّ في أي لحظةٍ في حاضره وماضيه معاً..لا شيء  منجز أبداً.

كيف ترتّب الذاكرة تاريخاً مبعثراً؟ و كيف يرتب الوعي حاضراً معرّضاً للعبث؟ ما يبدو راسخاً في الواقع معرض للتفجير في أية لحظةٍ. العالم يحضر في داخلك.. و للواقع هيمنته وحضوره غير أن ذاكرة الشاعر ترحل وتعود بلا إرادة.. في عالم ليس هو الواقع ولا الفن.. و إنما هو الاثنان معاً. هل حين اكتشف رامبو  أنّ الواقع هو الفنّ، و الفنّ هو الواقع في عدن كفّ عن كتابة الشعر؟

آرثر رامبو: البركان العدني

منظورا إليه من زاوية أخرى، يبدو ديوان "وردة البيكاجي" و كأنه محاولة لبلورة صورة إنسانية لبطل جماعي يتمثل في المهجرين و المنفيين. هل يتحول صوت الشاعر إلى صوت من لا صوت لهم، في محاولة لإعطاء معنى لتجربتهم الجماعية الهامشية حتى لا تبتلعها فوهة النسيان؟
-
نعم ثمة بطل جماعي هناك في القصيدة غير أن صوت الشاعر حين يتحول إلى صوت من لا صوت لهم لا يعني أنه هابط من السماء نبوءةً أو عرافة أو أنه صوت إراديّ.. صوت بطلٍ قادم للتعبير عن أصوات أخرى مثلما هو ليس ذلك الصوت الذي يتسع حتى يفقد طابعه الخاص وإيقاعه الذي لا يشاركه فيه إيقاع آخر، وإنما لأن ّالشاعر واحد من هؤلاء يعيش تجربتهم ويعاني معاناتهم، وقد ينتظره المصير نفسه الذي ينتظرهم. لم يأت الصوت محاولة لإعطاء معنى لتجربة جماعية هامشية وإنما جاء تعبيراً عن تجربة ليس الشاعر إلا جزءاً منها. حين تجد الجماعة، أفراداً لا كتلةً، صوتها في صوت الشاعر فهذا  شيء مختلف تماماً عمّا هو عليه صوت الشاعر حين يتوجه إلى الآخر في صيغة إعلام. أي أن انتشار الصوت ليس باتساعه و إنما بقدرته على الحفاظ على خصوصيته لدى كل فرد في الجماعة فهو خاص وسط ما هو عام. يجد فيه المنفيّ ذاته المبعثرة التي أحالها المنفى كسراً يرى عبرها في القصيدة ذلك الخيط الواهي ولكن الحميم الذي يشده إلى الشاعر ومن ثمّ إلى الآخرين الذي يعيشون تجربته ولكنهم يختلفون عنه في هذه التجربة نفسها. الجماعة أفراداً تهب الشعر معناه أيضاً.

ليس ثمة إنسان معزول تماماً عن الآخر؟ الإنسان المعزول ما هو إلاّ إنسان مجرّد، فما بالك بالشاعر الذي يفترض فيه أن يكون في القلب من أحداث عصره حتى لو كان رافضاً لحضارة هذا العصر ومتوجهاً بعينيه صوب ماضيه؟

في قلب الصوت الجماعي الذي يتبلور في هذا الديوان، هناك صوت الشاعر المفرد. لكن هذا الصوت، في تقديري الشخصي، جاء بشكل موارب في شكل تقمص شعري لصوت شاعر آخر، هو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي أهديته قصيدتك الرائعة "البركان العدني". هل يحتاج الشاعر أحيانا إلى أقنعة كي يعبر عن ذاته؟ لماذا توظيف رامبو كقناع و كمحاور رمزي للذات؟ ما هي الغاية الفنية من ذلك؟ هذا علما أن فكرة الوجه و القناع ليس غريبة عن مناخ الديوان إذ نجدك توظفها في قصيدة طوطم حيث تقول: "أحضروا المائدة/ أوقدوا الشمعة الباردة/ إن وجهي جميل/ و قناعي ارتداه القتيل".
-
لم أفكر في اتخاذ رامبو قناعاً. لقد كان في قصيدتي موضوعاً شعريّاً تلتقي فيه تفصيلات حاضري بتفصيلات ماضيه. كنت أسكن على مقربة من بيت رامبو لذلك كنت أحسه قريباً منّي أحاوره ويحاورني لا في واقع أو وهم وإنما في مصير نجهله ونواجهه نحن الاثنين. كنت أحاوره لا كماضٍ حسب ، وإنما كحاضرٍ يخاطبني في شعره. وهناك إحالات في القصيدة إلى أبياته وعالمه الشعريّ. أما القناع في قصيدة "طوطم" فهو شيء آخر.. مكوّن من مكونات القصيدة.. جزء منها لا شارة لها أو علامة للاستدلال عليها.

لم يكن رامبو فقط تجربة حياتية استثنائية بمعنى الكلمة، و إنما كان و ما يزال أيقونة التجديد والتحديث في الكتابة الشعرية الفرنسية و العالمية على حد سواء.  ما هي في نظرك سمات الحداثة الأساسية في  شعر رامبو؟
-
أريد أن أبسط السؤال و أتحدث عن أهمية رامبو بالنسبة إليّ قبل نعته بأيّ من النعوت التي وردت في سؤالك أو ترد دوماً حين يتم الحديث عن رامبو. لعلّ أول ما استرعى انتباهي في شعر رامبو منذ قراءتي الأولى هو موضوعاته لا أشكاله.. موضوعاته غير المألوفة في الشعر والمألوفة في الحياة: أختان تبحثان عن القمل في شعر أخيهما الطفل، أطفال جائعون أمام مخبز، فقراء في كنيسة، طفل في السابعة من عمره يحبس نفسه في مرحاض، ابنة جيران عمال تأتي وتقفز فوق ظهره مؤرجحة فوقه ظفائرها، شيوخ يغفون في مكتبة، وعشرات الموضوعات المفعمة بالشعر والحياة، مثلما استرعى انتباهي قدرته على جعل المباشرة شعراً أيضاً فلم تضر قصائده هتافاته ولا حنقه و لا شتائمه ولاسيما في (فصل في الجحيم)، وبعض قصائده الهجائية الأولى، بل أعطتها نكهةً، ومنحتها قوة الشعر الذي ظلّ خالداً  لا بأشكاله وحدها وإنما بجدّة مضامينه ومباركته الحياة حتى وهي في أوج مأساتها . لقد غنّى الفرح في انتصار الكومونة وغنّاه بعد سقوطها ولعلّه فرّ من أوربا التي لا يتذكرها إلا باشمئزاز، فزعاً من بربريتها التي ذهب ضحيتها في أحداث الكومونة 30 ألف قتيل. وبسبب مباشرته هذه و وضوحه ربما اعتبر بعض النقاد أنّ (فصل في الجحيم) مجرد اعترافات وليس عملاً فنيّاً ناضجاً.

من بين الأشياء التي استرعت انتباهي أيضاً، منذ قراءتي الأولى لرامبو هو هذا السطوع، لأتجنبْ تسميته بالوضوح، حتى في شعره الغامض كما في (إشراقات). في هذه القصائد ثمة صفاء مدهش وسطوع أبيات تضيء ظلمة القصيدة وتملؤها بالصمت. ثمة مفاتيح صغيرة أحياناً ما إن نملكها حتى ينفتح الباب مشرعاً على ضوء المعنى الذي يضئ ما حوله من ظلمة في القصيدة: استدعاءات طفولة لا تستنفد، وحنق وسخرية ورؤى هي إشراقات حقّاً، لذا لا أرى في ترجمة القصائد بإشراقات خطأ، مثلما لا أرى في ترجمتها (منمنمات) خطأ أيضاً، فهو أي رامبو المصور البارع صاحب المنمنمات الدقيقة وهو صاحب الرؤى الكبيرة كما في قصيدته "تصوف" و "آثار عجلات" وغيرها.

لم تقد الأشكال رامبو إلى مضامينه بل العكس، ولم تكن مضامينه وليدة الطفرة العبقرية وحدها أو المصادفة بل وليدة الجهد الذي جعله يلتهم لا كتباً بل مكتبات بأكملها حتى صار يشكو من فقدان الكتب الجديدة، مثلما هي وليدة التراث المتمثل بقصائد فيكتور هيجو العظيم، وراسين، وإدغار آلن بو، ووالت ويتمان الذي كان مُترجماً آنذاك إلى الفرنسية، وبودلير، وفرلين نفسه الذي كان رامبو على معرفة بشعره، قبل اللقاء به. ولعلّ الترجمات الغامضة المبنية على عدم الدقة في فهم عالم رامبو هي التي ساعدت أيضاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى ، على تقديم عالم رامبو بشكل خاطئ.

إنّ غموض رامبو ليس آتياً من فراغ المعنى أو تشوشه بل من اكتظاظه وتداعياته وإيجازه المذهل وتجربته الحياتية الغنية التي تختصر عصراً بمآسيه ومجازره وتحولاته وأحداثه. لم يكن رامبو شاعراً منعزلاً عن أحداث عصره بل كان في القلب منها، وفي شعره الأمثلة العديدة على ذلك، دون أن يفارقه التغني بالحياة وتمجيدها في أجمل قصائده ولا سيما قصيدتيه اللتين أنهى بهما (فصل في الجحيم) و (إشراقات).

ثمة درس آخر يقدّمه لنا هذا العبقريّ/الطفل؛ ألا هو قدرته على تفجير الشعر، بكل ما تحمله كلمة تفجير من حداثة واجتراح أشكال رغم عدم حبي لهذه اللفظة، ليس من خلال ما هو جديد بحت في الأشكال وإنما من خلال قديمها أيضا. لقد كتب رامبو قصيدته-الحدث "المركب السكران" بالبحر الاسكندري الشائع، دون أن يعيق هذا الشكل رؤاه وفرادة مضامينه الجديدة على الشعر. مثلما فعل ذلك فيما بعد لوركا حين كتب أغاني غجرية  بالأوزان التقليدية، ومثلما فعل نيرودا في أجمل دواوينه (السونيتات)، ومثلما استعار إليوت الأغاني الشعبية والفولكلور في قصائده المتأخرة، ومثلما فعل قبلهم بودلير في ديوانه الرائع (أزهار الشرّ) .

في سنة 1981، و هي سنة كتابة قصيدة "البركان العدني"، صدرت لك ترجمة لديوان "كلمات" للشاعر جاك بريفير. ألم تعمد إلى ترجمة نصوص لرامبو آنذاك؟ ما الذي دفعك بالتحديد إلى تمثل عالمه؟ هل كان لتشابه تجربتكما في عدن دخل في ذلك، أم هو مجرد ذريعة لبحث حثيث عن بلاغة جديدة؟
-
لم أترجم أي نص لرامبو ولم ترضني معظم الترجمات التي اطلعت عليها لا لقصور في الترجمة، وإنما لصعوبة شعر رامبو وصفائه الغامض وامتلائه بالصمت وإحالته لوقائع في غاية الخفاء طمستها ثقافة مؤدلجة ونقاد متحذلقون وتجار أدب وسرياليون مهرجون شطروا رامبو شطرين ليمحوهما معاً: متمرداً وليس ثائراً. تاجر رقيق وأسلحة و ليس شاعراً لايزال هناك ما يربطه بماضيه عبر رسائله وقراءاته وتصرفاته وتعامله مع السكان الأصليين وتعلمه لغاتهم هو المشغوف باللغات التي أجاد بعضها حين كان طفلاً كاللاتينية.

لقد محوا نصفه الأول بممحاة التجريد ليصبح شعره وكأنه شعر محض بلا أثر من واقع فلا كومونة باريس هناك ولا يدا ماري ، ولا قصيدته الشهيرة عن عبدالقادر الجزائري. لا أدري كيف يستطيع مترجم أن يترجم ، على سبيل المثال ، قصيدته "ديمقراطية"  في إشراقاته بدون إدراك العلاقة التي تربط أبياتها بموقف رامبو السياسي من الأحداث ؟ كم تبدو غبية ترجمة هذه القصيدة حتى في الترجمات الإنجليزية الحرفية البليدة . لم أقرأ قصيدة مترجمة بهذا السوء في العربية أو الإنجليزية كترجمة هذه القصيدة رغم الشروحات والإشارات التي تحدثت عنها كشروحات والاس فاولي في كتابه (رامبو).   

قد يحدث أن لا تترجم لشاعر تفضله وتترجم لشاعر ليس هو شاعرك المفضل ولا قصائده هي المفضلة بالضرورة، ولكنني كنت دائم الرجوع إلى رامبو كغيره من الشعراء الذين أحبهم لتأمل تجربته ، وقراءة أشعاره التي لم يتم تمثلها بشكل صحيح في نقدنا أو شعرنا العربيّ، ولا سيما إشراقاته أو منمنماته كما تفضل ترجمتها وكما يفضل ترجمتها صديقي الشاعر المغربي رشيد وحتي الذي ترجم "البركان العدنيّ" إلى الفرنسية معبّراً عن حبه الكبير لها.

و ماذا عن تشابه التجربتين؟
-
نعم كان لتشابه التجربتين دخلٌ كبير في ذلك. كان رامبو يسكن، كما قلت، على مقربة من سكني في عدن . يرى ربما الأشياء ذاتها، ويعلن عن ضجره الشبيه بضجري ، ويعيش مشاعر متداخلة من المحبة والكره في آن واحد، تاركاً للمحبة من الظلّ ما يحجب جحيم شمس عدن التي يسميها (الصخرة البشعة) و (حمم الرمل)، مسكوناً بالمجازر التي خلفها وراءه.. مجازر الكومونة مثلما كنت مسكوناً بها حين قدمت إلى عدن .

لقد أهديتني من قبل نسخة من كتاب يحمل ترجمات الشاعر بدر شاكر السياب للعديد من الشعراء العالميين كانت من بينهم قصيدتان لرامبو. هل كان للسياب تأثير في هذا المنحى؟ هل كان له سهم في التعريف بتجربة رامبو و إثارة أسئلتها في الشعر العربي؟ 
-
لا أعتقد أنّ كتاب السياب يخلو من هذا التأثير في التعريف بتجربة رامبو والشعراء الآخرين الذين احتواهم الكتاب لا سيما أن الكتاب لاقى انتشاراً واسعاً وقت صدوره وحتى الآن ، لكن ينبغي عدم المبالغة في هذا التأثير الذي أسهم فيه بشكل أوسع، كما أعتقد، كتّاب آخرون كالأديب السوري صدقي إسماعيل الذي كان لكتابه الصغير عن رامبو أثر بالغ رغم بساطته ونواقصه  .

تصف إديث سيتويل رامبو بأنه "مدشن إيقاعات النثر الحديث".  إلى أي حد أفدت من صنعة الكتابة التي تميزت بها بلاغة رامبو الحديثة؟  
- لم يكن رامبو حاضراً في قصيدة "البركان العدنيّ" وحدها، وإنما كان حاضراً بشكل خفيّ أو غير مباشر في قصائد عديدة أخرى لا كمثال أستلهمه في هذا التعبير أو ذاك، في هذا الشكل أو ذاك، في هذه الاستعارة أو تلك، وإنما في روحه المبثوثة في شعره حيث يقترن الضوء بالظلّ، الصوت بالصمت، التجريد بالملموس وتختلط الأحاسيس لا بفوضى كما يتصور البعض بل بنظام مدهش يعبر عنه هذا البناء المحكم في القصيدة.

كان رامبو حاضراً بصمته في قصيدتي "هجس".. صمت أحسسته يشيع في إشراقاته وقصائده الأخيرة في (فصل في الجحيم) كقصيدة "وداع" التي أشعر وكأن مكانها في إشراقات وليس في (فصل في الجحيم) .

أنتَ مائدتي

وابتهاج المريض بعافية الزائرين

أنتَ وقع الخطى في النهار ..

وأفراح عائلتي

أنتَ صمتي  أحاوره ..

وانتظاريَ في الصمت

والصرخات الخبيئة في رئتي

أنتَ فوق طريقي رنين خطى العابرين

إذا كان لي أن أختار أبياتاً أفضلها من شعري فإنني سأختار هذا البيت من بينها:

أنتَ مائدتي

وابتهاج المريض بعافية الزائرين

في هذه القصيدة، التي لا تشبه قصائد رامبو أبداً في ظاهرها، هناك مسعىً للتخفيف من وطأة ثقل.. وطأة مادةٍ قد تعلق بالواقع والكلمات. ثمة صرخات خبيئة ولكن ثمة خلفية لهذه الصرخات هو الصمت. ثمة رنين، ولكن ثمة خلفية لهذا الرنين هناك هو الصمت. حتى الخطاب الموجه إلى ذلك المجهول إنما هو خطاب أقرب إلى الصمت.. خطاب شخص واحد.. خطاب صامت. كان رامبو حاضراً أيضاً في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة) بشكل خفيّ بعيد في قصائد هنا وهناك وفي قصيدة "قوارب"، دون أن يكون له أثر ما.. هذا العابر الهائل بنعالٍ من ريح..

إنني أكاد أن ألمس في قصيدة "البركان العدني" مسحة من الاحتفاء بشعر رامبو و في نفس الوقت هناك نوع من اللعب و المناورة مع عبارات وردت في قصائد "فصل في الجحيم" و"منمنمات" (Illuminations)، و كأنك تحاول أن تتمثل عناصر الحداثة دون السقوط في شرك التقليد الساذج للشاعر الفرنسي. هلا كشفت للقارئ بعضا من أسرار الصنعة الخفية في هذه القصيدة بالذات؟
- لقد حذّرتني في سؤال سابق من الوقوع في شراك التفسير وكشف الأسرار وها أنت الآن تدعوني إلى كشف بعضٍ منها.

أرجو أن تشفع لي شغف القارئ و شغب فضوله...
-
حقّاً ثمة عبارات لرامبو وردت في قصيدتي  البركان العدنيّ مثل "الصبر المتوهج" في قصيدة "وداع" و "غناء الملائكة المتصاعد من السفينة في "دم فاسد" و "عش النار"  في "ليل الجحيم" وغيرها من التعابير الأخرى وأغلبها في (فصل في الجحيم)، فالتعبير الأول يرد في قصيدتي:  منطفئ صبرك المتوهج، والثاني يرد في هذه الأبيات: أي جحيم رأيت؟/ المراكب تهوي إلى القاع/ تفتح بركانك العدنيّ /وتصعد محترقاً في الغناء.

ولكن القصيدة أرحب من هذه التعابير وغيرها  في تمثلها لروح رامبو في نصوصه عامة. وبعض هذه التعابير فاجأتني في ما بعد لورودها في قصيدتي، إذ لم أفطن لورودها أصلاً في قصائد رامبو.

إلى جانب الاقتراض من تجارب الشعر المختلفة، هل بمقدور الشعر أن يكتفي بذاته و تراثه دون أن ينفتح على عناصر جديدة من أشكال التعبير المستجدة و المحدثة؟
-
لا أعتقد أنّ الشعر يكتفي بذاته يوماً ما  فهو في حركة مستمرة بين ذاته وخارجها حتى يمكن القول أن الخارج نفسه لم يعد خارجاً وقد تمثله الشعر ليصبح جزءاً من نسيجه الحيّ. هل يمكن، مثلاً، أن أفصل الشعر في العصر العباسي عن التيارات الفكرية والفلسفية آنذاك؟ هل يمكن أن أفصل شعر إليوت عن تجارب الآخرين كتجربة جيمس جويس في الشكل والتيارات الفكرية في عصره كفلسفة برادلي مثلاً. وهذا ينطبق على شعراء آخرين. اكتفاء الشعر بذاته يعني موته وعزلته عن أشكال الحياة الأخرى . لا يغتني الشعر بفراغه بل بامتلائه بالآخر وهذا ما لا يدركه الذين يحملون ازدراء ومقتاً للفظة الآخر، حضارةً وأساليب وآخرين. الوجه الآخر لهؤلاء المنغلقين ضيقي الأفق أولئك الذين لا يرون الأشياء إلاّ في تجريدها، والحداثة إلاّ في أنماط أشكالها، وما امتدادهم إلى مناطق العزلة الأخرى في الثقافات الأخرى، في حقيقته، إلاّ عزلة معكوسة لا ترى غنى الواقع في تنوعه الذي يمتدّ ابتداءً من الأساليب العصرية المعقدة وانتهاءً بالأساليب الشعبية الموروثة التي تحفل بها الثقافة المحلية والثقافات الأخرى.

في "وردة البيكاجي" استثمار لتقنيات المسرح من "مشاهد" و "حوار" و "مونولوغ" (وهي عناوين لقصائد معينة في الديوان) إلى حد أن أحد النقاد اعتبر أن "قصيدة عبد الكريم تنبع لديه من حس مسرحي متمكن من أدواته". ما مدى حضور هذه القصدية في بناء القصيدة لديك؟ أليس هذا النزع من التفاعل بين أشكال التعبير المختلفة هو جزء من تحديث الشعر؟
-
ليس ثمة قصدية وإنما للواقع في القصيدة أشكاله العديدة المفتوحة على كلّ الأجناس الأدبية بلا استثناء. يسرّني أن يعتبر أحد النقاد أن قصيدتي " تنبع من حسّ مسرحيّ متمكن من أدواته "، أتمنى ذلك أن يكون حقيقيّاً. هل هذا التشخيص هو الذي يفسر نجاح مسرحيتي الشعرية (حكاية جنديّ)؟، وتفضيل مخرجها البريطاني، أندرو ستاغل (Andrew Steggal) النص العربي على النص الإنجليزي المترجم عن الفرنسية و المكتوب شعراً أيضاً بطريقة الدوبيت كما عبّر لي عن ذلك المخرج نفسه، رغم التقليد الراسخ في المسرح الشعري الإنجليزيّ وتجاربه العديدة التي لم تكن مسرّة دوماً. المشاهد والحوار والمونولوغ ليست تقنيات مسرح فقط وإنما هي واقع له أشكاله الغائرة أيضاً في الروح. لا أدري لماذا تقترن هذه الأشكال حين يرد ذكرها بالإيقاع، بما هو لصيق  بروح الإنسان وروح الشاعر بالذات. ألا يتجلى إيقاعنا الداخلي في هذه الأشكال أكثر من غيرها: حين نحدث أنفسنا أو نحدث الآخر أو نحدثه ونحن نصغي لأنفسنا أو حين نتفرج ونحمل مشاهد الحياة معنا وقد لا تفارقنا هذه المشاهد أبداً وقد تغيّر إيقاع حياتنا بأكملها. المشاهد واقع القصيدة الصلب حتى وإن أحالت المخيلة والذاكرة هذا الواقع إلى زمن دائم الجريان. 

تصدر قصيدة "طوطم" بإضاءة مقتبسة من مسرحية "هاملت" لوليام شكسبير يقول فيها: "إن خبز الجنازة قدم باردا على موائد العرس". ما قصة هذه القصيدة الملغزة التي لها وقع خاص في الديوان برمته و كأنها كتبت لزمن آخر؟ و ما المغزى من استحضار صوت هاملت المعروف بقلق أسئلته الوجودية؟
-
ثمة ألغاز في شعري إذن . هل تعتقد أيها العزيز عبدالقادر أنني قادر على حل جميع ألغازي؟ لعلّ الشيء الواضح في هذه القصيدة التي تبدو غامضة هو وضوح مفارقاتها: طوطم تقايضه القبائل وهو ليس سوى حجرٍ، بوق ينفخ في القفر، خبز جنازةٍ يقدّم في العرس ولكن بحضرة ميتين، شمعة باردة توقد ودعوة غامضة إلى ماذا؟ أ إلى مصافحة القاتل أم إدانته؟.. مفارقات واقع أملتها مخيلة، وحيرة كحيرة هاملت في اختلاط عجيب نشهده الآن على مسرح واقعنا العراقيّ بأقصى تجليات المخيلة.  نعم كأنها كتبت لزمن آخر هو الزمن الذي نشهده الآن.. زمننا الحاضر.

تؤطر ديوان "وردة البيكاجي" قصيدتان. الأولى بعنوان "ذلك البيت" و قصيدة "خاتمة" فيها نداء للوطن: أيها الوطن الغريب.. افتح/لقد أزهر قبري كالبيت/ فطليته بالحناء". تغريني هاته المقدمة و الخاتمة بمناوشة موضوعة البيت/الطريق، المنفى/الوطن التي سنفرد لها حيزا كافيا في مقام آخر. ماذا تعني لك، و لو باقتضاب، هاته الكلمات بعد هذه الرحلة الطويلة المتعرجة؟
-
قد يكون البيت قبراً والطريق نزهة ولكنها لن تكون سوى (نزهة آلام)، مثلما لن يكون المنفى حتى وإن كان هبة وطناً على الإطلاق حتى لو كان الوطن الأصلي منفىً حقيقيّاً، وبين هذين الواقعين ثمة أوهام وعذابات ومراجعات شتى لن تستقر يوماً حتى لو بدت علامات رضىً تلوح هنا وهناك.

يبدو أن رحلة الألف ميل ابتدأت بخطوة واحدة إلى عدن. هل تنظر خلفك بغضب أم بطمأنينة ورضا.
-
الغضب والطمأنينة ليسا بمنفصلين ويا للأسف في تجربتي. كيف يرضى من يعيش منفيّاً ويترك خلفه أحباء وقبوراً لكن الحياة ليست غضباً صرفاً و إلاّ استحالت إلى ضجيج وصراخٍ مملّ لمعتوه، مثلما الحياة ليست رضىً في عالم يفجؤك في كلّ يوم بما يجعلك فاقداً لهذا الرضى.

 
 

¤  عبـد الكريـم كاصـد الشاعر.. خارج النص (المقدمة والفصل الاول)
 

 

 

free web counter