الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 23/4/ 2012

 

السيرة الذاتية في رصد الكوابيس

عبد العزيز لازم

إن رواية " كوابيس هلسنكي" تقدم تجربة فنية جديدة في جسم الأدب الروائي العربي وهي ليست بعيدة عن التجارب العالمية من حيث العموم إلا أنها تحلق في تفردها الخاص في مجال التقنيات الأخاذة التي تتسم بالجرأة وإثارة الجدل. نعتقد ان هذا العمل قبل كل شيء يصنف ضمن رواية السيرة الذاتية، أي الكاتب بقلمه (الاوتوبيوغرا فيا)، لكننا قبل ان نتطرق إلى البناء الداخلي للعمل واستكشاف كنوزه الممكنة لابد ان نشير إلى الظروف التي أنجبت هذا الجنس الأدبي في العالم لنتعرف على مكان هذا العمل ضمن هذه السيرة. ليس من السهل صياغة تعريف محدد حول رواية السيرة الذاتية لأن هذا الجنس من الروايات تتداخل فيه عناصر القصة الخيالية والسيرة الذاتية.

فالروايات التي تصور الزمان والمكان أو الحالات التي عاشها المؤلف ليست بالضرورة روايات سيرة ذاتية. وهذا الأمر يصدق أيضا حتى على الروايات التي تتضمن جوانب مأخوذة من حياة المؤلف كتفاصيل حبكة ثانوية. ومن المفيد ملاحظة ان العديد من الروايات التي تصور تجارب مكثفة خاصة كالحروب وكذلك الإرهاب (كما هو الحال في كوابيس هلسنكي) فضلا عن الصراع العائلي والجنس تكتب على أساس إنها روايات سيرة ذاتية وبعضها تقدم نفسها بصراحة على إنها " روايات وقائعية " (بمعنى غير خيالية). وقد شاع استخدام المصطلح لأول مرة عند الإشارة إلى انعدام سمات الرواية الذاتية في رواية " بدم بارد" للروائي الأمريكي ترومان كابوت، لكن فيما بعد ارتبطت بسلسلة من الأعمال المستمدة بشكل صريح من كتابة السيرة الذاتية. وفيها يتم التركيز على خلق عمل يقوم على الحقائق الحياتية بشكل أساس مرتبطة بعدد من القيم وبعض جوانب الحياة الواقعية الأخرى.

 قدم ترومان كابوت روايته بعد ان علم بجريمة كنساس الجماعية التي زلزلت الرأي العام في 1959. عندما علم بالجريمة قرر الكاتب الذهاب إلى مكان الحادث مصطحبا صديقته الكاتبة الروائية (هاربر لي). فعلم ان المجرمين قررا السطو على بيت مزارع ناجح وثري قيل لهما ان فيه خزنة مليئة بالمال لكنهما لم يجدا المال و واكتشفا أنهما اعتمدا على معلومة غير صحيحة حول وجود الخزنة. المزارع "هولوكومب" صاحب الدار وزوجته واثنان من أطفالهما لم يسلموا من خطر الموت رغم ذلك. فقد ذبحا ثم رميا بالرصاص عن قرب، بعد أن استيقظت حمأة القتل في نفسي القاتلين فأجهزا على أولئك المواطنين الأربعة الأبرياء بدم بارد. استغرق الكاتب ستة أعوام لإصدار روايته بعد ان أجرى تحريات وتحقيقات غطت آلاف الصفحات. العديد من النقاد عد العمل نوعا من الروايات الوقائعية، وهي على أية إحدى سمات رواية السيرة. وهناك آراء بشأن احتواء العمل على عناصر من السرد الروائي خاصة فيما يتعلق بالتنقيب السيكولوجي للشخوص.على إننا يجب ان نذكر بان رواية (بدم بارد) ليست الرواية الوحيدة التي تصنف على جنس السيرة الذاتية لكنها تتميز بأنها الأكثر من بين من سبقها ومن تبعها من الروايات التي تتضمن النسبة العظمى من الحقائق الصارمة لدرجة ان بعض النقاد وصفها بأنها رواية "الجريمة الحقيقية". ومن كبار الروائيين الذي كتبوا رواية السيرة الذاتية جارلز ديكينز (ديفيد كوبر فيلد، وآمال عظيمة), وليو توليستوي (ثلاثيته المعروفة، الطفولة" واليفاعة"" ترجمت اليافعون" والشباب "" , ود. ه لورنس كتب أبناء وعشاق و جاك ليندون كتب " جون بارليكورن 1913 وجيمس جويس في "صورة الفنان في شبابه" ونيكوس كازينتزاكي في "رسالة إلى غريكو" وإيزابيل اليندي في "منزل الأرواح" وغيرهم العشرات من الروائيين.

إن "بدم بارد " تقربنا من "كوابيس هلسنكي" باعتبارهما يطرحان ثيمة قتل الحياة بدم بارد لكن بظروف مختلفة وبآليات مختلفة وكأننا أمام ظاهرة أزلية يتعين على المبدعين رصدها ومحاكمتها ولكن بدم ساخن وعقل شديد الانتباه بعد ان عجز السياسيون المتنفذون القيام بهذه المهمة.فكيف عمل يوسف أبو الفوز ذلك ؟ منذ البداية لابد من تأكيد ان شرط الزمان والمكان في مجريات السرد تضمن الإشارة إلى العراق باعتباره وطن السارد الأول وباعتباره الحاضن الأول للإرهاب في هذه الفترة من التاريخ، وهو زمن كتابة الرواية. فالكاتب الذي هو السارد بضمير الأنا حمل أجواء الجحيم العراقي المستعر المتأجج في قلبه إلى ثلوج هلسنكي التي تزداد كثافة في حضن حضارة هادئة يتصاعد ثراؤها بأحلامها بعوالم تتصاعد في جمالها ومتعها.هذه الحضارة التي لم تتسلح بالحذر الكافي لحماية نفسها من خطر إبادة البشر المتمثل بمحترفي الموت القادمين من خارج الحدود. لذلك كان على السارد ان ينظر إلى الأمر بعين من ذاق الأمّرين من غول القتل والتعذيب والسجن ونفي الإنسان في بلاده الأصلية التي لم تترك لها فرصة إعادة خلق حضارتها. ويبدو من خلال هذه الحقيقة ان الإرهاب الذي تفشى في بلد الكاتب الأصلي واكتوى بنيرانه لايمكن كشفه والوقوف بوجهه في بلد المهجر إلا من خلال إنسان معذب، خاصة وان ذلك الغول داهم بلدا محايدا غافيا في ظلال حضارة قدمت الاحترام الكافي لرسول الإرهاب "دكتور الرياضيات" الذي كرس علمه لخدمة نواياه الدموية وكان متخفيا بشكل محكم وقادرا على التغلغل في مفاصل المجتمع الهلسنكي وربما في المجتمعات المجاورة وكان قادرا على نشر الرعب بأقذر الوسائل، فمن ينقذ تلك البلاد غير عراقي متخم بالرعب ومعبأ بالحذر والجرأة الكافيين.

العمل على البؤر الفنية في تحريك الجسم السردي

تملكت الكاتب حمى فرش ما بعقله ورؤيته على مساحة من الورق قد لا تكفي لاحتواء كل ما لديه نظرا لسعة موضوعه وفعاليته في التأثير على حياة الناس. فاتجه إلى خلق أربعة بؤر ساخنة لتفجير ونثر الأحداث ثم انتظامها في نسق سردي محسوب وهي "الحلم المصنوع" و"الطاقة الإضافية"، و"الطاقة الذهنية" و"مصابيح العقل" وهناك بؤرة فرعية ناتجة عن تلك البؤر وهي وصفه (بالجني) فكان لابد من حالة من الجنون والحمى لفتح مغاليق هذه البؤر. يفاجئ الكاتب القارئ وكذا المتتبع بطرح إمكانية اصطناع الحلم حسب الرغبة وبذلك ينزاح نحو استثمار إمكانيات الفانتازيا لعرض الواقع والتعامل معه. قد يتملكنا الامتعاض وعدم الرضا من ذلك فنحن نعلم ان الحلم يأتي إلى الإنسان في أوقات غير محسوبة ولا يذهب إليه الحالم حسب الرغبة. لكن الكاتب يفرض مغامرته علينا متسلحا بهول ما لديه من حقائق صادمة لايمكن عرضها إلا عبر تلك التقنية المثيرة للجدل، وبذلك يخلق لدينا حالة من التراضي مع ما خطط له رغم لامعقوليته، لكننا نعلم إذا دخلنا في ذواتنا ان الحلم يمكن استحضاره بل ان التاريخ يوفر لنا معلومات من هذا القبيل فنعلم على سبيل المثال ان الإمبراطور البابلي نبوخذنصر كان يشكل في قصره لجان من الكهنة مهمتهم الحلم في صوامعهم ومن ثم تفسير أحلامهم بالارتباط بحملات عسكرية أو قرارات سياسية كبرى كثيرا ما أقدم عليها. وهكذا كان أولئك الكهنة يذهبون إلى النوم ليحلموا عمدا ثم يعودون إلى مجلس الملك ويحكون ويفسرون أحلامهم وكان ذلك ضمن ما تسمح به الميثولوجيا البابلية. فهل نحن أمام ظاهرة بابلية جديدة في هلسنكي ؟

 إلا أننا في "كوابيس هلسنكي" نواجه حلما من نوع آخر فالسارد هنا يحلم وقت مايشاء بعد ان تنتابه حالة من الحمى والجنون فيمارس حركه في المكان لاستكشاف مخابئ سرية وهو بين اليقظة والغيبوبة. السارد لا يخفي على القارئ بأنه كان مدمنا على قراءة القصص البوليسية، وعلى هذا الأساس صمم حبكة العمل.

 ان رواية (كوابيس هلسنكي) استقرت على الموازنة بين الاحتفاظ بالوقائع الصارمة وبين طرحها بوسائل الخيال والفنتازيا معززة بلقطات ايروسية لاستكمال الجانب ألوقائعي في العمل. لجأ الكاتب إلى تقسيم العمل إلى ستة أجزاء وحشى كل جزء بعدد من العناوين وكل عنوان يعطي صورة لحدث أو حالة مشبعة بالحدث والتعبير في محاولة لاستعارة تقنيات ذات طبيعة سينمائية. وساهمت زوجة الكاتب في وضع جزء من الرواية من خلال المقدمة التي حملت الرقم واحد والتي لابد وان الكاتب نفسه كتبها أو اشرف على كتابتها بسبب الانسجام الأسلوبي بينها وبين المتن السردي. لا توجد أسماء للشخصيات بل ألقاب من قبيل زوجتي وصديقي الكاتب والفنان(وهو صديق الكاتب الفنان طه رشيد) والطبيب والدكتور الإرهابي والجنرال وابنتنا..واسند لشخصية الكاتب دورا مزدوجا فهو من جهة شخصية فنية داخل الرواية لاستكمال الجسم السردي ومن ناحية ثانية يظهر وكأنه تجسيد لكاتب الراوية نفسه من خلال تطابق أفكارهما عبر مسيرة الأحداث.

 حاولت الرواية وبنجاح واضح تقديم الجديد في مجالها كرواية سيرة ذاتية لكنها كأي مخلوق إبداعي حملت تناقضاتها الذاتية. فرغم طولها النسبي إلا إنها لم توفر المساحة الكافية للتنقيب السيكولوجي للشخصيات المهمة خاصة شخصية دكتور الرياضيات الإرهابي، فكان ممكنا مثلا الوصول إليه عيانيا من قبل السارد وإجراء حوار فكري أو وجداني الغرض منه استكشاف دواخله وفضح الخلفية النفسية للإرهابي. أما شخصية الجنرال الفنلندي فقد خصص لها دور هامشي وكان ممكنا شحنه بالرمزية باعتباره ممثلا لقوى الامن الاوربية واستخراج مدلولات تخدم الثيمة الرئيسة. من جهة أخرى واجهت شخصية بنت السارد حالة التبعية العائلية التي أذابت إمكانياتها المستقلة، فرغم ذكاء البنت وحساسيتها وفضولها المستحكم فإنها لم تقدم للرواية غير الزخرف الفني، وكان يمكن استغلال حداثة سنها وتحميلها مدلولات اكبر من ذلك تخص المصائر المتحولة للناس بعيدا عن الإرهاب والظلم البشري وهو ما ينسجم مع طبيعة الهموم التي عصفت بالكاتب (السارد).

هبطت علينا تلك الرواية لتحتل مكانة مرموقة تستحقها بجدارة في حضيرة الأدب العراقي والعربي والعالمي. الاحتفاء يليق ب( كوابيس هلسنكي ) وبمن أبدعها .

 


طريق الشعب العدد 167 الأثنين 23 نيسان‏ 2012

 

free web counter