الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

السبت 20/11/ 2010

 

بمناسبة مرور 100 عام على وفاته

ليف تولستوي .... ولغز الهروب من ياسنايا بوليانا

عبدالله حبه – موسكو


ليف تولستوي في ياسنايا بوليانا

منذ مائة عام مضت وقع في ضيعة ياسنايا بوليانا بمقاطعة تولا الروسية حدث هز العالم بأسره. فقد هرب صاحب الضيعة الكاتب الروسي الكبير الكونت ليف تولستوي من بيته تحت جنح الظلام الى جهة مجهولة. ولم تعرف دوافع وخفايا هذا الهروب الذي ما زال حتى اليوم لغزاً يصعب ادراكه ، نظراً لشخصية تولستوي المعقدة المترعة بالتناقضات. وقالت الكونتيسة صوفيا اندريفنا قرينة الكاتب :" انني عشت ثمانية واربعين عاماً مع ليف نيقولايفتش ، دون ان اعرف أي انسان هو". واذا ما عجزت هذه المرأة التي احبت هذا الانسان وانجبت منه 13 ولدا وبنتا عن سبر أغوار نفسه فكيف يتسنى ذلك للباحثين والمنظرين الذين لم " يعرفوه" ، بل ولم " يعانوا" من الاحاسيس والافكار والشكوك التي جعلته يهرب من منزله في ضيعة ياسنايا بوليانا ليلاً وقبيل طلوع الفجر مع طبيبه العجوز دوشان ماكوفيتسكي والسائس فيلكا الذي حمل المصباح لأنارة الطريق. ودبر تولستوي مؤامرة الهرب مع ابنته الصغرى ساشا التي جمعت له حوائجه في حقيبة حملتها الى العربة الواقفة عند مدخل الضيعة. كان تولستوي قد بلغ يومذاك الثانية والثمانين من العمر ولو انه حافظ على قوته البدنية وكان يرفض مساعدة الطبيب له في ارتداء ملابسه او النزول من السلالم. وترك تولستوي رسالة الى صوفيا جاء فيها:" انني أفعل ما يفعله عادة الشيوخ في عمري. انهم يتخلون عن حياة المجتمع بغية العيش في خلوة على انفراد وبهدوء في الايام الاخيرة من حياتهم ". لكن ظروف هروبه من ياسنايا بوليانا تدل على ان المسألة لم تكن البحث عن الوحدة والهدوء فقط. لربما انه كان يريد ان يقضي آخر ايام حياته مع الفلاحين البسطاء في كوخ متواضع ويشاركهم شظف العيش. وفي هذا بالذات تكمن "الدعوة التولستوية" التي تدعو الى ازالة الطبقات والفروق في المجتمع والعودة الى الطبيعة – الأم. وربما انه شعر بالاحباط لفشله في اقناع ذويه بقبول دعوته.

ومما يؤسف له ان تولستوي لم يعرف في العالم العربي بصورة دقيقة ووافية ولم تترجم كافة اعماله الى العربية، وحتى ملحمة " الحرب والسلام" لم تحظ بالترجمة اللائقة؟ علما ان المترجمين كانوا ينقلون اعماله ليس من اللغة الروسية – لغة المؤلف - بل من لغات اخرى كالفرنسية او الانجليزية. ومعروف ان اي عمل يفقد الكثير من رونقه وصدقه لدى ترجمته الى لغة اخرى فما بالك اذا كانت الترجمة من لغة ثالثة. ولو انني أشير الى الجهد الكبير والمشكور الذي بذله الاديب السوري سامي الدروبي في ترجمة اعمال دوستويفسكي وتولستوي من الفرنسية الى العربية. لكن لابد من مراجعة هذه التراجم مع النص الروسي الاصلي لكي نعرف مدى عبقرية هذا الكاتب . ويرى بعض الكتاب ان تولستوي يعتبر الكاتب الروسي الاكثر حضورا في الثقافة العربية ، ولكن الواقع ان المثقفين العرب لم يهتموا كثيرا بأدب الكاتب قدر اهتمامهم بأفكاره الانسانية. وكان ميخائيل نعيمة الوحيد الذي اعجب بأفكاره الفلسفية والانسانية. ومن هذا المنطلق بالذات جاءت قصائد احمد شوقي وخافظ ابراهيم وجميل صدقي الزهاوي في رثاء تولستوي بعد وفاته في نوفمبر عام 1910 . علما ان الشيخ محمد عبده تبادل الرسائل مع تولستوي. وجاء في احدى رسائله اليه المحفوظة في متحف ضيعة ياسنايا بوليانا:" فكما كنت بقومك هاديا للعقول ، كنت بعلمك حاثا للعزائم والهمم. وكما كانت اراؤك ضياء يهتدي به الضالون ، كان مثالك في العمل اماما اهتدى به المسترشدون". وقد اعترف الروائي العراقي غائب طعمة فرمان مرة في حديث معي بأن اقرب الكتاب الروس اليه هو تشيخوف ويليه دوستويفسكي ولم يذكر تولستوي.

لقد توجه تولستوي مع مرافقه الطبيب في ظلام الليل الى محطة القطار شيوكينو حيث تناول وجبة افطار من البيض المقلي. ومن ثم ركب القطار المتوجه الى شموردينو املاً في لقاء شقيقته الراهبة ماريا نيكولافنا الموجودة في الدير. وفي الطريق عرج على دير اوبتيما بوستين المشهور بالنساك في صوامعه. لكنه لم يلتق احدا منهم، بل حتى قال للراهب في فندق الدير:" انا تولستوي .. فهل تسمحون لي بالمبيت عندكم؟" . فأجابه الراهب : "اننا نتقبل الجميع !". اذ كان في خصومة شديدة مع الكنيسة الارثوذكسية الروسية.


ليف تولستوي وقرينته

لقد كتب الكثير عن دوافع هروب تولستوي من بيت عائلته ولكن جميع الكتاب لم يصلوا في الواقع الى الحقيقة. وزعم البعض انه هرب من سلطة قرينته التي كانت تحنو عليه وتعامله كالطفل ولا تسمح له بمقابلة اتباعه " التولستويين" او بالمشاركة في الاجتماعات الصاخبة او الذهاب الى الفلاحين الذين كان يعتبر نفسه جزءا منهم. وكانت تهدد دوما بالانتحار تحت القطار مثل آنا كارينينا او بالغرق في بركة الضيعة . وفعلا رمت نفسها بالبركة بعد استلامها رسالة من زوجها عقب هروبه. ولكن جرى انقاذها. وكانت صوفيا اندرييفنا تعارض البتة محاولات تشيرتكوف زعيم الحركة " التولستوية" لإرغامه على التخلي عن حقوق نشر مؤلفاته التي كتبها بعد بدء دعوته الفلسفية باعتبار انها ملك للبشرية جمعاء، وبعد نجاحه في ذلك صار اصحاب دور النشر يجنون ارباحا طائلة من نشر اعماله. علما ان تشيرتكوف كان يهتم بنجاح الحركة التي تحولت في الواقع الى تنظيم سياسي صارت السلطات تحسب له كل حساب. وكما هي العادة في كافة الازمان التحق بالحركة الانتهازيون والوصوليون الذين كانوا يريدون تحقيق منافعهم الذاتية ، ولا يهمهم مصير اسرة تولستوي الذي كان الشغل الشاغل لزوجته صوفيا اندرييفنا(او صونيا ). وقال البعض الآخر ان الشيوخ يميلون عادة الى قضاء الايام الاخيرة من حياتهم بعيدا عن ذويهم . كما أكد آخرون ان تولستوي اراد ان يعود الى احضان الطبيعة العذراء بعيداً عن ترف ضيعة الكونت حيث كان يتوافد عليها كل من هب ودب من اتباعه او من الفضوليين لرؤيته ومعاشرته، ولهذا كتب رسالة الى فلاح مع معارفه يدعى ميخائيل نوفيكوف يرجوه فيها قبوله للعيش في مزرعته. وكتب الرسالة بالاسم المستعار ت. نيقولايف(اعتمد هذا الاسم حسب الاتفاق مع ساشا الابنة الصغرى لتولستوي وكانت سكرتيرته الخاصة وتشيرتكوف). لكن الفلاح لم يرد على الرسالة الا بعد "هروب" تولستوي وكتب يعتذر فيها عن ضيق المكان وعدم توفر الظروف لقبوله، لكنه يرحب به كضيف مؤقت.

وفي هذه الايام وفي الذكرى المئوية لوفاة ليف تولستوي يجدر بنا تناول موضوع هروبه من منزله وعائلته في ضيعة ياسنايا بوليانا في ليلة 27 على 28 اكتوبر عام 1910 الى جهة مجهولة لكي نلقي الضوء على الكثير من افكار هذا الكاتب ولاسيما الافكار الدينية والاجتماعية التي جعلته يفقد بسببها عطف السلطات ورعاية الكنيسة التي اعلنت حرمانه منها. وجدير بالذكر انه لم يكن سياسياً يدعو الى الثورة على النظام القيصري كما لم يكن ملحداً لا يؤمن بالخالق، لكنه احتج فقط على غياب العدالة الاجتماعية، وكذلك على نفاق رجال الكنيسة والمؤسسة الدينية التي تخلت عن المبادئ الاساسية التي دعا اليها عيسى المسيح من محبة القريب والتسامح وعدم الاثراء على حساب الفقراء. ولهذا رفض حتى الطقوس الكنسية والايقونات بأعتبارها لا تمت الى العقيدة المسيحية الصحيحة بصلة كما انكر فكرة المسيح " ابن الرب" والبعث والغفران . وفي الواقع انه دعا الى توحيد الاديان على أساس مبدأ المحبة واللاعنف. وقد تأثر تولستوي في هذا بالافكار البوذية ولاسيما مبدأ اللاعنف والمساواة بين المؤمنين وكذلك بعدم قبول العنف في الاسلام "لا اكراه في الدين" وروح التسامح "لكم دينكم ولي ديني" ( وبودي الاشارة الى ان بعض المؤلفين العرب ينقادون عادة الى الرغبة في الادعاء بان هذه الشخصية العالمية الشهيرة او تلك قد اعتنقت الاسلام. وفيما يخص تولستوي فلا يوجد دليل على اعتناقه الاسلام سواء في اعماله ومقالاته او مذكراته اليومية. بل توجد في مكتبته كتب عن الاسلام منها المصحف الشريف باللغة الفرنسية ). وكانت النتيجة انه اصبح رغم انفه عدواً للكنيسة التي منعت بعد وفاته من تلاوة الصلوات على روحه او دفنه في المقبرة ووضع الصليب فوق قبره. وتم دفنه في حديقه الضيعة في قبر متواضع تغطيه الزهور في الصيف واغصان اشجار الشوح في الشتاء.

ومن المناسب الاشارة الى ان موضوع هروب تولستوي قد تكرر في عدة مراحل من حياته ومنذ ايام الشباب حين تطوع في الجيش وسافر الى القوقاز ثم حارب في القرم وبعد ذلك هرب الى موسكو ومن ثم الى بطرسبورغ ليعود لاحقاً الى ضيعته في ياسنايا بوليانا حيث استقر به المقام مع اسرته كما جاء في كتاب " تحرير تولستوي" بقلم الكاتب الروسي المبدع ايفان بونين الحائز على جائزة نوبل. وبونين ليس من النقاد الذين يخربشون ويسودون الصفحات في ايراد التحليلات الغريبة والمصطلحات والتعابير الشاردة التي لا يفهمها القارئ العادي بل كان يتناول بلغته البسيطة والجميلة صميم افكار تولستوي الفلسفية والدينية . فهو يورد ما كتبته الكسندرا لفوفنا (ساشا) الابنة الصغرى لتولستوي عن ابيها قائلة : لقد كان ينتظر ان تقوم ثورة في روسيا بعد الحرب اليابانية في عام 1905. وتحسس اتجاهات تفكير العمال والجنود والفلاحين ليس من الاحاديث معهم فقط بل من الرسائل الكثيرة التي كانت ترسل اليه من جميع انحاء روسيا. لكن كان واضحا بالنسبة له كل الوضوح ان الثورة لن تحسن اوضاع الشعب. ان كل سلطة تقوم على أساس القسر والطغيان ، ولهذا فان كل سلطة تعتبر سيئة ، وقال:" ان الحكومة الجديدة ستعتمد على التسلط مثل القديمة. لقد قام كرومويل ومارات بقمع خصومهما،وستعمل الحكومة الجديدة عندنا على قمع المحافظين.."واضاف قوله:" يجب بغية ان تصبح اوضاع الناس افضل ان يكونوا انفسهم أفضل. وهذه حقيقة بديهية مثل القول انه يجب لكي يغلي الماء في الاناء ان تسخن كافة قطراته. وبغية ان يصبح الناس أفضل يجب ان يعيروا المزيد والمزيد من الاهتمام بأنفسهم وبحياتهم الداخلية. اما النشاط الخارجي والاجتماعي، وبالاخص الصراع الاجتماعي، فهو يصرف الناس عن حياتهم الداخلية. ولهذا فأنه يفسد الناس حتما ويضعف من مستوى اخلاقيات المجتمع. مما يؤدي الى صعود ذلك القسم من المجتمع المنعدم الاخلاق والمتسم بالانانية والجشع اكثر فأكثر الى المواقع الرفيعة ويفرض الرأي العام غير الاخلاقي الذي يجيز وحتى يستحسن الجرائم. وعندئذ تتكون حلقة مفرغة : فأن أسوأ شرائح المجتمع المنبثقة عن الصراع الاجتماعي تندفع بحماس نحو ترويج مستوى النشاط الاجتماعي غير الاخلاقي ،ويجذب هذا النشاط أسوأ عناصر المجتمع ..".

وذكر الناقد دميتري ميريجسكوفسكي بصدد اسباب التغير في مواقف تولستوي الفكرية انه يسود في المجتمع الروسي الاعتقاد بحدوث انقلاب اخلاقي وديني عميق في دخيلة تولستوي مما جعلة يغير جميع حياته الشخصية واسلوب تفكيره وعمله الادبي ، وقسم هذا الانقلاب شخصيته ودوره الى شطرين: ففي الاول هو كاتب عظيم فقط وربما انسان عظيم ايضا، بكل ما يقترن بذلك من تطلعات واندفاعات انسانية وحتى روسية واحزان وشكوك ومواطن ضعف، وفي الثاني – نراه يخرج من جميع شروط الوجود التأريخي والثقافة . ويقول البعض انه مبشر مسيحي تقي ، بينما يؤكد آخرون على انه ملحد ، ويتهمه فريق ثالث بأنه متعصب ، ويراه فريق رابع كحكيم بلغ ذرى الاخلاق مثل سقراط وبوذا وكونفوشيوس ، وأسس دينا جديدا. لكن تولستوي نفسه كتب في عام 1879 في مقدمة كتاب لم ينشر وتحت عنوان " الاعتراف" يقول :" قبل خمسة اعوام وقع لي شئ غريب جدا.. اذ صارت تراودني لحظات من الحيرة وتوقف مجرى الحياة لدي ، كما لو أنني لا أعرف كيف يجب ان اعيش ، وماذا يجب ان أعمل: لماذا ؟ وماذا بعد ؟ - وتراءى لي كما لو انني عشت وعشت ، ومضيت ومضيت حتى بلغت الهاوية. ورأيت بجلاء انه لا يوجد أمامي شئ سوى الهلاك. وصرت اصبو بكل جهدي للأبتعاد عن الحياة. وعندئذ شعرت بانني انسان سعيد وبدون قيود.. وصرت اخفي الحبال لكي لا أشنق نفسي من العارضة بين الدواليب في غرفتي ..حيث ابقى لوحدي في مساء كل يوم، ولم اعد اذهب للصيد حاملا البندقية لكي لا تراودني الاغراءات بالتخلص من حياتي بهذه الوسيلة السهلة". وقد انقذه من حالة اليأس هذه التقارب من النساء البسطاء المؤمنين والشعب العامل. وقال:هكذا "اصبحت حياة العلماء الموسرين بغيضة الى نفسي ، بل وحتى خالية من اي معنى. وادركت بأن افعالنا واحكامنا والعلم والفنون ذات معنى جديد. انها كلها مجرد ثرثرة ولا يجوز البحث عن اي مغزى فيها.. وقد كرهت نفسي ، لكنني من ناحية أخرى عرفت الحقيقة. وبات الآن كل شئ واضحا لدي ..".

ان مثل هذا الاعتراف يفسر سبب عدم قبوله للدعوات الثورية مما جعل فلاديمير لينين قائد البلاشفة يكتب في تلك الفترة في مقالته " ليف تولستوي مرآة الثورة الروسية " قائلا :" ان اقران اسم كاتب عظيم بالثورة التي لم يفهمها ، والتي ابتعد عنها بجلاء ، قد يبدو لأول وهلة غريبا. فلا يمكن ان نطلق تسمية المرآة على من لا يعكس ظواهرها بشكل صحيح ؟...فمن جانب ان هذا الكاتب العظيم قدم صورا فذة عن الحياة الروسية وكذلك اعمالا ادبية ممتازة الى الادب العالمي. ومن جانب آخر انه اقطاعي صاحب عقارات، لكنه يسعى في الارض كناسك يبشر بدعوة المسيح. ومن جانب انه ينتقد بلا هوادة الاستغلال الرأسمالي ويفضح افعال القمع من قبل الحكومة ومهازل المحاكم وادارة الدولة ويكشف كل عمق التناقض بين تنامي الثروات ومكاسب الحضارة وازدياد الفقر في آن واحد، بينما نراه من جانب آخر ايضا يدعو الى ( عدم مقاومة الشر) بالعنف ". وخلص لينين الى الاستنتاج بأن تولستوي شخصية " مضحكة" فهو لم يفهم على الاطلاق الحركة العمالية ودورها في النضال من اجل الاشتراكية كما لم يفهم الثورة الروسية.

ويروي الكاتب بافل باسينسكي في كتابه " ليف تولستوي.الهروب من الجنة "، والذي تضمن وثائق كثيرة عن حياة تولستوي، إن الافكار حول الموت وحقيقة الرب كانت في الاعوام الاخيرة من حياة الكاتب الكبير تلازمه دوماً ، ولكن دون الخوف من الموت . وقد ترك الابداع الروائي وكتب فقط العديد من القصص ذات العبر بالاضافة الى الرسائل التي تتضمن تعاليمه. ويذكر بهذا الصدد احدى قصص الكاتب وعنوانها " هل يحتاج الانسان الى قطعة ارض كبيرة" . فأن بطل القصة الفلاح باخوم الذي كان يجوب الاصقاع بحثا عن ارض يمتلكها دفعه طمعه الى قبول الرهان مع البشكيريين بأن يحصل كهدية بدون مقابل على مساحة من الارض تعادل ما يستطيع السير فيه مشيا على الاقدام اذا ما واصل المسيرة حتى غروب الشمس. فصار باخوم يهرول ويقطع الفرسخ تلو الفرسخ بغية قطع اكبر مسافة والحصول على اكبر قدر من الارض فأنهارت قواه، وعندما حل الغروب سقط على الارض ميتا. والعبرة من هذه القصة ان الفلاح انقاد الى الطمع وبدلا من العمل في ارض صغيرة لكسب قوته، واندفع للحصول على المزيد والمزيد من الارض. فلقي حتفه لجشعه بينما ان الانسان لا يحتاج الى اكثر من ثلاثة اذرع من الارض من اجل قبره حسب قول تولستوي. علما ان هذا الهرولة من مكان الى آخر بحثا عن قطعة ارض اكبر لم تحل مشكلة الفلاح باخوم.

ويشير المؤلف الى ان فكرة الهروب تنعكس حتى في رواياته وكانت فكرة الهروب هاجس الكثير من ابطالها. ونجدها في شخصية نيخلودوف بطل قصة "صباح صاحب الضيعة" الذي يهرب من الجامعة الى القرية، وهروب الكونت توربين في قصة" فارسان" وتجواله بين المدن ، وتشرد بطل قصة " العاصفة الثلجية" في السهوب ،بينما يهرب الامير بولكونسكي الى الخدمة في الجيش ، وتهرب ناتاشا روستوفا في " الحرب والسلام" مع الضابط كوراغين. وتهرب آنا كارينينا من زوجها وبعد انتحارها يهرب فرونسكي الى الحرب الصربية. ويهرب الأب سيرغي الذي اغوته حسناء في صومعته الى سيبيريا ليبتعد عن حياة التمدن. اما الشكل الآخر لهروب ابطال روايات تولستوي فهو الانتحار فتنتحر آنا كارينينا كما ينتحر بروتاسوف في رواية "الجثة الحية" بعد اكتشاف امره رغبة منه في اتاحة الفرصة لزوجته للعيش مع حبيبها. ولو ان انتحاره لم يحل المشكلة حيث واجهت زوجته القضاء لمحاكمتها بتهمة تعدد الازواج. وينتحر ايضا يفجيني بطل قصة " الشيطان".

لقد هرب تولستوي أول مرة من جامعة قازان في مايو عام 1847 دون ان يكمل دراسته في كلية الحقوق(وكان قد انتقل اليها من كلية اللغات الشرقية)، وتوجه الى ضيعته ياسنايا بوليانا التي ورثها عن أبيه لدى تقاسم الارث مع اخوته بعد وفاة الاب. وكان يأمل في ان يدير مزارع الضيعة ، لكنه فشل فشلا ذريعا في تدبير شئونها. وقد اعطى تولستوي وصفاً دقيقاً لهذه الفترة من حياته في قصة " صباح صاحب الصيغة". وفي خريف عام 1848 هرب من الضيعة مرة اخرى الى موسكو حيث عاش حياة عابثة جدا بدون عمل وبدون معرفة وبدون هدف. وكان امامه سبيلان للخروج من هذا الوضع هما اما الخدمة في الجيش او الحصول على وظيفة ما في دوائر الدولة. وحاول العودة الى الدراسة بأداء الامتحانات في جامعة بطرسبورغ. لكن حل الربيع ودفعه الشوق الى حياة الريف للعودة الى ضيعته. وهكذا اضاع ثلاث سنوات من عمره عبثا في التردد والتذبذب على غير هدى. وصار يحلم في العمل بوزارة الخارجية او بالانضمام الى كتيبة الفرسان للمشاركة في الحملة المجرية، وبالعودة الى الحياة الريفية بحلول الربيع، ومن ثم التفكير بأستئجار محطة للبريد. ووضع مجموعة من المهام في حياته القادمة اوردها في يومياته منها دراسة اللغات الاوروبية والتأريخ والجغرافية والاحصاء والعلوم الطبيعية والزراعة نظريا وعمليا وبلوغ مرحلة متوسطة في معرفة الفن والموسيقى ووضع قواعد الحياة وكتابة البحوث حول هذه المواضيع. طبعا انه لم يحقق جميع هذه الاهداف طوال حياته كلها. وعاد مرة من المدينة الى الضيعه مفلساً مع موسيقي الماني اسمه رودولف فولع بالموسيقي وعكف أيامئذ على كتابة مقالة بعنوان " المباديء الاساسية للموسيقى وقواعد دراستها". وهكذا مضت حياته في الضيعة بممارسة النزهات والتمارين البدنية والموسيقى ودراسة اللغة الانجليزية ومطالعة غوته ووضع فكرة كتابه " الطفولة" لكن دون تحقيق هدف ما. اما في موسكو فكان يلعب القمار ومرافقة الغجريات والمومسات والغرق في الديون والديون. وفي نهاية المطاف تكللت مساعيه في الحصول على وظيفة بتعيينه كاتبا صغيرا من الدرجة الرابعة الرابعة عشرة في ديوان ادارة محافظة تولا. وقد مس هذا التعيين كبرياءه وطموحه حيث كان يصبو الى منصب أفضل.

وتغير الوضع في عام 1851 حين دعاه شقيقه نيقولاي للسفر الى القوقاز. وقد وصف تولستوي هذه الرحلة بأنها ضرب من الخيال. علما بأنه كاد ان يقوم برحلة مماثلة الى سيبيريا في خريف عام 1848 حين دعاه صهره فاليريان تولستوي زوج اخته ماريا وصعد معه الى العربة لكنه تذكر بأنه يسافر بدون قبعة وحقيبة سفر. وعدل عن الرحلة. وتوجه الى القوقاز مع شقيقه عبر استراخان على بحر قزوين واستقر به المقام في بلدة ستاري يورت الجبلية ذات الينابيع الساخنة التي يمكن طهي البيض فيها خلال ثلاث دقائق وحيث تغسل الفتيات الجميلات الملابس في مجرى الماء باقدامهن.وأعجدب كثيرا بالحياة هناك؟

لقد هرب الى القوقاز بدون اية وثائق ووجب عليه الانتظار اربعة أشهر لكي تصل من تولا، وبعد ذلك مثُل في مدينة تفليس(تبليسي حاليا) امام الجنرال ادوارد بريمر قائد لواء المدفعية في القوقاز. وانتظر تولستوي فترة أخرى في انتظار ورود الوثائق اللازمة الاخرى من سانكت – بطرسبورغ لكي يلتحق بالخدمة العسكرية في القوقاز. وحدث ذلك في فبراير عام 1852 . وامضى في القوقاز فترة ثلاثة اعوام وعرف فيها ايضا القمار والديون والمومسات. لكن اعتزاز تولستوي بالذات وكبرياءه حالا دون انزلاقه الى الحضيض، ومارس دوره في ذلك هواء الجبال والطبيعة الساحرة في القوقاز ورغبته في اظهار نفسه كشخصية ذات قيمة . وحفزه هذا كله الى التوجه الى الابداع .. وفي القوقاز ولد تولستوي ككاتب عظيم. حيث ابدع قلمه كتابيه " الطفولة" و" اليفاع". وكتب تولستوي في " الاعتراف" يقول انه " اخذ يكتب انطلاقا من الاعتزاز بالذات والأثرة والكبرياء".

ذاع صيت تولستوي في الاوساط الادبية الروسية فور صدور " الطفولة". وجذب الكتاب حتى اهتمام القيصر الذي قال ان من الواجب استدعاء هذا الضابط الموهوب من القوقاز الذي كان يعتبر بمثابة المنفى للعسكريين. بينما بكت القيصرة لدى قراءة قصة"سيفاستوبول في ديسمبر". وتركت الاصداء على الكتاب اثراً عميقاً لدى المؤلف، وكانت المحفز له لمواصلة الكتابة ونشر قصصه عن الحرب في القرم " اقاصيص سيفاستوبول". وقرر ترك حياة الجيش والاقامة في الثكنات في القوقاز ورومانيا والقرم. هذا بالرغم من انه كان جندياً وضابطاً شجاعاً وقوي البنيان ورفيقاً ممتازاً ولاعباً ماهراً بالقمار ونظم الشعر. بيد ان جميع رفاقه كانوا يشيرون الى غرابة اطواره... ومنها عدم رغبته في اختلاس اموال الدولة! كما كان يفعل غيره. ولهذا لم يكن "محبوباً" كما كان يرتبك في حضور النساء.

وقد كتب عنه ولده ايليا لفوفيتش فيما بعد يقول:" لقد كان لدى ابي دائما سبعة ايام جمعة في الاسبوع ،فهو يغير افكاره في كل يوم، وكان من المستحيل تفهمه حتى النهاية. وبودي القول انني حتى الآن لا أفهمه كما ينبغي. ان شخصيته هي مزيج من ناتاشا روستوفا ويوشكا والاميرين اندريه وبيير، والعجوز بولكونسكي وكاراتايف والاميرة ماريا والحصان خولوستومير"( في اشارة الى ابطال رواياته وقصصه). وفعلا كانت شخصية تولستوي متناقضة جداً مما ولدت مشاكل كثيرة له مع الآخرين.

وفي هذه المرحلة بالذات بدأ تولستوي يفكر في الاستقرار وتكوين أسرة، بالاقتراب من المرأة- الزوجة، وتجربة حظه في الحب والسعادة ، والبقاء في ياسنايا بوليانا. بالاخص وان الاعوام تمضي، وتنقضي فترة الشباب. وهذا ما اشار اليه في يناير عام 1852 في رسالته الى عمته تاتيانا يرغولسكايا التي تولت تربيته واخوته واخواته بعد وفاة والدتهم في سن مبكرة. ويذكر في الرسالة انه متزوج " وزوجتى وديعة وطيبة ومحبة وهي تحبك كما احبك أنا". وبعد زواجه من صونيا بيرس (صوفيا اندرييفنا)، صار يتحدث في رسائله الى المقربين عن " الجنة العائلية" التي يعيش فيها في ضيعة ياسنايا بوليانا. ولربما كانت السعادة العائلية تلك سبب انجابه 13 طفلا توفي بعضهم منذ الطفولة. اما الباقون فقد اصبحوا شخصيات مهمة وذوات مواهب. واليوم يوجد في انحاء متفرقة من العالم ثلثمائة وخمسين من الاحفاد وابناء الاحفاد الذين يجتمعون بين فترة وأخرى في ياسنايا بوليانا. وهذا يعني ان مشروع تولستوي العائلي كان ناجحا.

وهنا نتوقف الى ما يكتبه غالبية المؤلفين عن دور صوفيا اندرييفنا في حياته والزعم بأنها سبب هروبه من الضيعة في سن 82 عاما. وقد كانت لدى تولستوي علاقات غرامية مع فتيات من عوائل محترمة سواء في قازان ام في القوقاز ام في سانكت- بطرسبورغ ام في ياسنايا بوليانا . لكن العلاقات لم تصل الى حد الزواج. وفي بطرسبورغ انضم الى حلقة الكتاب الملتفين حول مجلة " سوفريمينيك" التي رأس تحريرها الشاعر نيكراسوف وعاش في شقة تورجينيف(وحدث خصام معه لاحقا وبلغ الامر حد اعلان المبارزة بينهما) وتعرف على كتاب وشعراء كبار مثل بانايف ودروجينين واوستروفسكي ومايكوف وفيت وغيرهم. لكنه لم يفكر هناك في الزواج ابدا . وفي ضواحي ياسنايا بوليانا تعرف على الفتاة الريفية فاليريا ارسينيفا التي كانت تطمع في الزواج من كونت وضابط وكاتب معروف تقرأ جميع الفتياة كتابه" الطفولة". لكن تولستوي لم يعجبه سلوكها الساذج وتركها وسافر الى خارج البلاد. وفيما بعد صار يبحث عن شريكة حياة أخرى.وتحول اهتمامه الى يكاترينا ابنة الشاعر الكبير فيودور تيوتشيف. بيد انها قابلت غزله ببرود.

ويتبين من يومياته ان الشهوة الجنسية التي كانت قوية لديه كما يبدو شكلت العائق الرئيسي امام انشاء " الجنة العائلية " التي كان يحلم بها. وكان يرضي هذه الرغبة باقامة العلاقات مع الفلاحات والعاملات في الفنادق الاوروبية وكذلك مع المومسات ، لكن هذه العلاقة لم تكن ترضيه. كما كان يعذبه الشعور بالاثم وعدم وجود اي شعور نير في اقامة العلاقات مع امثالهن. ومع ذلك لم يكن يجد مهربا من الشهوة التي تسيطر عليه بين الفينة والفينة سوى بالزواج. ويذكر تولستوي في يومياته قصص علاقاته الغرامية الكثيرة لأرضاء الشهوة العارمة. ويصف هذه الحالة في قصة " الشيطان" التي اخفاها في حينه عن اعين ذويه ، وواصلها في قصة " سوناتا كريسر".

وأخيرا وجد تولستوى بموسكو في عام 1860 الزوجة المنشودة في عائلة بيرس. وفي عام 1862 تزوج صونيا بيرس. وكانت توجد لدى تولستوي عقدة كونه غير وسيم الطلعة فأنفه كبير واذناه كبيرتان وحاجباه غليظان وعيناه ضيقتان وزرقاوان. لكن الامور في عائلة بيرس تتسم بالبساطة ، واستقبل بالترحاب ، لاسيما وانه من اسرة تولستوي النبيلة ذات الخدمات الجليلة الى الدولة الروسية منذ ايام بطرس الاكبر ، كما كانت تربطه صلة قرابة عن طريق الام مع بوشكين كبير شعراء روسيا. علما ان تولستوي كان يعرف الام منذ الطفولة ويخاطبها بلا كلفة. اما الأب فكان طبيب الكرملين وتنتمي اصوله الى الالمان الذين جاءوا الى روسيا في ايام بطرس الاكبر وتروسنوا. وكانت في الاسرة ثلاث اخوات- ليزا وصونيا وتانيا. وفي بداية الأمر حار تولستوي في التعامل معهن لأنهن جميعا وقعن في غرامه. هذا بالرغم من كونه غير وسيم – حسب رأيه – لكنه بالنسبة لهن ضابط مقاتل وكاتب شهير يتمتع بالحظوة لدة الاسرة القيصرية. وهذا شئ هام بالنسبة الى افراد عائلة بيرس - طبيب الكرملين. وبعد تردد طويل وقع اختياره على صونيا. ربما لأنها كانت تتمتع بأنوثة نادرة جذبت اليها جميع المعارف من الرجال ومنهم ليف تولستوي الذي وجد فيها " الزوجة المثالية" التي كان يحلم بها لمواهبها العديدة من العزف على البيانو والرقص وكتابة القصص ونظم الشعر ولثقافتها العالية . وعانى تولستوي من عذاب الارق في الليالي لكي يقرر كيف سيطلب يدها ويصارحها. وكان يخشى ان ترفض طلبه. وكتب لها مرة رسالة يعلن فيها حبه وضعها في جيبه لكنه لم يسلمها اليها لدى اللقاء معها. وكتب في يومياته" انا مجنون ، وسأطلق الرصاص على رأسي ، هل يعقل ان يستمر الحال هكذا". ويعتقد النقاد ان رواية " آنا كارينينا "، حيث يرد وصف زواج ليفين من كيتي، تجسد قصة حب تولستوي لصونيا بدون رتوش. ويبقى تولستوي وفيا لصونيا طوال حياته . وليس عبثا ان ينصح بونين بأن يعيش مع امرأة واحدة بقوله:" هل انت اعزب؟ ام متزوج؟ يمكن ان يعيش المرء مع امرأة واحدة فقط والا يتركها ابدا". فقد وجد تولستوي مع صونيا السعادة الحقيقية بالرغم من فارق السن الكبير بينهما اذ كانت لدى الزواج في سن 18 عاما بينما تجاوز هو سن الثلاثين، وحين لفظ انفاسه الاخيرة كان يدعوها اليه. ويرتبط سلوكه ذلك بافكاره الفلسفية وتغير نظرته الى العالم ككل بعد الزواج. فقد كان يبحث عن الانسجام في الاسرة والمجتمع. وتحملت صونيا في الايام الاولى في بيت الزوجية المظاهر الخشنة للحياة حيث عاش رب البيت كما يعيش أي أعزب من حالة الفوضى وغدم توفر النظافة.كما عرفت بوجود كسينيا الفلاحة عشيقة زوجها سابقا والذي رزقت منه ولدا. لكنها اعتبرت ذلك من الماضي ، بالاخص ان تولستوي اطلعها على يومياته حين كان اعزب وتضمنت الكثير من الامور المخالفة لمفاهيمها الاخلاقية التي تربت عليها. ولم تعجبها الحياة الريفية بعد الحياة في شقة ابيها في الكرملين وطراز الحياة " البرجوازي" هناك. وكان اسلوب تفكيرها يتسم بالبراجماتية مع الايمان بالقيم الاخلاقية المسيحية والاهتمام بالأسرة ورفاهها وتدبير شئون المنزل. بعكس تولستوي الذي كان مؤمنا مثاليا وان "الرب في داخلنا".كما انه لم يحب المدينة بل عشق الحياة في الريف. بينما كانت صونيا تحب الحفلات الموسيقية والراقصة والمسرح. وبعد الانقلاب الروحي لدى تولستوي واعلانه " المسيحية الجديدة" بدون طقوس ومظاهر فخمة في الكنيسة كان لا يعترف بالحفلات الموسقية ويتجاهل المسرح الدرامي السائد وكتب نفسه مسرحيات من نوع آخر مثل " سلطان الظلام" و" ثمار المعرفة" ولم يمثل الارستقراطية التي كان ينتمي اليها. كما لم يعترف بالاساليب الحديثة في الفن والنحت. لكن هذا كله لم يقف عائقا دون وجود علاقة حب عميقة بين تولستوي وصونيا. ويتبين ذلك من يوميات تولستوي على مدى 48 عاما من الحياة الزوجية.

وبمرور الاعوام انبثق الخصام بينهما بسبب: هل ان تولستوي يوجد من اجل الاسرة ام من اجل الجميع؟ وقد كسبت صونيا المعركة الاولى حين كان تولستوي مشغولا بالأمور الزراعية وتربية النحل والخنازير والجياد وصنع النبيذ. وكان زوجها سعيدا جدا ايامذاك. وكتب في يومياته" انني احبها حين استيقظ ليلا او صباحا فأراها تتطلع ألي وتحبني".. وانا احبها حين تجلس الى جانبي ، ونحن نعلم بأننا نحب احدنا الآخر ..". لكنها خسرت الجولة الثانية بعد نشوء "الحركة التولستوية" التي قادها فلاديمير تشيرتكوف صديق ومساعد تولستوي الذي تولى نشر اعماله وتوزيعها. وتشيرتكوف سليل عائلة ارستقراطية روسية حصل على تعليم ممتاز وخدم في الجيش فترة 8 اعوام ثم ترك الخدمة واستقر في ضيعة العائلة ليزينوفكا. وفي عام 1883 تعرف على تولستوي واعجب بأفكاره وأسس بنصيحة تولستوي دار النشر " بوسريدنيك" التي كان هدفها نشر كتب رخيصة تكون في متناول الناس البسطاء. وجرت بينهما مراسلات نشرت في خمسة مجلدات وتضمنت الكثير من أراء تولستوي الفلسفية. وفي عام 1897 نفت السلطات الروسية تشيرتكوف الى بريطانيا لمساعدته طائفة المسيحيين الروحانيين (دوخوبوري) التي ظهرت بروسيا في القرن الثامن عشر. وكان افرادها يرفضون الطقوس الكنسية والقسس والرهبنة ويؤلهون قادتهم ويرفضون الخدمة العسكرية. ولهذا لاحقتهم السلطات. وقام تشيرتكوف من منفاه في بريطانيا بنشر اعمال تولستوي التي منعتها الرقابة في روسيا وأسس ارشيف تولستوي. وفي عام 1918 ، بعد سقوط النظام القيصري قام لدى عودته الى روسيا بنشر اعمال تولستوي في 90 مجلدا. وقد اصبح تشيرتكوف العدو اللدود لصوفيا اندرييفنا لأنه كان يشجع تولستوي على القيام بخطواته في التخلي عن جميع ممتلكاته وتوزيعها على الفقراء ورفض حقوقه كمؤلف وغير ذلك من أهمال شئون العائلة والتوجه الى الشعب.فباع الكثير من ممتلكاته منها الطاحونة وجزءا من غابات منطقة ياسنايا بوليانا ولم تذهب هذه الاموال الى العائلة ابدا.ولم تكن زوجته تريد تحول ابنائها وبناتها الى فقراء معدمين. وكان ذلك سبب غربته عن العائلة. لكن بقي مع هذا – وياللمفارقة- حبه العارم لصونيا ، واهتمامه المفاجئ بأحوال العائلة حين قام بترميم بيته في خاموفنيكي بموسكو واشرف بنفسه على شراء مواد البناء والاثاث ربما لإرضاء صونيا. وقد تأسست لدى " الحركة التولستوية" مستوطنات كان انصار الحركة يعملون فيها في الارياف في احضان الطبيعة بعيدا عن جميع مظاهر التمدن. علما ان تولستوي لم يرغب لدى هروبه من ياسنايا بوليانا في التوجه الى مستوطنات هذه الحركة ومقابلة انصاره بعد ان شعر ان الحركة اخذت منحى مخالفا لما كان يتمناه. فقد تحولت الى منظمة ذات اتجاه سياسي. ولم يفكر تولستوي ابدا لدى نشر دعوته في تأسيس حزب سياسي. بالاخص بعد ان صاروا يصفونه بشتى الصفات مثل "المسيح الجديد" و" النبي" وهلمجرا. فلم يكن هذا مقصده ابدا. وقد لعب تشيرتكوف دورا هاما في حية تولستوي في الاعوام الاخيرة من حياته وبالاخص في اثارة الجفوة بين الكاتب وزوجته حيث كان يعتبرها مجرد ربة بيت وأم للاطفال ويجب عليها الا تتدخل في الامور " العقائدية" لتولستوي. وكان يعتبر الكاتب رجلا عظيما بمثابة " رب العمل " اما افراد الاسرة وغيرها فهم من " العمال" – بالضبط كما يرد في قصة تولستوي بهذا العنوان " رب العمل والعمال". علما ان تشيرتكوف يعتبر من خيرة" العمال " الى جانب تولستوي. فقد قام بتأسيس دار النشر الشعبية " بوسريدنيك" وعمل على القيام بحملة واسعة لترجمة اعمال الكاتب ونشرها في خارج روسيا واعداد الكثير من مشاريع تأسيس دور النشر والمجلات والصحف المكرسة الى تولستوي حصرا . وكان ينافس صوفيا اندرييفنا التي اشرفت على نشر اعمال تولستوي الاولى (قبل عام 1881 ) في دار نشر روميانتسيف ومن ثم من قبل المتحف التأريخي.كما اشترى تشيرتكوف من ماله الخاص جهاز استنساخ من اجل طبع اعمال تولستوي سرا والتي منعتها الرقابة في ضيعته بمحافظة فورونيج. كما كان مطيعا ومسايرا لكل ما يقوم به تولستوي( ولو ان بعض معاصريه اشاروا الى انه كان غريب الاطوار وربما يعاني من مرض نفسي) ، بعكس صوفيا اندرييفنا التي كان شغلها الشاعل الحرص على مصلحة الاسرة والصراخ على زوجها والتهديد بالانتحار وتتجاوز الحدود في ابداء الغلظة مما كان يؤذي مشاعر تولستوي لحد كبير. لكن تدخل تشيرتكوف في حياة العائلة كان السبب الرئيسي في العداء الذي استفحل بينه وبين زوجة الكاتب العبقري.وبالاخص فيما يتعلق بالتخلي عن الممتلكات.

ان التخلي عن الممتلكات كانت ظاهرة مالوفة في صفوف الاغنياء بروسيا وخارجها في القرن التاسع عشر. وكان بعض التجار الروس يتنازلون في اواخر ايام حياتهم عن ممتلكاتهم لصالح الاديرة ودور الايتام للتكفير عن ذنوبهم وهلمجرا . ومعروفة قصة اللورد الانجليزي ريدستوك العقيد في الجيش البريطاني الذي شارك في حرب القرم وقام في سن ثلاثين عاما بالتخلي عن جميع ممتلكاته ووزعها على الفقراء وسرح الخدم في قصره. لكن اقدام تولستوي على التنازل عن ممتلكاته من اجل كسب المتعة الروحية والبهجة قد انقلب الى مصدر عذاب له. فقد لامته زوجته على كونه يريد مساعدة الفقراء وفي الوقت نفسه تحويل ابنائه الى معدمين. بينما كان تولستوي نفسه يبرر ذلك بان حياة الترف على حساب العمل المجهد للأخرين ليست الحياة بل هي الموت الروحي. وادى الخلاف بين تولستوي وزوجته وبقية افراد العائلة الى جعل الحياة في ياسنايا بوليانا وفي بيت العائلة بموسكو لا تطاق. علما ان العائلة قد ازداد عددها بمولد فانيا في عام 1888 وكان تولستوي قد بلغ الستين عاما وصونيا سن 46 عاما. وبذلك ازدادت نفقات العائلة . لكن تولستوي كان يرفض ان يناقش مع زوجتنه اية امور تتعلق بالشئون المالية للعائلة ويظهر لدى طرحها انزعاجه بأعتبارها من توافه الامور. مع العلم بأنه كان يجب مراعاة ان الاطفال يريدون ان يأكلوا ويلبسوا ويتنزهوا كما يجب استقبال الضيوف الكثيرين واجراء واجب الضيافة لهم. ناهيك عن شراء الفحم والخشب للمواقد ودفع اجور الخدم وحارس الضيعة. هذا في الوقت الذي كانت مؤلفاته الصادرة بعد عام 1881 (وحسب الاتفاق حصلت زوجته على حقوق نشر مؤلفاته لما قبل هذه الفترة ومن عوائدها كانت تدبر شئون البيت) تطبع بملايين النسخ في روسيا والبلدان الاخرى بعد ان ذاعت شهرته في كافة الاصقاع. وفي نهاية المطاف تم في عام 1883 الاتفاق بين تولستوي وزوجته على ان تتولى تدبير شئون العائلة والضيعة عموما. ومنذ ذلك الحياة لم يعد تولستوي يمارس ما كان يعتبره " شرا" ويوقع الاوراق المخالفة لعقيدته ويبدي الحرص على قيام البعض بالاستحواذ على ما اعتبره ليس ملكا اعطاه له الرب. وصارت صوفيا اندرييفنا تتولى القيام بكافة هذه الاعمال. لكن تولستوي آمل مع ذلك في ان يكسب ابناؤه قوتهم بعرق جبينهم وان يتخلوا عن ممتلكاتهم. ولابد من الاشارة الى ان انباء الخلافات في عائلة تولستوي تسربت الى الصحافة وصارت تناقش في الاوساط الاجتماعية.

وفي موضوع التخلي عن حقوق النشر في عام 1991 وجه تولستوي ضربة الى صوفيا انرييفنا التي شاركته العمل لدى تأليف بعض رواياته وكانت تنصحه بحذف بعض المقاطع خشية الرقابة او عدم التقبل لدى الرأي العام وذلك حين كانت تستنسخ اعماله. وقد اعادت استنساخ " الحرب والسلام" ست مرات ! وجدير بالذكر انها عارضت في نشر قصة " سوناتا كريسر" وحتى كرهتها. لكنها عملت المستحيل من اجل نشرها. وقابلت القيصر في سانكت - بطرسبورغ من اجل السماح بنشر المجلد الثالث عشر من مؤلفاته الكاملة التي تتضمن مذكراته بعنوان " رحلتي الى بطرسبورغ". واعتبرت صونيا تحول القيصر الى "رقيب " شخصي لزوجها انتصارا لها. والنصر الاخر كان اقناع فسيفولجسكي مدير المسارح الامبراطورية باخراج مسرحية تولستوي " ثمار المعرفة" التي حظر تقديمها على خشبة المسرح سابقا.

ويشير الباحثون الى ان العلاقة بين اولستوي وصونيا كزوج وزوجة لم تتأثر بالرغم من جميع هذه الخلافات . وكان حتى يغار عندما تبدي زوجته الاهتمام بأي رجل كما حدث لدى رغبتها في سماع موسيقى الملحن الكبير تانييف مدير كونسرفتوار موسكو في اثناء وجوده في بطرسبورغ ، حيث كتب تولستوي(كان في سن 70 عاما بينما تجاوزت صونيا الخمسين عاما) لها رسالة شديدة اللهجة يعرب فيها عن غيرته منه (كتب قصة " سوناتا كريسر" بالذات للتشهير بالملحن تانييف وانتقاما لأعجابها بهذا الموسيقار الكبير).ووصف تانييف بالتافه وكان يبدي انزعاجه من الملحن لدى زياراته الى ياسنايا بوليانا ويطلب منها عدم استقباله او تبادل الرسائل معه. علما ان صونيا كانت تعشق الموسيقى شأنها شأن تولستوي نفسه. والطريف ان صونيا نفسها اصابتها الغيرة الشديدة لدى تكرر زيارات الشابة غوريفيتش صاحبة المجلة الادبية " سيفيرني فيستنيك" لزوجها للاتفاق على نشر قصته "رب العمل والعامل". واغاظها قيام غوريفتش بالتغنج وجذب انتباه الكاتب الى مفاتنها الانثوية.

لقد كتب تولستوي في يومياته عبارات تعكس فلسفته " الهروبية" .فقد جاء فيها :"..كما ان الهنود يتوجهون في سن 60 عاما الى الغابات يود الانسان العجوز والمتدين ان يكرس الاعوام الاخيرة من حياته الى الرب، وليس الى المزاح والثرثرة والنميمة ولعبة التنس ، وكذا حالي وانا في سن 70 عاما اود من كل اعماق روحي هذا الهدوء والخلوة مع الذات وكذلك الوفاق، هب انه ليس الوفاق التام، بل الا يكون هناك تضارب شديد بين حياتي ومعتقداتي وضميري".

وبدأ تولستوي التفكير في الخروج من ياسنايا بوليانا قبل حوالي 25 عاما من تنفيذ الخطة التي اعد تفاصيلها وصقلها مثلما كان يؤلف روائعه الادبية. لكنه نفذها فجأة ..كما لو طرأت في خاطرة بغتة وبدون سابق انذار. وطلب في رسالته الى زوجته المغفرة لتسبب الالم لها ، كما رجاها الا تلاحقه والا تدينه على فعلته. ولهذا لم يتحقق "المشروع" العائلي الذي فكر فيه قبل زواجه. فلم يصبح الزوج والاب الذي يجمع الخيرات من اجل اولاده ويوفر لهم الحياة الرغيدة. لأن هذه الفكرة بحد ذاتها اصبحت مقيتة لديه. حقا ان الخلاف مع زوجته كان احد اسباب "هروبه" ليس الى الغابات كما يفعل الهنود بل الى مصير مجهول، اذ قال لمرافقه الطبيب انه لم يقرر بغد الى اين سيذهب. وكنه توجه الى شقيقته في دير حيث اعرب عن رفبته في دخول الدير لكنها حذرته من ان الرهبان لن يقبلوا بوجوده اذا ما واصل التبشير بأفكاره المضادة للكنيسية ، ومن ثم عرج على دير اوبتينا بوستين دون ان يعرف الغرض من هذه الزيارة ، حيث لم يقابل شيوخه وعلى رأسهم الناسك امفروسي ، وفي محطة استابوف انزل من القطار بسبب ارتفاع درجة حرارته واصابته بالالتهاب الرئوي ، وهناك بقي ينازع الموت في بيت مدير المحطة وفارق الحياة بعد سبعة ايام.

كان تفكير تولستوي في الفترة الاخيرة من حياته منذ مطلع الثمانينيات يختلف كل الاختلاف عن السابق...وصار يفكر بجد ان يعيش مثل بقية الفلاحين فتخلى عن الملابس الانيقة واستبدلها بملابس الفلاحين واعتبر ان الحياة الريفية الآمنة تعتبر المخرج الوحيد من ازمة المجتمعات في عصره وهي تخلص العالم من الثورات والحروب ، لأنها تجسد تحقيق دعوة الرب الى العمل الشاق وعدم التهافت على انتهاز الفرص لتحقيق المنافع الذاتية في عالم مترع بالآثام والزيف والمخالف للطبيعة .. ومن المجتمع الذي يعمل فيه الاكثرية بجهد ويعانون من شظف العيش بينما تعيش الاقلية برغد ورفاهية وترتكب الفسق والاثم خلافا للتعاليم الدينية على حساب هذه الاغلبية. لقد حاول تولستوي في الاعوام الاخيرة من حياته الجمع بين الاديان العالمية والممارسات التطبيقية في نموذج سلوك اجتماعي من طراز جديد ورسم العلاقة بين " الانسان والله".وفي النهاية استخلص الاستنتاج بأن الشخصية الانسانية هي جزء من الرب ويمكن عبر المحبة فقط يمكن ان توسع هذه الصلة وتندمج البشرية في كل واحد. اما الاسرة فيجري تكوينها من اجل مواصلة النوع البشري فقط ولهذا لم يهتم بالاسرة. وقد أظهرت الايام ان مثل هذه الافكار المثالية شأنها شأن احلام كثير من الفلاسفة في التأريخ لا تغير مسيرة تطور المجتمع البشري التي ما برحت تقترن بالعنف والطغيان والجشع الى جانب الدعوات الى الخير والعدل والمساواة بين البشر التي غالبا ما لا تجد نصيرا لها.



20 /11/201




 

free web counter