موقع الناس     http://al-nnas.com/

الزهاوي تفكّرٌ فلسفي لا تحجر عقائدي


خلدون جاويد

الخميس 1/6/ 2006

تألق الشعر وهو يتغلغل فلسفيا ً في ثنايا صيغة ايمانية ، معبراً عن فكر بعض الآيات القرآنية ، على يد الشاعر جميل صدقي الزهاوي ، فراح يربط مابين مفردتي الدنيا متاع : " وما الحياة الدنيا الاّ متاع الغرور" ، وبين الحياة بوصفها " دوحة فينانة ، غصونها مبثوثة في كل صوب " ، وهي كما يشير البيت الأخير من القصيدة ، مدفوعة ( أي الحياة ) بيد ٍ، ومستمرة في طاقاتها الحركية بسبب ومسبب ... ها هي قطعة مجتزأة من قصيدة " الحياة والطبيعة " :

أجد الحياة من الطبيعة تنبعُ                 والى الطبيعة بعد حين ٍ ترجعُ
وكأنما هي دوحة فينانة ٌ                     منها الغصون الى الجهات تفَرّعُ
تبدو وتخفي في الطبيعة نفسها             فكأنما منها لها مستودع ُ
ان الطبيعة في جميع شؤونها               كالله عن أعمالها لاتهجع
تمتد في كل الجهات وتملأ                   الأبعاد حتى ليس يخلو موضع ُ
فهي المكان وكل ماهو يحتوي              وهي الزمان وكل ماهو يجمع
هي في حياتي جنتي وجهنمي               فيها نعيم ٌ لي ونار ٌ تلذع
ما في الطبيعة أرضها وسمائها             غير الطبيعة مايضر وينفع
هي مظهر لله جل جلاله                     والله تطلبه العقول فترجع
ليست بحادثة ولكن صورة                  قدمت كمبدعها فجلّ المبدع
أما محاسنها فتلك كبيرة                     اني بهن من القديم لمولع
تسع المجرة في السماء عوالما ً            أما الطبيعة فهي َ منها أوسع ُ
وكأنما تبغي الكواكب مخرجا ً               منها فتعدو في الفضاء وتسرع
مدفوعة فيه كأن يدا ً لها                    من خلفها في كل حين ٍ تدفع
ُ " .

الحياة هنا في نظر الشاعر جزء من الطبيعة التي هي مظهر كما يفيد النص أعلاه ، " لله جل جلاله " ، واليه ترجع العقول و " الله عنده حسن المآب " ، والطبيعة هنا قديمة كمبدعها وليست محدثة ! . ولكنها في طرح آخر محدثة ودلالة حدوثها انها تدفع بيد المُحْدِث . وهنا مكمن هاجسين ورؤيتين وتأملين واعتقادين . أي بتلخيص ما ، ووفق ماورد، لابأس أن نفكر بكونها قديمة لاعدم قبلها – الطرح المادي – وأيضا من حق من يشاء ان يقول بحدوثيتها على يد خالقها . لقد طرح الزهاوي الموضوع من جهتيه ، وهنا براعة اللعب او المشاكسة او تثنية الأفكار باتجاهين وهذا روح وروعة الرياضة الذهنية وأفضليتها حضاريا على التلقين القسري والاقناع والاقتناع خوفا او الموافقة على كل مايُملى .
ولعله من المفيد التعريج على المفردتين بشكل سريع للتنويه بمعنى القدم والحدوث ، يقول محمد جواد مغنية في شرح مبسّط : " كل موجود ان كان لوجوده اول سمي حادثا ً ، وان لم يكن لوجوده أول سمي قديما ً : فالقديم موجود في الأزل ، ولم يسبق بالعدم ، والحادث لم يكن ثم كان " .
وبما أن الشاعر الزهاوي يشير الى أن الحياة مظهر للخالق فلابد من الإحالة الى معنى الدفعة الاولى المسببة للحركة . هل كان الكون ساكنا ثم تحرك بدفعة أي بفعل ام انه يكتسب حركته
من ذاته ؟
لدى ارسطوطاليس في كتابه العبارة قول يؤكد فيه على وجود قدمية للفعل :" وقد ظهر مما قلنا ان ماوجوده واجب ضرورة فهو بالفعل فيجب من ذلك ان كانت الاشياء الازلية اقدم ان يكون ايضا الفعل اقدم من القوة فتكون بعض الاشياء بالفعل دون القوة ومثال ذلك الجواهر الأُوَل وبعضها مع قوة وهذه الاشياء هي بالطبع اقدم فاما بالزمان فانها اشد تأخرا وبعضها ليست في حال من الاحوال بالفعل انما هي قوى فقط ". وقد عقب الشيخ ابو نصر محمد بن محمد الفارابي بالشرح : " وقوله : بعض الاشياء بالفعل دون القوة ومثال ذلك الجواهر الاول ، فهذا ايضا من الاشياء الغامضة . ومثاله أغمض جدا . غير ان معنى الجواهر الاول كانت كانها مشهورة عند جمهور اهل زمانه . فان اوليك كانوا يعتقدون الهة كثيرة ".
وهنا وارتباطا مع قصيدة الزهاوي تحسم الرؤية الاسلامية الموقف ايمانيا مؤكدة بان الفعل والقوة المسببة للوجود انما ، ومثلما أشارت القصيدة ، انعكاس لإرادة الهية ، واستنادا الى تأكيد الآية الكريمة : " ولله غيب السموات والأرض واليه يرجع الأمر كله " .
ومادمنا نطارد مقولة الفعل الاول ومنطلق الحركة الاول ، فلا بأس أن نرى ماهو على الطرف المغاير ... تقول الرؤية المادية على لسان بودوستنيك وياخوت : " لم تكن أبدا ً حالة كانت فيها المادة بلا حركة . لذا يقولون ان الحركة هي شكل بقاء المادة ، شكل وجود المادة . ان الحركة خاصية ملازمة للمادة . ولاوجود للمادة بلا حركة ، وهي لاتوجد الا في الحركة " . وتشير أذهان اخرى قد تفكرت عبر التاريخ بالفاعل الأول لسبب الوجود . يقول ابن طفيل في " حي بن يقظان " : " فلما تبين له انه ان الكون كله كشخص واحد في الحقيقة وانه محتاج الى فاعل مختار تساءل : هل هو شئ حدث بعد أن لم يكن ، وخرج الى الوجود بعد العدم ؟ أم هو أمر كان موجودا فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه ؟ .
رأى نموذج ابن طفيل ، انه ان اعتقد قدم العالم وان العدم لم يسبقه وانه لم يزل كما هو فانه يلزم عن ذلك ان حركته قديمة لانهاية لها من جهة الابتداء ، وكل حركة لابد لها من محرك ضرورة ، وعلى ذلك لابد ان يكون المحرك لامتناهيا ، ولزم لذلك ان يكون بريئا ً من المادة .
وان اعتقد حدوث العالم وخروجه الى الوجود بعد العدم يلزم عن ذلك ضرورة انه لايمكن ان يخرج الى الوجود بنفسه ، وانه لابد له من فاعل يخرجه الى الوجود ، وان ذلك الفاعل لايمكن ان يدرك بالحواس ، وانه لو كان جسما ً من الاجسام لاحتاج الى محدث وتسلسل ذلك الى ما لانهاية . واذن فلابد للعالم من فاعل برئ عن المادة " .
أما الشهيد محمد باقر الصدر فيقول : " ان سبب الحركة التطورية للمادة في صميمها وجوهرها ، ليس هو المادة ذاتها ، بل مبدأ وراء المادة ، يمدها بالتطور الدائم ، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرج " .
ولعل الشاعر الزهاوي يعود مرة اخرى الى معاناته اللآمجدية في الوصول لوحده واستنفادا ً لطاقاته الانسانية التأملية الفردية ، يعود الى القول بأن الليل داج والتأمل حسب مايشير المقطع الآتي من الشعر من ديوان الزهاوي ص 43 لايفضي الى ملموسية سوى الخوف والضلال لولا مناجاة واحدة هي أمله وخلاصه :

" أرسلت ُ طرفي في الفضاء فلم يقف              فعلمت ان البعد فيه سحيق ُ
ياطرف أرجو في سراك الى العلى                  أن لايعوقك عنده العيّوق ُ
بين النجوم به وأنفسنا التي                         تنوي الرحيل من الأثير طريق ُ
الليل داج ٍ والطريق مخوْفة ٌ                        فضللت ُ لولا الله والتوفيق ُ
".

ان الزهاوي هنا يستهدي برؤيته الدينية ويعول على التوفيق واحتمال النجاح بالمعرفة الممكنة عبر الركون الى الايمان .
وما الحياة مرة اخرى الاّ ابداع رباني حسب الزهاوي ذاته واستنادا لقصيدة له بعنوان فزع الى الله ، والتي يذكر فيها انه يهرع من دواجي الليل وخطوب الدنيا ليتضرع بقلب مفزوع مروع ، فقرأ اسم الاله في توالي الليل والنهار واستخفاء وطلوع الشمس فشكل ذلك يقينا بأن الله مبدع للكون :

اليك الهي في بكاء ٍ أجيده ُ                    قصيدا اذا مانابني الخطب ُ أضرع ُ
اليك بداجي الليل في البحر ان طغى          اليك اذا ماريع قلبي أفزع ُ
عبدتك ما أدري ولا أحد ٌ درى               أسرك أم سر الطبيعة أوسع ُ
قرأت اسمك المحمود في الليل والضحى     اذا الشمس تستخفي اذا الشمس تطلع ُ
فأيقنت ان الكون بالله قائم ٌ                   وأيقنت أن الله للكون مبدع
ُ .

ان الشاعر هنا يستند الى فلسفة القرآن الكريم ، منطلقا من : " ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاُلي الألباب " .
ويذكرنا الزهاوي هنا بالمتصوفة الذين يرون تجلي الله في الظواهر المادية او الحسية ، يقول عمر فروخ في كتاب التصوف في الاسلام وفي معرض الحديث عن ابن الفارض : " وقريب من الحلول القول بالاتحاد ( أو وحدة الوجود اذا شئت )
، وذلك ان مظاهر الوجود المختلفة ترجع كلها الى حقيقة واحدة . فكل نوع من العبادة تجد الله وراءه ، وكل شكل من الحب يقصد به الله ، وكل مظهر طبيعي يمثل صفة من صفات الالوهية ( من شعر ابن الفارض ) :

بدت باحتجاب ٍ واختفت بمظاهر ِ            على صيغ التلوين في كل برزة ِ
وتظهر للعشاق في كل مظهر ٍ                من اللبس في اشكال حسن ٍ بديعة ِ


ويعقب عمر فروخ قائلاً : " وهذا الاتحاد لايظهر في الاشخاص فقط ، بل في مظاهر الطبيعة المختلفة ، فالله يتجلى في كل شئ " ويستشهد بهذه الأبيات لابن الفارض أيضا ً :

" تراه –ان غاب عني – كل جارحة ٍ             في كلّ معنى لطيف ٍ ، رائق ٍ بهج ِ
في نغمة العود والناي الرخيم اذا                  تآلفا بين ألحان ٍ من الهزَج ِ
وفي مسارح غزلان الخمائل في                   برد الأصائل في الإصباح في البلَج ِ
وفي مساحب أذيال النسيم على                   بساط نور ٍ من الأزهار منتسج ِ
وفي مساحب أذيال النسيم اذا                     أهدى اليّ سحيراً أطيب الأرج ِ
وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفا ً                 ريق المدامة ِ في مستنزه ٍ فرج ِ
لم أدر ماغربة الأوطان وهو معي                وخاطري أين كنا غير منزعج ِ


لقد كانت الشمس وأحوالها شذرة تأملية آلت الى ايمانية نابعة من حنين معرفي دفع بالزهاوي الى أن يقول قصيدته ، ولا يخفى أن قلبه المفزوع قد مازج تأملاته ، وهذا مايخرج النص من الصفاء المكرس شعريا او ذهنيا بموضوعة وحدة الوجود مثلما هو الحال عند ابن الفارض وسواه ، ويرحله ( أي النص الزهاوي ) الى الايمان خشية او خشوعا لكن ، مرة اخرى يقع النص في اطار القصائد المعبرة عن الايمان بالخالق كحجر اساس في فلسفة القرآن الكريم . وبذا يقترب من روح الآية الكريمة : " من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ".
ولابد ان نشير الى ان كلمة الحياة وردت في القرآن الكريم لإحدى وسبعين مرة . وتستند فلسفته بالنظر الى الحياة ، الى مكانة معبر عنها بالآيات الكريمة التالية " وما الحياة الدنيا الاّ متاع الغرور " " ذلك متاع الدنيا والله عنده حسن المآب ". " ياقوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار " .
ان تفكر الزهاوي وغيره من الشعراء- الفلاسفة بالحياة ، يمنح الشعر طاقة حركية هائلة ينعش الذهن البشري باختلاف الرؤى، ولكن ذلك احيانا مشوب بالخوف والحيطة والحذر مادامت مستويات العقلية الحضارية متراوحة ، ففي دول ما او ترسانات فكرية متشددة يكون مجرد التنفس الفلسفي حرام ! ، والقول بالجديد جريمة ، وعدم الايمان بالفكر السائد كارثة . ان ايمانية الزهاوي هنا واضحة للغاية وهي مطلوبة ولاضير بأن ترافقها آراء وتصورات ومحاورات ، والأّ غدا المشهد احاديا ً لا يخرج عن منبر وعمامة وسيف رقراق !
كل ايمانية الزهاوي هذه ، وهناك من يستسهل رجمه ، ولا أدل على ذلك مما اشير له في مقالة سابقة اذ يعلق الاستاذ محمد فريد وجدي فيقول : " انا اعترف بأن الاستاذ الزهاوي كان شاعرا ، ولشعره طلاوة وانسجام في كثير من موطن ، ولكني أنكر بأنه كانت له فلسفة ! وكل مايؤخذ مما كتبه في كتبه أنه افتتن بمقررات العلم الطبيعي ، وشغف حباً بالفلسفة المادية ، فخلعته عن العقائد الدينية ولم يستطع ان يتغلب على عقائده الوراثية فيعلن انه اصبح ماديا ، فوقف حائرا لايدري بأي فريق يلتحق : أبفريق الذين يؤمنون في الغيب ، أم بفريق الذين يؤمنون بالواقع ، فاعتراه من الهم مايعتري كل واقف بين طرفين في الوحشة والذعر ، فهذا الذي أقوله يؤخذ من شعره صريحا بغير تأويل ، فقد قال :

رأيت الهدى في الشك والشك لايهدي                كأني في الظلماء قد كنت أستهدي
فطورا أقول الروح كالجسم هالك                      وطورا أقول الهلك عنه على بعد ِ
فيا لك من شك يبرح بي ولا                           يبارحني حتى اوسد في لحدي .


ان الذي فات على الاستاذ وجدي هنا ، ان طريق العالِم هو التفكر والوجع والحنين اللآعج الى الحقيقة والعلم والمعرفة ، وطريق الجاهل هو التوقف عند عتبة علمية واحدة لايريد ان يطلع على سواها كإلتصاقه بالناقة والدرع والسيف بينما اخذ التفكر البشرية الى عصر الألكترون . وهنا لنا الحق أيضا بأن نسير الى امام او القهقرى او نثني الرؤى او نمسطرها ! . لكن يبقى مع احترامنا الشديد لثوابتنا الأيمانية بأن هناك من يصلح قوله فلسفيا ً ألا وهو الشاعر محمد مهدي الجواهري :

على الموائد اكواب واخيلة                  من شاء يحترّ ُ او من شاء يبتر ِدُ .

ان للعالِم موائد متعددة بأكواب واخيلة مختلفة وللجاهل المتزمت اناء واحد ولون واحد وحزب واحد العالِم يترك لك الخيار بالتنقل بين الموائد . ذو النظام الديكتاتوري التوتاليتاري الاوتوقراطي العسكريتاري لا يرى فينا الاّ بشرَ الفوتوكوبي الذين لابد من ان نُطمس في نقيع صبغة واحدة وفي سطل جماعي ، وبذلك نتشح بلون أبدي لامتناه ٍ هو لون الخرّيط ! .