الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الخميس 1/6/ 2006

 


هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

Abdulbakifaraj@hotmail.com


قِفــا نَبــــــك ِ: رثـاء الآمــال وإدانــة بــارونـات الخـراب

فيصل لعيبي

كان الشعر قبل اللغة وسيظل كذلك، الشعر ليس اللغة وانما لغة داخلية لحدث ما، يجري وصفه بالكلمات والاصوات، فاللغة ليست الشعر بل وسيلة للشعر. والشاعر هو من يجعل اللغة تابعة له وليس العكس، لقد صرخ (ابو العتاهية) يوما في وجه خصومه قائلا: “انا اكبر من العروض” والشعر بعد هذا ليس الوزن والقافية والتفعيلة والنثر ولا حتى البحور، فكل هذه الامور، ماهي الا وسائل لاظهاره واشكال تعلن وجوده.
يعتبر (ارسطو) واضع اول بحث منظّم حول الشعر في اوربا، وما جرى بعد ذلك هو اعادة تاويل النص الارسطي، وكانت اوربا في القرون الوسطى تعتمد على الشاعر (هوراس) في هذا من خلال كتابه (الفن الشعري)، لكن عصر النهضة اجبر النقاد والشعراء معا على ضرورة قراءة (ارسطو) نفسه بدلا عن كتاب (هوراس)، خاصة في ايطاليا واصبحت الماساة والملحمة ومن ثم الكوميديا من عناصر الشعرية فيها، اما في المانيا فقد ظهرت الشعرية من خلال (لوسين وهوردر) وبروز المذهب الرومانسي مع (الاخوة نوفاليس) و (هولدرين) ومع (كولدرج) والرمزية، التي تمثلت في اعمال (ادجار الن بو) في بريطانيا وامريكا، ثم مع (مالارميه وبول فاليري) في فرنسا. الا ان كل هذه الجهود كانت تفتقر الى الاستقلالية التي ميزت ابحاث (ارسطو) وحيويتها النادرة. اذ كان شعر القرون الوسطى يعتمد على البلاغة والعلاقة بين العمل الادبي والكون حسب النظرية الايمائية (mimetique) وظلت فترة عصر النهضة تصارع هيمنة الكنيسة فاختلط نتاجها بما هو لاهوتي وانساني معا، وفي القرن السابع عشر والثامن عشر ركز النقد على العلاقة البراجماتية بين العمل الادبي والقارىء، واهتمت الرومانتيكية بعبقرية المبدع وفرادته وشخصيته الغريبة والغامضة، ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اصبحت الابواب مفتوحة للافكار والاتجاهات المختلفة، فظهرت (الشكلانية 1915-1930 formalism) في روسيا، متمثلة بجماعة موسكو ولينينغراد امثال: (رومان جاكوبسون، شلوفسكي، توماشيفسكي، بروب، ايخنباون، نينوكرادوف، نتيانوف، باختن، بريك، فولوشينوف) وفي المانيا برزت المدرسة (المورفولوجية 1925-1955 morphologie علم الهيئة) التي اهتمت بتراث (غوته) ورفضت التاريخانية، بتاثير من (كروتشه وهوسلر) حيث ركزت اهتمامها على انواع الخطاب الادبي واشكاله اكثر من اهتمامها على الاسلوب بينما افرزت حركة النقد الجديد في الادب الانكلو-ساكسوني، فسحة اوسع لاحتواء اكثر من نظرية او اتجاه نقدي، واظهرت قابلية للتأويل المتعدد والحيوي حول معنى الادب مع (أ. ريتشارد ودبل يو. امبسون) واشكالية السرد والسارد (الراوي) مع (ب. لوبوك، رينيه ويليك، واوستن وارن)، اذ تم توحيد الشكلانية مع النقد الجديد. وتاخرت فرنسا عن هذا النشاط حتى الستينات رغم جهود (مالارميه وبول فاليري) السابقة بظهور جماعة (tel quel) والبنيويين امثال (ليفي شتراوس وجاكبسون وبن فنست) وكتابات (موريس بلانشو) الفلسفية، والذين اثروا على اللسانيات والانتولوجيا (علم دراسة عادات وتقاليد الشعوب). اذ برز للوجود علم جديد سمي: علم النص (textologie) وبالذات مع (جوليا كريستيفا، رولان بارت، امبرتو ايكو وغريماس)، ويقول (ت. تودوروف ودوكرو) في قاموسهما الموسوعي الهام في الشعر وعلوم اللغة: ان المختص في مجال الشعرية، لايهتم بمقولات الخطاب الادبي بل بالنموذج الادبي للعصر”، لان الشعرية هي بناء ميتانصي (ما وراء النص)، يستمد شرعيتهُ من الاستراتيجيات المعرفية، كما يقول (جون ماري شيفر) في كتابة: (ماهو الجنس الادبي؟).
ابتداء علينا التخلص من اللغة الارسطية الثلاثية: (الملحمي-الغنائي-الدرامي) فيما يتعلق بتقسيم الاثر الادبي، “لانها نمذجة مزعجة” حسب كتاب (ماهو الجنس الادبي؟)، لكي نفكر في عمق الشعرية العربية نفسها لصياغة اسئلتنا الجديدة، لان انعدام وجود الدراما عندنا ليس مرجعه الترجمة السيئة لكتاب (ارسطو) عن الشعر، بل لعدم حاجتنا لها اصلا، حيث تعودنا على اشكال اخرى للتعبير عن شخصيتنا، مثل التعازي ومسرح الظل ومجالس السمر والحلقة وغيرها. النص عند العرب يختلف مصدره عن النص في الغرب، فهو عندهم من اللاتينية (textus) التي تشير الى النسيج والخياطة، بينما تشير عندنا الى العلو والارتفاع والظهور والبروز اضافة الى حصره فيما يتعلق بالكتاب والسنة عند المسلمين منهم، يقول (ابن منظور) في لسان العرب: “النص هو رفعك الشيء، نص الحديث نصا، اي رفعه”. قال (عمرو بن دينار): “ما رايت رجلا انص للحديث من (الزهري)”، اي ارفع له واسند ومنه المنصة التي هي المرتفع الذي يقف عليه الخطيب، ويرى الفقهاء ان نص الحديث او الاية يعني ما هو ظاهر اللفظ من احكام. وقد ارتبط النص في النقد العربي القديم بالشعر والنثر، فالشعر هو: “ديوان العرب وعلمهم وعمدة ادبهم وجامع اخبارهم وحافظ انسابهم ونظام فخارهم” الخ. ويقول (ابن رشيق) في كتابه (العمدة): “انما الشعر ماطرب وهز النفوس وحرك الطباع..” ويرى (حازم القرطاجني) في: (منهاج البلغاء وسراج الادباء)، “ان الشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يحبب الى النفوس ماقصد تحبيبه ويكره اليها ماقصد ذلك”. لكن (الجاحظ) يعتقد ان “الوزن والقافية وجودة السبك وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع، كل هذا وغيره صناعة، انما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير”. وهو يقترب من المدارس الحديثة في هذا الشان، خاصة اراء (تودوروف ودوكرو).
ان عيب جماعتنا في فهم المدارس الغربية الحديثة يكمن في استنساخهم وتقليدهم لها، دون تفكر او اعادة نظر، لان تاصيل المفاهيم والحركات الابداعية يتطلب ايجاد بيئة مناسبة لها وبدون ذلك سيكون الجهد المبذول هباء منثورا، ان الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب يملكان تراثا يمتد الى عصر النهضة، اي مايقارب تسعة قرون متتالية وغير منقطعة، وتتعرض الحداثة بما بعدها اليوم الى هزات في الوسط الذي نشات فيه بالذات، فهل ننقل ازماتهما الى عالمنا المازوم اصلا؟؟.
كانت الحداثة في اوربا قد تخلت عن قيم ماقبل الحداثة وكل ماهو روحي ومعنوي ومقدس في الحضارة الغربية، اما ما بعد الحداثة فتبدو انها اعادة نظر لما جرى اثناء فترة الحداثة نفسها، مع اهتمام خاص بالحضارات غير الاوربية، اي تفحص الجانب الروحي للحضارات ثانية، وكلاهما تتهم الاخرى باللاعقلانية. فالحداثة تنظر الى ما بعد الحداثة كحركة معادية لانجازات الفكر الاوربي وداعية لاحياء الغرائز والمشاعر البدائية، بينما تنتقد مابعد الحداثة ، كونها قد الغت المشاعر والانفعالات الانسانية من قاموسها واعتمدت على العقل والمنطق الرياضي الذي تشك في مقدرته في التعامل مع الاحداث والظواهر بحصافة وتدعم فكرتها هذه بالحروب التي قامت بين الاوربيين خلال القرن العشرين وما قبله، وترى في اخلاق بعض الشعوب البدائية ما هو ارقى وانبل فيما يتعلق بالايثار والتعاون والتضامن البشري، عكس المجتمعات الغربية المتفككة والمتفسخة من هذه الناحية. وحسب (مدرسة فرانكفورت) فان العقل الغربي قد شيّاً الانسان وحوله الى آلة او بضاعة عكس الحضارات الاخرى التي بعثت الروح في الاشياء.
في رواية (امبرتو ايكو)، اسم الوردة يسمم احد رجال الدين كتاب (ارسطو): الكوميديا، ليقتل كل من يطلع عليه من رجال الدير الذي يعيشون فيه، حتى لاتنتشر السخرية بينهم وبالتالي بين الناس، لان انتشارها يعني بالنسبة اليه التخلص من الخوف وعندما يتخلص الانسان من الخوف، فانه يبدأ بنقد القيم والاخلاق فيضعف ايمانه واحترامه للتقليد والدين والمقدسات والدولة والقانون. فينهار المجتمع. واستطيع القول بان معظم مبدعي البشرية وثوارها يحملون في مشاريعهم المميزة مسحة من السخرية والتهكم، لان تغيير ماهو قائم يحتاج الى تسفيه، حتى تتم القناعة بضرورة التغيير.
هذه المقدمة الطويلة نسبيا تفيدنا في معالجة اعمال شاعر بقامة (عبد الكريم كاصد) ومعاينة نتاجه الاخير (قفا نبك) وهي لاتغنينا قطعا عن مراجعة اعماله السابقة، حتى يكون الفهم افضل والفائدة اعم، انه يتذكر ويستلهم مواضيعه وهو خارج المكان والزمان، خارج بلاده وخارج زمان الاحداث والاشخاص، لكنه يربطها في خيط واضح، لانها تراثه الذي يتكىء عليه وهو كتاب مفتوح للذي يدرك غناه وثراءه العميق، وابتداء من (حكايات من الحمراء) نرى الشاعر يمزج المرارة والخسارة الحالية بتلك التي كانت ويضيف لها مسحة السخرية القاسية وكانه يقول كالمتنبي: “انه ضحك كالبكا”، منهيا تساؤله لابي عبد الله، اخر ملوك الطوائف في الاندلس، بالجملة التالية: “اين نمضي بهذه التركة يابا عبد الله؟”. هل يطرح الشاعر سؤاله علينا نحن الذين سلمنا كل شيء؟! اما في (الحكاية الاولى) فانه يعترف لنا بعد كل هذا العناء والتعب، كونه “افقر خلق الله” وتاتي (الحكاية الثانية) لتفضح نموذجا للدون كيخوتية متنكبا رمحه للطعان امام هذا الانهيار العام وعجزا يشبه عجزنا الحالي في مواجهة المحن “من المحيط الهادر الى الخليج الثائر!” و(الحكاية الثالثة) تصف (ابن خلدون) بدموعه التي لم يبق سواها بعد ان تخلى عنه الاقربون وتوالت عليه النكبات، مع مابذله هذا العبقري من خدمات واضافات للفكر الانساني المتنور. اعمال الشاعر عموما تمتلىء بالمفارقات والاسئلة والتهكم المرير من الواقع، متخذا مادة التاريخ وتشابه المواضيع مساند، وهو في حنينه المر والمه لضياع الامال في اندلسياته، يذكرنا باندلسية (شوقي) الرائعة التي مطلعها:
يانائح الطلح اشباه عوادينا
نشجى لواديك ام ناسى لوادينا
ماذا تقص علينا غير ان يداً
قصت جناحك جالت في حواشينا
لما ترقرق في دمع السماء دماً
هاج البكا فخضبنا الارض باكينا
نفس الالم والحسرة والمرارة نراها في (الحكاية الرابعة) حيث يقول:
“من برج الحمراء
تسمع غرناطة في الريح انيناً
وقع حوافر تنأى
وهدير لمياه يصبغها الدم
غرناظة تبكي”
ليس كالمبدع من يدرك الخسارة و(عبد الكريم كاصد) قد عاشها خطوة خطوة ولحظة لحظة، غربة وعوزا وضياع احلام وامال وقيم وانقلاب ومبادىء، جحودا ونكرانا وتجاهل رفاق الدرب والاصحاب والاهل والخلان، وهذا واضح في معظم اعماله الشعرية المنشورة، التي اخذ يغلب عليها التامل والتفكير والحكمة والسخرية المرة..
فرسان، عشاق، مفكرون، ثوار، شعراء، علماء، رجال دين، فقهاء ومؤرخون، هم مادة الديوان، هل كانت غرناطة امل الشاعر الذي ضاع ونجمه الذي افل؟ بعد تتبع مضن وطويل مسحورا بحلم لم يتحقق بعد، هل هي بغداد ام البصرة؟ ام العراق كله!، فالقصائد تحمل دلالات واسئلة محرقة ورموزا لها صلة بالواقع الحالي لمحنتنا، انها اشارت موحية بدلالاتها المتعددة: اخلاقية، سياسية، اجتماعية. ففي (جنون ابن الهيثم) يتساءل الشاعر عن الذي دفع ابن الهيثم للعودة الى مصر ثانية؟ وهو البصري المغترب مثله! وفي (حكاية من الاندلس) يستذكر زوجة (ابن ابي نسعة عثمان)، الذي تركت جثته نهبا للنسور، اذ تقاد من قبل جنود الخليفة الى دمشق، لانه رفض الاغارة على جاره المسيحي (الكونت اود) متسائلا: “كيف ترى يغزو جارا”.
تعالج (سيدي الطبري) و (محنة ابن حنبل)، الضمير وازمته ومتطلبات السياسة وصدق العارف والمؤمن المبتلى، اما في (سلاجقة) فنراه يتهكم على ما الت اليه الامور وهزال الاحوال وتطرطرها. والنهاية التراجيدية لفرسان الفتح الاسلامي في شمال افريقيا (موسى بن نصير وطارق بن زياد)، نجدها في (هتاف)، حيث لا امان للسلطة الجائرة حتى لو تسمت بالدين ولقب حاكمها بخليفة المسلمين او امير المؤمنين، فالغدر من صفاتها، اذ يسيل الدم من خلف الستارة وتتدحرج الرؤوس، في مؤامرات القصور وبين الغلمان والمخصيين والجواري والعبيد. وتكشف (واقعة شعرية)، التباس العلاقة بين الشاعر والسلطان، بين المبدع والسياسي، من خلال (المعتضد بالله) والشاعر (ابن زيدون) في تبادلها الانخاب، فيما راس ابن (المعتضد) البكر يتدلى من شجرة، كانه مشهد اشوري، يتكرر في زمن اخر ولايزال يطالعنا حتى هذه الساعة في بقاع عدة من بلادنا العربية وتكبر اسئلة الشاعر في (سؤال)، اذ يدفعنا في معظم قصائده تلك الى الحيرة والتمعن بصروف الزمان القديم-الحديث معاً، حيرة في اختيار الموقع والثبات على المبدأ، كما انه يشير الى اشكاليات السياسي والفقهي والثقافي والاخلاقي. وربما كانت (بشارة) العمل الوحيد في الديوان الذي ينم عن تفاؤل، لكنه مشوب بعدم الثقة او التصديق، وقصيدة (الحذاء والملك) ترينا السخرية المرة واختلاط الحال، بعد ان يصبح الحذاء تاج راس الملك بينما ياخذنا الشاعر الى عالم السحر والالغاز والتضادات والغموض في (شواهد المعري) و (في بلاد العجائب)، هل يحذرنا الشاعر من مغبة الامتثال الاعمى لما هو قائم؟ هل يدعونا للخروج على اسس العالم الذي يحيط بنا؟ هل يسخر منا؟ كل هذا مرهون بقدرة المتلقي وحساسيته ووعيه او موقفه:
“خلف كلمات التبجيل
ثمة شيء هش”
..........
“كل شيء ورق
النجوم والسماء
الحدائق والاطيار
الجنود والملكة
القصيدة والشاعر
كل شيء
كل شيء..”
تاتي قصائد الاحلام ككوابيس بديلا للاماني والامال، انها التجربة المرة التي تركزت بين يديه لا النجاحات. وفي (الواح)، يلتفت الشاعر الى ارثه الاقدم في حضارات وادي الرافدين التي تعد مصدر كل ماجرى بعد ذلك للمنطقة من امور، واظن ان ذلك انعطاف نحو الجذور سيلعب في اعمال الشاعر القادمة دورا عميق الاهمية، فاعمال مثل: (السفيه)، (صوت)، (اوتنابشتم)، او (الجوقة)، لايمكن ان تقرا بدون احالات او تاويل بعيد الدلالة والمغزى، بينما نجد في: (قراءة في كتاب الجواهري)، عودة لما الفناه منه في قصائده السابقة، لكنها لاتخلو ايضا من اشكاليات الفترة وتبتعد عن هدف الشاعر في المجموعة، يقول في (رؤيا):
“ياأبت
ابصر فوق عمود الشعر
ظلالاً تهتز
وحبلاً يتدلى”
ولانه يتوجه الى الجواهري الذي يعرفه، كانت قطعة: (كلاسيك) من القطع المثيرة في لوعتها، وقد خاطب “رب الشعر مهدي الجواهري” كما نعته مرة الشاعر (معروف الرصافي)، فجاءت موزونة ومقفاة، كما يحب (الجواهري):
“أنبيك اني بدار ليس ساكنها
الا الحثالة من مكذوبة النسب
يبكون منفى وفي المنفى لهم وطن
يفدونه برخيص الروح والنشب
انبيك ان بغاث الطير قد نطقت
وان جل خيول القوم من قصب
.........
لله كيف استحال المرتجى اجلاً
وكيف اضحت فتات غاية الارب”.
مذكرا (الجواهري) ومذكرنا بدجلة الخير، اذ يقول فيها (الجواهري):
يادجلة الخير قد هانت مطامحنا حتى لادنى طماح غير مضمون
في عمله الشعري الاخير: (قفا نبك)، ناتي على نهاية الديوان، فهذه القصيدة تحيلنا الى محاولات سابقة لشعراء عرب واجانب، واذا كان (شوقي) قد حاكى (البوصيري) في نهج البردة والف مسرحية شعرية للعشاق والمحبين، و(يوسف الصايغ) كتب (اعترافات مالك بن الريب)، مستلهما قصيدته الشهيرة، فان (عبد الكريم كاصد) ذهب الى المعلقات، التي تقترب من القداسة لدى البعض، اذ تكمن صعوبة التناول وحساسية الاختيار.
قد تبدو هذه القطعة الشعرية لدى بعض القراء عملا شهوانياً بالمعنى الرخيص، وهذا مايبدو للوهلة الاولى، وعلينا ان نؤكد ان المرسل (امرأ القيس) كان يروي لنا، نحن المرسل الينا (المستمعين والقراء) من خلال الرسالة (النص)، ازمنة مختلفة واماكن متنوعة في فترات متباعدة، فيها الماضي والحاضر، وليس عملا قد تم القيام به في وقت واحد، فهو يتكلم عن حياة طويلة، انه يقوم باعترافات، ومن هنا يبدو اختيارالشاعر (عبد الكريم كاصد) مهما لهذا النص بالذات، وهو ما اود التطرق اليه في هذه المقالة المتواضعة والتي لاتفي النص حقه قطعا. ساحاول التحدث عن الشعرية ودلالات النص وسردياته، ففي القصيدة متضادات وتوافقات عديدة، اضافة الى تنوع الذوات والامكنة والحركات والاشياء ولكل هذه العناصر مستواها الخاص وعلاقتها بالمستويات الاخرى، كما اننا نلاحظ السلبي والايجابي ايضا، دون ان ننسى اختلاف الشاعر الاول عن الشاعر الثاني الذي اعاد صياغة النص بلغته الخاصة. تبدأ القصيدة عند الشاعر (عبد الكريم) كما يلي:
“قفا نبك من منزل لحبيب
عفته الرياح”
فلم يقل “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل” كما في القصيدة الاصلية، وهي بداية موفقة لانها تشير الى الاصل وتكسر استمرارية هيمنته لصالح النص الجديد، تنعدم الذكرى هنا من المقطع لتحل الرياح بدلا عنها، لتؤكد على الذاكرة، ومنذ البداية تظهر المفردات الحزينة والسلبية: قفا=عدم التحرك/نبك=الالام/ عفته الرياح=الهجران والتخلي/ وتتوالى الاحزان في المقطع الاول: ففي الصفحة الاولى نجد اربع جمل توحي بالحزن والانكسار:
قفا نبك في الاولى/ دمعي شفائي في الثانية/ فاض دمعي في الثالثة/ سال على النحر في الرابعة. كما ان الشاعر في اعتباره الدمع شفاء والديار الخالية انيسا له، يؤكد وضعه الراهن (الحاضر)، في المقطع التالي نجد الحالة قد تبدلت واصبحت تناقض الحالة الاولى، فالشاعر يحكي لنا عن متعته الخاصة بحرية تامة(العودة الى الماضي) وبوصف من يحب وكيفية ممارسة الحب معه وباوضاع مختلفة: فوق الراحلة/ دخل خدر/ على ظهر الرمل، ثم المخاطرة والمجازفة بالحياة، ومن الوصال والتودد والمناشدة بتقليل التدلل، ينتقل الشاعر الى مناخ اخر للوصف والتغني بجمال معشوقته: “ياللصبا وهي تحمل ضوعك انى التفت/ اضوعك ام هو ريا القرنفل/ تمايلت بيضاء ضامرة الخصر/ هفهافة/ مصقولة انت/ كالدر ابيض اصفر/ جيدك، جيد المهاة هو الحلي دون حلي”. وهكذا تتدرج الصور وتتعدد مستويات السرد وتنمو القصيدة في احضان اللغة فتتشكل شخصية المفردات داخل بناء العمل. ولاينسى الشاعر النص الاصلي بين مقاطع نصه الجديد وهي محاولة اقرب الى التغريب عند بريشت التي توقظ في المتلقي احساسه باختلاف النصين، قبل ان يستغرق في النص الجديد وبالمقابل فان هذا التشكيل يعطي النص ماتعطيه العناصر المختلفة التي تستعمل في الفنون الاخرى(رسم/ نحت/ موسيقى/ مسرح/ ادب/ سينما.. الخ). واذا تطرقنا للحوار داخل النص، فاننا نلاحظ مستويات مختلفة ايضا، فهناك حوار الابيض والاسود على الورق (الحروف وبياض الورقة)/ حوار الكلمات (الدمع-سال)/ حوار الصوت (كلام-صمت)/ حوار العين (الكتابة-البصر)/ حوار الاحاسيس (جرأة-خوف)/ حوار العاشق والمعشوق (قالت لك الويل/ قلت وقد مال هودجها وادنى الرحال: سيرى وارخي الزمام/ افاطم مهلا اقلي التدلل/ همست وهي مبهورة: مالنا حيلة عنك) الخ/ حوار الزمان (الليل-الصبح-العشي-الضحى-الماضي-الحاضر)/ حوار المكان (الديار-الغدير-الخدر-الرمل-العشب)/ حوار الحركة (حركة الحصان-حركة اجساد المحبين اثناء عمليات الحب-حركة النسيم-حركة الشاعر مع الحصان والمعشوقة مع الناقة).
يقول (باختن): “الشاعر مقيد بفكرة لغة واحدة ونادرة ولفظ مغلق على حواره الداخلي.. على الشاعر ان يملك طريقة سير وسط تعدد لساني قائم.. عليه ان يملك لغته ويتحمل مسؤوليته كاملة عن جميع مظاهرها وعليه ان يخلّص اللغة من نوايا الاخرين” فالشاعر مطلوب منه ان يوظف اللغة حسب نبرة صوته وطريقة الالقاء وتركيب اللغة وتعدد الاصوات ومرونة السرد، هذا يذكرنا (بالجاحظ)، رغم احادية الصوت في الغالب، وهو مانراه في هذا العمل الجميل.
مع الاسف لا نجد في انتاج الشعر العربي الحديث مايوازي السرديات الهامة في اشعار الشعوب الاخرى واذا استثنينا شعراء معدودين، فاننا نلاحظ هذا الفقر الواضح. شخصيا لا اعتبر نفسي قادرا حقا على ذكر الاسماء اللامعة في هذا المجال، نظرا لحساسية غالبية الشعراء وربما يكون اختياري اقرب الى ذائقي الخاصة وتواضع معلوماتي وفقر اطلاعي على نتاج الشعري الحديث، وهذا يقلل ويضعف حجتي فلا يعتد بها، لكني استطيع القول ان هؤلاء الشعراء القلائل في شعرنا العراقي خصوصا، قد اغنوا المقاصد الجمالية التي تتناسب مع تطور ونمو النص الشعري عندنا ابتداء من السياب. ان ما تم انجازه يعتبر نقلة نوعية من النموذج الغنائي الممل والضيق الى فضاءات جديدة تتحقق فيها ابعد مايريد الشاعر ايصاله واعمق مايستطيع المتلقي التوصل اليه، اما القصيدة، فهي تشكل حواريتها الخاصة داخل نسيج النص وحسب حاجتها اليها، فكل نص، مهما انغمر بذاتيته، فهو يحمل حواريته الخاصة التي ترتبط بالنصوص التي قبله والنصوص المعاصرة له،فهناك دائما(تهجين)لغوي مستمرو(تعالق) قائم بين النصوص كما يقول(باختن) في اطروحته الهامة: (جماليات الرواية ونظريتها) والتي تحدث فيها عن الشعر ايضاوعلينا ان لاننسى بأن للنص مظاهرهي:
المظهر اللفظي(verbal ):يتشكل عن طريق الوحدات اللسانية/الجمل/النحو/الصوت/المظهر التركيبي(syntaxique ):ويشمل العلاقات بين الوحدات النصية والجمل.
-المظهرالدلالي(semantique):وهو حصيلة مركبة من مضمون الوحدات اللسانية دلاليا.
الواقع ان النص يحمل دلالات متنوعة اذ ان لكل شخص تأويله الخاص وربما تأويلاته المتنوعة للنص الواحد حسب الحالة التي هو فيها، وربما يجد نفسه مضطرا الى تبني دلالات متناقصة احيانا لنفس النص.(قفا نبك)،تشكل مع سائر القصائد اطار الديوان رغم مغايرتها لروح القصائد الاخرى،فهي ترنيمة للذات،فيها من الخيال والصور ما يختلف مع رائعة(أمرئ القيس) وفيها ما يلتقي معها، حوار داخلي ووصف لعلاقات وذكرى غرام مضى وتنهدات العمل الجميل واستذكارات لما كان وكان. في هذا العمل يستعيد الشاعر صباباته وأحلام الشباب، عالمه الذي لم يعد الاصورا بعيدة، مبهمة، فلم يجد الشاعر اجمل من معلقة (الملك الشاعر ذو القروح)، ليعالج بها ما يعتريه من تباريح، بها تنتهي المجموعة،وترتبط ايضا مع اول القصائد وبأبي عبد الله بالذات،حيث الوجد والمجد الضائع والعواطف المشوشة والتوتر والاحاسيس المتناقضة،اخر الكأس التي افضت الى الانتهاء، رحيق الازهار الذي اشرف على الزوال، الايام الرخية،مواعيد الحب البعيدة والباقية كعلامات على صدر العاشق المنكسر والخسران،اختلاس الفرص الهاربة،الترقب،الحذر،الخوف،الاثارة، ولذة المغامرة، الخجل والبراءة والخوف من الفضائح وخرق التقاليد والمحرمات. ان مجموعة الشاعر الاخيرة، الغاصة بالمرارة والحسرة، هي وثيقة هامة من وثائق الفترة التي نعيشها، وشهادة صادقة عن ايامنا الحالكة وامالنا الضائعة،التي دمرها دهاقنة السياسة عندنا والانقلابيون وقيادت الاحزاب الفاشلة والحركات المنفلتة من عقالها والتي تريد ان تقود الوطن بالادعية والحروز والشعوذة والخرافات والارهاب.
وفي الختام. هذا عرض سريع للمجموعة،لاتفي الحاجة ولا تلامس العمق، استطعت ان احصي فيها اكثر من(271 ) مفردة توحي بالحزن والخسارة والالم والفقدان او الموت والدم والتدهور،في (65) قصيدة اغلبها قصيرة، وهو ما يحتاج الى المعالجة تعتمد على التفكيك والبناء وعلم نفس اللغة مع الاعتماد على مجموعات الشاعر الاخرى،متمنيا ان يتصدى لها من هو مختص بالنقد الادبي حقا فيوليها العناية التي تستحقها.