الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 15/5/ 2006

 

 

 

(محمد طالب محمد)

الهروب من الموت الى الموت *

 

ملف يساهم فيه /خالد السلطان/ جاسم العايف/ جميل الشبيبي/ يعرب السعيدي/ محمد صالح عبد الرضا/ عبد العزيز عسير/ ومختارات من قصائده

*********


حوار مع جاسم العايف


حاوره : خالد السلطان

جاسم العايف: لم يكن اهتمام أدونيس بمحمد طالب محمد جزافاً

* اللافت للنظر ان العديد من المعنيين بالممارسة الابداعية (الشعرية) شعراء ونقاداً ومتلقين، لايجهلون المنجز الشعري للمرحوم محمد طالب محمد حسب، إنما يجهلون اسمه وهويته العراقية. ولما كنت، استاذ جاسم، أحد أصدقائه الخلص،دعني أسألك بدءاً، مَن هو محمد طالب محمد..؟

ـ- هذا السؤال مثير للألم... محمد طالب محمد، ولد في البصرة وعاش فيها وبعد اكمال دراسته الاعدادية انتقل الى بغداد، وأنهى الدراسة في كلية الاداب، وكان مكتفيا بعدد قليل من الاصدقاء، ومبتعداً عن المهرجانات وكل مايمتّ بصلة لثقافة النظام او السلطة. كان منشغلا بمشروعه الشعري وبالاستمتاع ببعض اللذائذ اليومية، التي توفرها العلاقات الحميمية لأصدقاء لاعلاقة لأغلبهم بالادب. كان يستمتع كثيرا بالحياة اليومية في مقهى (هاتف) في البصرة القديمة, والتي تحولت الى مقهى الشناشيل، واصبحت مخزنا للمواد الانشائية آلآن , وفي بعض النوادي لممارسة بهجة الحياة. ولديه علاقات وثيقة بأصدقاء همهم الشعر والادب والفن، زامله بعضهم في مرحلة الدراسة والبعض الاخر تعرّف عليه بعد تعيينه في سلك التعليم. أصدقاؤه في البصرة صفوة من جيل الستينيات، منهم الاستاذ الناقد جميل الشبيبي والشاعر عبدالكريم كاصد والشاعر شاكر العاشور، وصديقنا يعرب السعيدي وله علاقة وطيدة، بحكم الاهتمام والجيرة، بالكاتب إحسان وفيق السامرائي، والشاعر محمد صالح عبدالرضا، والصديق يوسف السالم، وتعرّف عليه أيضا الشاعر حسين عبداللطيف. نشر محمد طالب محمد بعض القصائد العمودية في مجلة الاقلام، أبان صدورها، عندما كان طالبا في كلية الاداب ، ونشر ايضا في مجلة (الكلمة). وانهى الدراسة بتفوق بسبب من تربيته الادبية واللغوية، حيث ان والده رحمه الله من المتابعين، بدأب وحماس للأدب العربي والشعر بالذات، ولديه مكتبة تحتوي على مصادر مهمة للشعر العربي الجاهلي والأموي والعباسي والاندلسي. وشعراء النهضة العراقيين، كالرصافي والزهاوي، والعرب ايضا, مع اهتمام خاص بالجواهري. كان المرحوم الحاج طالب اصاب (محمد) بعدوى قراءة الشعر منذ الصبا والاهتمام بالجرس اللغوي والبديع والزخرفة والصرف والنحو والبلاغة، كان الحاج طالب فخورا بولده محمد وبمستقبله الشعري. ومن طرائفه أنه قال لي يوماً وكان يأتي ليجلس في ذات المقهى التي نجلس فيها (لقد خيّب محمد ظني حينما توجه الى كتابة الشعر الحديث)، فقلت له مازحا: حسنا فعل ذلك لأنه لم يخيب ظننا.

* الأسباب التي أدت به الى الهجرة..؟
-ـ بموجب قانون التعريب في الجزائر آنذاك، تمت الاستعانة بمدرسي اللغة العربية وخصوصا من العراق فكانت فرصة للسفر وقد ذهب محمد طالب محمد للتدريس وهناك تزوج من سيدة جزائرية وحينما عاد وفوجيء بالواقع الذي كان في بداية السبعينات وهو بداية الانحدار القيمي والاجتماعي وشيوع أمراض الانتهازية والنفعية وارتقاء مَن لايستحق في الادارات ، ورأى أيضاً محاولات جادة سياسية-حزبية نفعية لتجاهل احداث تاريخية مفجعة في الحياة الاجتماعية- العراقية والعمل على تبييض صفحات سوداء مريبة جداً وتاهيل قوى دموية وشخصيات لقتلة من محترفي الجريمة العامة والخاصة من أجل ان تكتسب صفة (الديمقراطية والثورية) فشعرنا بالاشمئزاز الا انه كان اكثرنا قرفا وتزامن ذلك مع مرض غريب اصاب السيدة زوجته أتعبها كثيرا. فقد أصيبت بـ(حساسية) محرقة لجسدها وجيوبها الانفية لم تستطع هذه المرأة القادمة من شواطئ البحر الأبيض ، تحمل جو العراق حتى الاجتماعي وقد كان عليها انتظار العائد من الوظيفة او من متع الليل البريئة ... تقول لي:- هناك مايشبه الجهل بشخصية محمد طالب، لقد ارسل ادونيس رسالة بخطه الى محمد طالب، رسالة مملوءة بالاعجاب والحماس لكن محمد كان حييا ولم يرغب ان يطلع الاخرون على ماكتبه ادونيس له، وبعد إلحاح مني قرأتها، أذكر نهايتها: (يا محمد سلاماً ايها الشاعر).

* هل يمكن أن نعدّ محمد طالب شاعراً شيوعياً، أم مثقفاً ماركسياً تجاوز بشعريته حدود الأيديولوجيا..؟
ـ- دعني اقول لك بصراحة اذا كانت الشيوعية تعني الجلوس في غرفة مغلقة مع الجماعة الحزبية وكتابة التقارير الحزبية الشهرية ودفع بدل الاشتراك المقرر فمن المؤكد ان محمد طالب ونحن جميعا لا نمت للشيوعية بشئ ولا نعرف "الحزب الشيوعي العراقي" ولايعرفنا ، اما اذا كان العكس أي الانفتاح على الناس والبحث عن العدالة الاجتماعية والسعي بقوة وفعالية من اجل تحققها وترسيخ قيم الحرية الانسانية المدعمة بحقوق الانسان والحياة في مجتمع متمدن وحرية المرأة وحقها في الاختيار والمساواة الكاملة لها مع الرجل بعيدا عن طواطم التابوات, وتحويل البشر الى كائنات فعالة لتغيير شروط الحياة..الخ فنحن منها وهي منا ...كان محمد نشطا جدا في اتحاد الطلبة العام ومتحمسا ومندفعا ، ونجا من الاعتقال في الاعصار الدموي البعثي في 8 شباط عام 1963، وظل محمد في جامعة بغداد يواصل دراسته الا انه حينما عاد الى البصرة في الشهر السادس القي القبض عليه واعتقل في (مقر الحرس القومي) الذي كان في نادي الاتحاد الرياضي مقابل ساحة(ام البروم) الذي حوله الاوغاد البعثيين مقرا لهم تفوح منه روائح الموت وينبعث من ساحاته وقاعاته الرياضية انين وصراخ الضحايا من النساء بالذات . اعتقل"محمد" هناك وحصل له ما حصل لنا وخرج مدبوغ الجلد وموشوم القلب ومجروح الروح ، في الشعر لم يكتب محمد طالب محمد للمناسبات، لقد احتفى بالانسان وعذاباته اليومية والتاريخية. لقد كان مزدهيا بالانسان وملذاته الانسانية البسيطة التي لايستطيع الحصول عليها بيسر، لأن سلطات الانظمة الاستبدادية الشرقية الوحشية لاتدع مجالا وفسحة لممارسة الحياة الانسانية المدنية المتحضرة. محمد طالب محمد عراقي قدري في الحياة، ذهب الى الجزائر واستقر هناك بعد ان ارسل زوجته الى الجزائر على الا تعود ثم لحق بها وقال لي-: لن أعود . دعني اوضح شيئا اساسيا لقد كانت الظروف تسير بنا تجاه اليسار العراقي والحزب الشيوعي بالذات ونحن في مستهل مغادرتنا مرحلة الصبا ولسنا نادمين قطعا على ذلك لقد بُحت حناجرنا من كثرة الصراخ في المسيرات وتهرأت اقدامنا ونحن حفاة من الركض خلف اللا فتات التي ادمنت تلميع صور العسكر بعد ثورة 14 تموز 1958 ومع كل ما واجهناه من عذابات فأننا لن نتراجع عن ذلك الاتجاه الذي عُرفنا به ولكننا نحاول ان نوسع من افقنا بعد ان انتهى الزمن الذي كنا نعتقد فيه ان التاريخ يسير على وفق قناعاتنا فللتاريخ مساراته المتعرجة ودمويته وللواقع مخاتلاته وعلينا ان نخفف من غلوائنا.

*بداهة ثمة فارق أكيد بين الشعراء، وهم قلة، وبين من يكتبون الشعر، وهم كثر. هل تؤشر وبعجالة الخاصية الإبداعية لمحمد طالب محمد شاعراً..؟
-ـ هذا سؤال اتفق مع جزئه الاكبر، من يكتبون شعرا كثار والشعراء قليلون جدا واتذكر ان البريكان كما يذكر الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد يرفض ان يُكتب اي توصيف مع كلمة شاعر، لأن اي توصيف لايسمو الى صفة (شاعر) اعتقد ان محمد كان يتعامل مع الشعر على انه الحرية حينما يكون الخوف والارهاب والفقر واللاعدالة الاجتماعية هي القاعدة، ان ميزة محمد طالب محمد الشعرية هي احتفاؤه الكبير باللغة العربية واستخدامه للغة وكثافتها انه وبسبب من تربيته الكلاسيكية، اهتم بالمفردة اللغوية وتستطيع ان ترى في ديوانه وقفاته وصوره، صوره الباهرة في مخاطبته للبحر والعشب والانسان وللماء وللاسرار، واستخدامه الاحلام في القصيدة ثم هذه النثرية والسردية المصفاة. هذه علامات مهمة شخّصها أدونيس في بداية السبعينيات واحتفى بها، لم يكن اهتمام أدونيس بشعر محمد طالب محمد جزافاً، احتفى به دونما معرفة سابقة، إحتفى بنصّه اولاً ونشر له في مجلة (مواقف)، وطالبه بمعلوماتٍ تعريفية، وهذه لم تكن سهلة في السبعينيات على الاقل، لقد احتفى به عبر قصائده التي ارسلها له في البريد وبواسطتي.. احتفى بنصوصه اولا.

* هل تعرّف قرّاء (الأخبار) بقصيدة محمد طالب الاخيرة، أقصد موقفه الإنساني والتراجيدي الذي أدّى إلى استشهاده...؟
-ـ احتفى هو بالموتى، احتفى بصديقه مصطفى عبدالله، ونشر قصيدة رثاء له، وعاد مرة اخرى وأهدى لروح مصطفى عبدالله قصيدة نشرها في مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وتصل لنا.. وكان موته عراقي التفاصيل. لقد اختزل صديقه الشاعر(فوزي كريم) هذا الموت بمقالة له سمعتها مرات متعددة لأنها كانت تذاع في اذاعات المعارضة العراقية السرية، كان عنوانها (محمد طالب محمد... الهروب من الموت الى الموت)، ذهب محمد طالب محمد الى الجزائر واستوطن هناك، وأسس عائلة وأولاداً وفي الهجمة الهمجية التي قادها الفكر السلفي الارهابي المتوحش القادم من الكهوف الاولى لما قبل الحياة الانسانية، تم إصدار فتاوى، وماأكثر الفتاوى التي صدرت او التي ستصدر. فتاوى تمنع التعليم والتدريس، وخاصة الدراسة المختلطة، الفتاوى السلفية التي صدر مايشا بهها في العراق, بعد تحريره من نظام القتلة البعثيين و في بداية العام الدراسي عام 2004 ، ما الذي يفعله العراقي (محمد طالب محمد) التنويري عاشق الحياة المدنية والرقي الانساني، هل ينحني للارهاب..؟، لم ينحنِ، لقد تفعل وفعّلَ موقف الطلاب وحثهم على الدوام متحديا فتاوي الظلام كما يفعل العراقيون الان، وأفشل بحرصه وممارسته هذه الفتاوى. في اليوم الاول خاف الناس، لكنه كان اول الذاهبين الى المدرسة ، وكسر هذه الفتاوى، وكان محمد طالب محمد واقفا في ذلك اليوم في باب المدرسة كما نُقل الينا، وحاور الارهابي السلفي التكفيري، العراقي محمد طالب محمد في الجزائر بالطريقة التي يحاور فيها الارهاب العراقيون اليوم، فاخترقت رصاصة جمجمة محمد وسال دمه في باب المدرسة، كما يسيل دم العراقيين آلآن، لقد تقطع قلب محمد طالب محمد على البصرة في الحرب الاولى، فكتب قصائد عنها وأسجّل حقيقة الوفاء والاعتزاز من قبل الشاعر حسين عبد اللطيف لمحمد طالب محمد، فقد كان وفيا جداً، و أقام له جلسة استذكارية تأبينية صباحية في عام 1996 في اتحاد ادباء البصرة في مقره "الموحوسم آلآن" وكانت علنية ونوّه ان محمد قد غادر العراق لأسباب خاصة، وأقيمت الجلسة وساهم فيها مجموعة من الادباء والشعراء اصدقاء محمد ,وكانت في حينها جرأة كبيرة, ومنهم الاستاذ عبد العزيز عسير بقصيدة عن محمد طالب وملذاته اليومية، وخاصة في لعب البليارد، وساهم جميل الشبيبي، وقرأ حسين عبد اللطيف مقاطع من قصيدة محمد طالب محمد( سفر الخروج) عن البصرة في حرب الخليج الثانية ايام القصف الامريكي، التي تحدث فيها عن بعض امكنة البصرة القديمة ومنها، سوق (القطانة) و سوق (العقيل) و (جسر الغربان) ومقهى (هاتف) ثم انتقل الى (الداكير) وتساءل عن مقهى (حبش) ان موت محمد على يد الارهاب وفي الجزائر لهي الشهادة الحقيقية في ان العراقي وإن لن ينجو من الارهاب والارهابيين الا انه قادر على تحديه وتحديهم كما يفعل الان.

* ألا تعتقد بأن طبع منجز الشاعر المرحوم محمد طالب محمد هو بمثابة بعثه من جديد..؟ وبهذا الصدد ما الذي تقترحه، وبخاصة على وزارة الثقافة واتحاد الأدباء في البصرة وبغداد..؟

-ـ انت قلت بأن محمد طالب محمد، مجهول وهذا حق، فعلاً مجهول، فقد طبع ديوانه، الاول (التسول في ارتفاع النهار) على نفقته الخاصة عام 1974 بعد عودته من الجزائر، ولم يساهم في المهرجانات الثقافية لأسباب معروفة. استعيد هنا ما قاله اخي وصديقي الشاعر (عبدالكريم كاصد) في مقدمته الرائعة لديوان (الاجنبي الجميل) للراحل ( مصطفى عبد الله) واستطيع ان استبدل اسم (مصطفى عبدالله) بإسماء الراحلين ومنهم (جبار العطية، ومحمد طالب محمد، وجليل المياح، وفالح الطائي، وذياب كزار-ابو سرحان- وعزيزالسماوي ومصطفى عبود- ابو النور- وخليل المعا ضيدي وقاسم محمد حمزة وحميد ناصر الجيلاوي .. وآخرين).. قال اخي الشاعر (عبدالكريم كاصد) في مقدمته لديوان الفقيد مصطفى عبد الله-: ((لسنا نحييّ الموتى ولا شاعرنا بالميت وما نحتاجه هو التفكير لا من اجل فائدته هو فقد ذهب وبقي شعره، لكن من اجل فائدتنا نحن الذين شغلتنا الاحداث والاحتفاء بأنفسنا عن تأمل انفسنا وتذكر ما غاب منا ومما يزيد المهمة صعوبة ان شعرا يحتفي بالناس قد ينصرف عنه الناس، في زحمة مشاغلهم والاكتفاء بما توفر لهم من ثقافة النجوم في سماء ما هي الا بقعة ضئيلة من سماء اوسع وقد يقترب من هذا مصير شعراء كبار من تاريخنا الشعري، ندر من يتذكرهم بدراسة جادة في السنوات الاخيرة بعد ان صار النسيان هو القاعدة والذاكرة هي الاستثناء)).. هذا ما كتبه صديق العمر الشاعر (عبدالكريم كاصد)...الذين غابوا ياصديقي من صفوة الانتلجنسيا العراقية في المقابر الجماعية وفي المنافي كثيرون والمصائب والمصاعب التي تواجهنا حاليا أكثر. المؤسسة الثقافية العراقية ان كانت ملكا للدولة العراقية، لا نطالبها بإقامة مهرجان وتماثيل.. لا نريد في العراق قبورا جديدة.. فلدينا من القبور ما لايوجد في أي ارض اخرى.. ما نطلبه هو جمع ماخلفوه من كتابات متنوعة و طباعتها طباعة لائقة لغرض التعرف على نتاجاتهم والحفاظ على ارثهم الابداعي – الثقافي ليكون في متناول الاجيال القادمة ولتحتفظ الذاكرة العراقية لهم بمكان متميز بدلا من النسيان الذي سيطبق عليهم وعلى ماتركوه .. هذا مطلبنا وهو مطلب ليس صعبا على بلد يعتبر من اغنى بلدان العالم بثرواته التي بُددت سابقا .. وتُهدر الان بشكل ربما اكثر سؤا مما سبق .

 

في ذكرى محمد طالب محمد...
الشاعر...


جميل الشبيبي
jammelalshibibi@yahoo.com

لم يكن محمد طالب محمد إلا شاعراً.. امتلك الشعر كلَّ منافذَ روحه المرهفة، وتغلب على كل نزعة حية في كيانه النابض بالحيوية والشعر الصافي.. وكان إبناً بارّاً للابتكار في كل شيء: في سلوكه مع أصدقائه، في طرائفه الجديدة التي تنتمي إليه دون غيره.. وفي كتابته للشعر. كان نموذجاً خاصاً، محتفياً بالحياة على الرغم من مراراتها ومصاعبها الجمّة.. خصوصاً في تلك الفترة المهلكة - فترة منتصف الستينات-: حيث تعطلت الحياة بعد النكبة السياسية الكبرى التي خلفتها أيام 8 شباط الدامي وراءها...كنا مجاميع مختلفة في الرؤى والأفكار والانتماءات السياسية، منتشرين في بقاع مختلفة على خارطة الوطن الجريح.. نعيش كابوساً اسمه (الضياع) اذ لم تعد الايديولوجيات مقنعة ولم تعد الانتماءات الحزبية مجدية بعد الهجمة الشرسة في ايام شباط 1963.. التي دمّرت كل شيء وخلفت بقايا ذوات تندب وتتعذب.. ذوات تلتجئُ الى أعماقها المرهفة الممزقة لتنشئ صروحاً من خيال في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي. وكان محمد طالب محمد ناراً مشبوبة بالحيوية والنشاط: يلعب البليارد في مقهى (هاتف) بالبصرة مع مجموعة من الشباب لاعلاقة لها بالأدب والشعر، يوزع طرائفه المبتكرة على رواد المقهى.. يحاور (الزاير) و (سعيد) عاملي المقهى- وحين يجلس معنا، نتحدث عن كل شيء، لكنه يصمت عند الحديث عن الشعر.. لأن الشعر كان محرابه الخاص الذي لايتنازل لأحدٍ عنه...ولد محمد طالب محمد بداية الاربعينات من القرن العشرين.. لأب شغوفٍ باللغة والدين ومجالسة الأدباء ومناقشتهم.. وكان والده صديقاً لنا جميعاً- يحضر جلساتنا ويستمع لأفكارنا ونتاجاتنا.. يشجع ويصحح.. وكان محمد ابنه الوحيد الذي يود ان لايفارقه أبداً.. وكان على قناعة تامة بشاعرية ابنه على وفق المواصفات التي تنطبق على الشاعر.في مثل هذا الجو نشأ الشاعرـ متعلقاً بدرس النحو وبديوان الشعر العربي، يغترف من جمالياته فتشرق روحه بذلك الصفاء وبتلك الحياة المتطلعة نحو آفاق رحبة لاحدّ لها...هاجر الشاعر الى الجزائر بداية السبعينات، بعد ان أصابه اليأس من انتظار تغيير مجدٍ وأصيل في الحياة العراقية... واشتغل هناك مدرسا، وتزوج من إمرأة جزائرية. وقد جرّب العودة الى وطنه معها، فرحا وهو يعرّفها بأصدقائه وعوائلهم، مزمعا البقاء في وطنه.. غير أن فراسته وتجربته المريرة مع قوى الشر، واستقرائه للاوضاع القادمة في وطنه وهي تدشن عهداً جديداً للارهاب، أجبرته على العودة منكسراً الى الجزائر.. وقد تحقق حدسه وفراسته بصعود الطاغية صدام حسين الى السلطة نهاية السبعينات وماحدث للعراق بعد ذلك من ويلات وحروب ودمار..كان الشاعر مشغولاً بتأثيث خطابه الشعري بالجديد المبتكر المؤهل لأن يعيش في فضاء العدالة والأمان، لكن الأيادي البغيضة التي هرب من كوابيسها في العراق..كانت تترصد خطواته في الغربة أيضاً.. ففي منتصف التسعينيات اغتالته الايادي السلفية الغادرة، التي تقتل اليوم آلاف الأبرياء في عراقنا.. وكان الشاعر في مركز العلم: مدرسته..!!
* * *
نشر الشاعر محمد طالب محمد ديوانه الوحيد في العراق (التسولُ في ارتفاع النهار) عام 1974 ، بعد عودته القصيرة الى العراق.. ويضم هذا الديوان اثنتي عشرة قصيدة، تمتاز بأبنية مكثفة ومركزة، لكنها مع هذا القدر من التكثيف في الجملة الشعرية فإنها تميل الى الطول في شكلها، حيث يبلغ معدل صفحات القصيدة الواحدة بين 6-15 صفحة من قطع الديوان..وقصائد الشاعر هذه، تنحو منحىً مفارقاً في أبنيتها ومجازاتها المختلفة للنماذج الشعرية التي أفرزتها تجربة السبعينيات الشعرية في العراق... حيث كان الميل نحو كتابة القصيدة (اليومية) التي تستقي موضوعاتها من دافع الحياة وتؤسس مجازاتها على هذا الواقع.. وتتضح هذه المفارقة، بذلك النزوع الأصيل لدى الشاعر نحو عالم الذات المتعالق مع إشكالات الوجود الكبرى التي تجد لها مناخاً ملائماً في ازدواجية اشكال العلاقات البائدة والمتحجرة التي تكتم الانفاس وذلك النزوع نحو عوالم طليقة ومشخصة برموز وشواخص دالة عليها تمجد الحركة والنماء.. انها رحلة امتحان عسيرة في حياة رتيبة تحرسها الوساوس والليالي الموغلة بالسواد والكلاب الناهشة (الأكلب كما يسميها الشاعر) والوحول الكثيفة التي تكبل الذات وتذيقها مرارات من الحزن والموت البطيء...
وعادَ الليلُ والأكلبُ تغتال
طريقي، تفتحُ الغربة في قلبي ؛
فتذروني صلاةً، من لَدنْ تشملني
الرحمة حتى مطلع الفجرِ... وإني
مُثخنٌ بالوحلِ... مسفوحٌ أمامَ
القتلِ.. يستحلفني الناسُ بأنّي
فاسقٌ........
(قصيدة المعضلة)
إن الشاعر وهو يغادر وطنه، بعد ان أوشك على الوقوع في مستنقع الشر والقسوة والإذلال، فيلتجئَ الى الجزائر، كي يجدد حياته ويعتق روحه، لكنه لايجد سوى أجواءٍ مماثلةٍ تحيل حياته الى عذابٍ مستديم ووحدة قاسية:
وكنتُ أقضّي
الليالي منكفئاً في سريري
نورساً ميّتاً
فوق مستنقع الملح، واهنةً كتفاي
لاأطيقُ حراكاً..
نداءات شعرية عميقة تنحتُ في فراغ الغربة وكوابيسها، أفقاً أخضر للقادم الجديد.. أنشده قصائده الطوال وحاوره حواراً حميمياً متصل الفقرات وكانه روحه الهائمة التي يبحث لها عن ملاذ آمنٍ يحميها من هذه القسوة وتحجر الكائنات من حوله، لقد انشأ الشاعر عالماً رحباً من المجاز، تميز باللغة الخاصة التي تتحول المفردة فيها من معناها الاستعمالي الى معنى جديد، يرتبط بشكل وثيق بسياقات الجملة الشعرية التي ينشؤها... ومن خلال لغته الخاصة هذه، أضفى على موجوداته أفقاً من الجمال والشفافية والانفتاح على الدلالات والتأويلات...وأصبحت القصيدة لديه صورة مشخصة وحيّة يتناوب في فضائها المشهدي والسردي، بعلاقة وثيقة، ويتناوب على إنطاقها ساردون يظهرون ويختفون بصيغ الضمائر المعروفة: الغائب، المخاطب، والمتكلم... وفي بعض الأحيان تتناوب في إنشاء المشهد الشعري أو السردي أصواتٌ يتداخل فيها الذاتي والجمعي.
إن إدامة الصوغ المشهدي والسردي في كثير من قصائد الديوان، يأتي هنا ليحقق ذلك التواشج بين التجربة الذاتية وبين فضاء الموضوع الرحيب.. فالسارد العليم يضفي على التجربة عموميتها، في حين يعمق السارد الذاتي تلك التجربة ويحيلها الى استغاثات انسانية شغوفة بالحياة والجمال والابتكار.. ويتضح ذلك في قصيدته (مقتطفات من ميناء منسي) وكذلك في قصائد اخرى كثيرة...تبدأ هذه القصيدة من كناية مألوفة عن شخصية البدوي، ولكنها تتعمق بالمجازات والصور الشعرية الجديدة المبثوثة في ثنايا القصيدة... كما يتضح ظهور الضمائر واختفاؤها في هذه القصيدة التي تصور الانسان- العربي بشكل خاص- وهو يخوض غمار هذه الحياةالمعقدة:
جاء رضيع النياق التائهة
في الفلوات الرملية، واستوطن الزقاق
المتعرجَ... صبغَ الأبواب
بالألوان الباهتة... اجتذبَ الصرخة،
في الليل وغناها...
وفي مقطع آخر يلجأ الى الخطاب المباشر-:
أنتَ البدويُّ
الهاربُ من صحرائك
لو لُعنِتْ كلُّ بقاع الدنيا
تبقى صحراؤك طاهرة
بعد ذلك تتشكل التجربة بذلك المخاض الاليم المشخص بضمير الأنا وهو ينشدُ من أعماق الذات تكريساً لهذه التجربة-:
لن أقفَ الليلةَ خلفَ النافذةِ
منتظراً نور الفجر
الآتي بين صياح الديكة
سيفاجئني البرد
شتاءً مخنوقاً
بالوحدةِ والصحبة والأمطار
وسأبحثُ عنك طويلاً..
إن التناوب في استخدام الضمائر في بناء القصيدة، يشكل أساساً مهماًَ في بنية القصيدة لدى الشاعر محمد طالب محمد.. فالضمائر تتداخل في صياغات مبتكرة وصور غير مألوفة، ويتضح ذلك في استعمالات الشاعر للمجاز في قصائده، حيث ترتدي الاستعارة والتشبيه والكناية وأنواع المجازات الأخرى اشكالاً جديدة... ويبدو ذلك جلياً بدءاً من عنوان الديوان (التسول في ارتفاع النهار) فيصبح الشعر تسولاً لابمعناه الحرفي، ولكن بمعناه المجازي الذي يحيل التسول الى تساؤل عن معنى الوجود والحياة في الظروف القاهرة والمستبدة.. ويعمد الشاعر الى ان يكون هذا (التسوّل/التساؤل) في ارتفاع النهار وأمام الانظار التي لاترى في الحياة سوى استهلاك ومتع زائلة.. في حين يجدُّ الشاعر في أسئلته التي تتضمن أجوبة في أفق مفارق-:
أعشقُ بردَ السَّحر
الآتي، في الأفق الشرقي
أسبح في رعشته
وأهادن ظمئي
ارتعشُ
عشباً في رابية
مأخوذاً بالعصيان.
(من قصيدة السياحة)
وإذا احتكمنا الى مجازاته الشعرية الجديدة وصوره المبتكرة التي تضمها قصائد الديوان فإننا سنغرق في عالم شعري متدفق يفيض بالسحر والجمال من خلال ذلك التواشج بين المفردات المتباعدة في المعنى المتآلفة في الصورة الشعرية.. فالصفة عنده لاتتوافق مع الموصوف او انها تحاول ان تتمرد عليه لتضفي سياقاً جديداً يحمل الطرافة والابتكار.. من أمثلة ذلك: (الأمكنة الجاهضة)،(تنبحني الأكلبُ في ليلٍ وضيع).إنّ تآلف هذه المفردات في سياقات شعرية، تشكل لدى الشاعر إثراءً وتمرداً في آن واحد، تفتح للمتلقي كوىً وآفاقاً واسعة تبيح له تأويلاً دون حدود...
أنا أرديةٌ مسكينةٌ
تنهرني العقبان محومةً حولي
في هذا القهر، فلن أقرأ
...إني في القهر
أقعي كالبركة تحت الغيم
منتظراً أن تصل الرحمة...
(قصيدة المعضلة)
وانا أكبحُ النومَ ملتحماً بالنجوم
في الهزيع الضبابيَ
يوهنني البردُ
وتماطلني غابة الحزن
(من قصيدة الفتوح)
وفي قصيدته الطويلة (التسول في ارتفاع النهار) تتوالى الصور بمفرداتها الغريبة غير المتألفة لتنسج مجازات غير مألوفة تعمل على تخطي السائد من الصور الشعرية، لتبقى متفردة وعصيّة على غيره من الشعراء.. وهي تكشف شاعرية مسكونة بالمجاز الجميل والشعر الصافي المتألق-:
( فالنوافذ أجنحةٌ
والحوائطُ والشجرُ المتطاول رفرفة
وزعيق... يجيء
)
أو-:
( هذا جناحي “أريد”
نوارس هيمى
سواحلَ هائجة ومصباتْ
تهوي المياه عليها... تمزقها
وأريد مضارب للموج صخريةً
وزوارق مربوطةً
سمكاً
وسجائر... داراً ونافذةً
)
لقد كان الشاعر محمد طالب محمد، جملة شعرية لاتنتهي، تنهمرُ فيها المجازات وتتداعى عبرها الصور لتؤلف سمفونية ضاجّة بالألم والمعاناة والرغبات المستحيلة.



مايزال العسل في الجرار


يعرب السعيدي

هل حاول الشاعر الغريب القتيل محمد طالب محمد تخليق حكاية موته أم أن إحساساً سرياً مروعاً كان ينتابه بنهايته وانعكس في شعره..؟، وهل كان واقعاً تحت سطوة رؤية داخلية لمعنى الزمن في أفعال الأمر التي تهوي كالمطارق لرسم شكل الموت الآتي:
(طاردوه.... أقتلوه غريباً
أودعوا قبره غابة
وموانئ نائية
)
وهل كانت هذه الافعال الصارمة (طارد، اقتل، اودع) تعبر عن زمن التوتر الذي كان الشاعر يحيا فيه يائساً ضائعاً او مضيعاً، وهل يمكن الاستفادة من المعاني الدراماتيكية لتلك الأفعال لاستجلاء الحالة النفسية لغريب نأى عن وطنه في الموانئ البعيدة، لكن اسلوبية اللغة في شعره تعنى بتنظيم السرد كاستجابة عقلية واعية (مطاردةــ قتل ــ قبر) في معان يتناسل بعضها عن بعض لرسم المشهد الشعري كنتاج واع لموت الشاعر في غربة نائية.سنحاول متابعة هذه الافعال الثلاثة في مجموعته الشعرية الأولى (التسول في ارتفاع النهار):
(الليل طريد
مثلي
بين الآناء المجهولة
)
وتلك مقارنة بين متشابهين (هو والليل) كلاهما طريد في المجهول في مشهد عياني مغلق بلا حركة فعل او فعل حركة، بل صورة بصرية ينتجها تحالف المفردات الجامدة مع بعضها من أجل إشاعة عنصر الثبات في المشهد الشعري الذي يبدو كلثام ثقيل يختفي تحته كل (المسكوت عنه) في معنى (الليل الطريد) القائم على ثيمة لامرئية ولكنها شاخصة في الليل وفي الشاعر معاً، كما ان الالتجاء للتشبيه يجيء هنا للمبالغة في انتظار المصير الذي لاتكتشفه محسوسات الوجود الانساني كونه ضائعاً في سديم الآناء المجهولة.وكأن الموت قد تأخر عنه او نسيه وهو الذي يبحث في الموت عن توازن روحه الشفيفة، فيصرخ به:
(افتح بابك للغريب،
يا ذا النفس الخربة..
افتح بابك لي.
)
...........
(يا ذا النفس الخربة
إن لم ترني عيناك
الناسيتان فإنك اعمى
آه...
يا ذا النفس الخربة.
)
لقد كانت (ذات) الشاعر تتمحور حول الموت وكان الموت يتمحور فيها، أي انهما كانا متجاورين تماماً، والشاعر لاينفك يطرق باب الموت كروح مطلقة، ليبحث فيه عن لغز الرؤية الداخلية لمعنى الوجود من خلال الموت، ولعل الفعل الشديد (افتح) ينم عن استغاثة او رغبة في الرحيل، فالشاعر يعدّ عدته ويتهيّأ:
( أنشر كفني
وأطرّزه بالطيور.
)
إذن، ثمة وعي حياتي مقابل الموت، فالشاعر لايتخلى عن حقه في الحياة وهو في إطار مغامرة الموت، ففي (نشر الكفن) دلالة استقبال المغامرة، وفي (التطريز بالطيور) دلالة وعي بجمال الحياة، كما ان المفردتين المتقابلتين (الموت/الطيور) تشكلان امتزاجاً بين الحياة والموت،وبين رغبة الشاعر في ارتياد المجهول المخيف بمعادل موضوعي جميل بشكل الطيور المطرزة على الكفن، حتى لكأن الكفن جناح طائر.
ترى/ ما حال هذا الغريب البعيد عن وطنه، هل يحب النهار في منافي الغربة وهل تراه يأنس الأشياء كما يأنسها غيره، وهل أن حقائبه هي نفسها حقائب المسافر..؟:
(هل رأيت الحقائب، كالحة كالنهار
إنها غربة وشتاء.
)
ثم ماهي معاني حواراته مع نفسه، وكيف هي حوارات حديثه الداخلي، هل تأخذ معنى الضياع الأليم او الحلم الطاهر؟:
( أنت البدويّ الهارب من صحرائك
لو لعنت كل بقاع الأرض
تبقى صحراؤك طاهرة.
)
هو نفسه حديث الغربة وثبات الذاكرة الأولى وصراع النفس في البحث عن الطمأنينة في أحضان الأم واستيقاظ العقل في التواصل مع الجذرالأول في حومة الصراع بين المنفى والوطن:
(وكنت أقضي الليالي
منكفئاً في سريري
نورساً ميتاً.
)
إن الغربة تخلق عناصرها الفاعلة (هو والمكان والزمان) في إطارٍ من المعاناة النفسية التي تحيط بالتجربة وتتغلغل فيها فتفضح خباياها على نحو لايكاد يحسّه سوى الشاعر الغريب في بلاد نائية.
(لكن الليل يجيء
وتغافلني الأشباح
المدروسة كقبور
)
ولاتبدو الأشباح الا في وحدة الشاعر بغربته، والوحدة اشتهاءات تخلخل خرائط الحياة، وأصوات تضجّ في الوعي للتعبير عن رؤى الضياع البشري، ولكي تكتمل صورة الغربة لابد أن تاخذ التجربة كامل أبعادها الانسانية لكي تتمظهر فيها شخصية الانسان الواقعي لا الانسان النبي،وهكذا يرسم الشاعر مشهده الشعري ويعبر عن عطشه الصحراوي مرمزاً بالمرأة:
(حين تمرّ النسوة،
مبتلات تحت جرار مخضرّة،
ترشح أنداء.
أعطش وحدي،
ألهث،
ألقي فوق الرمل لساني
جرحاً يدفن في الملح
مفغوراً، ينتظر الفرج.
)
هذه صورة ينتجها الوعي وتنظمها سلسلة علاقات ذات حرارات خاصة بين الشاعر ومحيطه الغريب، وهي صورة تقوم على بنية تشكيلية تأخذ شكل اللوحة الفنية من خلال تآلف دلالاتها ومفردات أسلوبها، وتبقى الغربة كدلالة مختبئة في المشهد هي الثيمة القصدية في بنية تكوين المشهد، والزمن هو الذي يشكل علامات الاستدلال عليها، فأين المكان في تكوينات غربته..؟
(تائه في المقاهي
الشوارع موغلة
في التضرع، والبؤس منهمر
والفوانيس صفراء ذابلة.
)
وهكذا تبقى أنظمة الدلالات قائمة في الصور البصرية الماثلة بوضوح.لقد كان الشاعر يتحدى الغربة بالحنين الى صحرائه الأولى أو بالفناء في الموت. وهذا ماحصل.


 

محمد طالب محمد ينقر أبواب الذكرى


محمد صالح عبدالرضا

إذا ما حاولنا تفسير تجربة محمد طالب محمد الشعرية من لمس مضمونها الذي يتخلله شكل يقدمه بصوره ورموزه وموسيقاه الداخلية والخارجية وإيماءاته الاستعارية وهو يمارس وظيفة اجتماعية إبداعية في شكل يتداعى من خلال المضمون والمعنى.لقد اعتمل الواقع الاجتماعي المستلب في تجربته الشعرية والعوامل الخاصة بالشعر كمجموعة من الخصائص النفسية والذاتية لذات متعددة المعالم في اختيار الكلمة والرمز والصورة فكانت مكوناته الشخصية صدى القدرة على التأثير والاقناع الجمالي، وأكد محمد طالب في شعره حقيقة استجابة الشعر الجديد للمفاهيم الانسانية الفوارة ليس بالمباشرة والتقريرية، وإنما باستخدام وسائل فنية تحتوي المضمون وتمثله وتعبر عنه في إطار الوجدان الاجتماعي.إنه من جيل الستينات الذي عَدَّه النقاد أكثر الموجات الشعرية إثارة وعمقاً في الشعر العراقي الحديث والذي جاء لحاجة فكرية وإبداعية لتجسيد رؤية جديدة للشعر والحياة وللعصر والتراث وسط ركام من الخيبات السياسية ومواجهة الاهتزازات الكبرى في العراق والعالم.والستينيون بحثوا عن أفق أغنى للقصيدة، وكان هاجسهم التجريبي متنوعاً في الرؤى التي تمتزج فيها المواقف بالنصوص، وكانت تأثيرات قراءة الفكر اليساري والوجودي تلقي بظلالها على الشعر الستيني حيث ضغط الحياة، وعذابات النفوس وبراعات البناء الشعري وتعددية أصواته.تعرفت على محمد طالب محمد وصديقي الشاعر شاكر العاشور أوائل عام 1966 شاباً طويل القامة كثيف الشاربين ذا ملامح هادئة دمثاً ودوداً جاداً في إخلاصه للشعر، متقناً لأسرار اللغة الشعرية تراثا ومعاصرة، وكنا نلتقيه لماماً فندرك رهافة حسّه وهو يتخذ قلمه ريشه ينقر بها على وتر الشعر الذي صار عنده ارتسامات الروح، ولقد بعدت بيننا السبل لكنه ظل دانياً منا بقصائده المترعة بالرؤى الخصبة.
 


إصابة بليارد *


عبد العزيز عسير

إلى روح محمد طالب محمد

المقهى مدينتك الوحيدة
تصلح للهروب
والصمت.. ستارتك الممزقة
تسمح خرومها بمرور أغنية لفيروز
وطاولة البليارد... انحناءتك الأخيرة
قادرة على أغاضة الرسيل
تتأبط يدك العصا الطويلة الناعمة
وتمتد لي يسارُك
والمصافحة باليسار دفء قادر على ايلاد حاسة اللمس
في يد تنازلت سنوات عن حق الترحيب
- لا بد من إكمال اللعبة!
كرة حمراء
وفرقعة بالألوان الأخر
ربما سبعة مثلثات .. أو عشرة
تتقاطع في سجن الطاولة
نسيت اللون المصاب
واذكر انه كان المصيب الوحيد
فالإصابة الرائعة تمر بلا تصفيق
- كم ربحت اليوم؟
- خسرت نصف دينار!
الشعراء المشاهدون
لا يفكر واحد منهم بمرثية أخرى
لضفيرة ترش عليها العطور
فضربة سددت بالتسلل الكروي
قادرة على تبرئة العصا
من دم قبر مرت عليه الفصول
*** *** ***
يا جبال أوراس
سأحترم سيف جدنا .. وأسباباً تعددت للموت
وأبرئ سيارة طائشة في (كازا بلانكا)
ورصاصة طائشة في غابات (وهران)
وعصا بليارد طويلة لا تمس الضحية الفارة
إلى الشمال الإفريقي
هل يوحد الفرار من المقهى
هوية مزقت نصفين؟!
سيدي المفوض
اعطني النصف الثاني
لأكمل مرثيتي

• قرئت في حفل تأبيني للشاعرالمرحوم محمد طالب محمد أقامه اتحاد الأدباء في البصرة سنة 1996.

 

مختارات من قصائد محمد طالب محمد

(1)
لمّا تهبُّ رياحُ الشتاء الأسيفهْ
نضيعُ.. نضيع..
ولا غير ذكرى تراءى عليها المساءْ
حكاية وجدٍ
وبسمة عُمْرٍ، سرى في حنين المواقد والجبهةُ المتْعَبَهْ
وثمَّةَ دارٌ تطوفُ بأفنائها وحشةٌ مُترِبَهْ
ولا غير ذكرى أسيفهْ..
وقبضةِ ريحٍ ، تلوَّى عليها الشتاء.
(2)
هنالك كُنَّا نعي؛ أنْ يجوعَ الصغارْ
وتنقرَ أبوابَنا الجنُّ.. (ياللوجوم الرهيبْ!)
ويحمله النسر، عبرَ البحار.. وعبر الجبالْ..
إلى الوادي..
تحتشدُ الجنُّ في الظُلماتْ،..
وتنقر أبوابَنا.. وينامُ الصغارْ
وفوق المعابرِ تهربُ ريحُ الشتاء،..
تخلّفُ في الظلمةِ الخوفَ.. (تنقرُ أبوابنا).
* * *
تركتُ الشبابيكَ مفتوحةً،
تبيتُ بها الريحُ تُعْوِلُ، تحملُ صوتَ السعالي
ستقتلني..
وتراخيتُ فوق سريري
وكان عويلاً حزيناً.. وبَرْدا
وفي السحر المستفيق،
رأيتُ رفاقي يسيرون نحو الحقول، (وقد كنت حيا)
(3)
لأختي قبرٌ تمرُّ عليه الفصولُ، ويرقدُ في ظلِّ نخلهْ
تآكلَ تحتَ الهبوبِ، وأَطْفَلَ فوق ثراهُ النهارْ..
نهاراً، وأَطفلَ ليلٌ، وفصلٌ.. وعامْ..
وكنتْ أؤمُّ المقابر تحت ردائي أسى
وفي مقلتيَّ ضياعٌ صغيرْ.
وكانت لأختي ضفيرهْ..
.. ترشُّ عليها العطورَ، وكانت صغيرة..
* * *
ومن بيتنا امتدّ دربٌ عتيقْ
ترشُّ عليه النخيلُ ندى وظلالا
يؤوب ابي منه، يحمل عبءَ النهار،
وظلاً تطاول خلفَهْ،
وشوقاً كبيرا.
وفي البيت تطربُ أصواتُنا، وتعانقُ كفَّهْ
وحين اروح إلى غرفتي، أرقبُ الدربَ يشحبُ تحت الظلام؛
كئيباً أراهُ، كئيبا.
(4)
تكونُ رياحاً بلادي..
إذا اهتزَّ أيلولْ تحت الخريف الحزينْ
وظلّت مزاهرنا يستحمُّ عليها الغبارْ
تكون رياحاً، وننأى
نرود المقاهيَ في سُدَفِ الصمت، شيئاً وضيعاً
وليست لنا مدنٌ للهروبْ.
سيرة
كان يسير على هيأة غابة
محتفلاً بالشمس وبالميلاد وبالعقم
لم توهنه أسفار .. كان على هيأة غابة
يستوقد في الاشتاء كثيراً من اعوامه
ويطل على النهر يصيد السمك صغاراً في سلة
أبصرني في ليلة صيف أتنزه في بابي
وتقاطعنا يوماً في درب الحياة ومضى
----------
ذو وجه أصحر يقبع في حلم داكن،
عن أرض تولد في الشفق الغربي
بظاهر بيته
وتغص بأعشاب وحشية
ذو وجه لا يمكن أن يبصر يوماً ..
إلا في سوق مظلمة يبتاع الخبز
او خلف وجوه الناس يصلي في المسجد
ويرود غمار الحزن، بعيداً في أرجاء رؤاه
عيناه عبور في يوم موحش
لموانئ تعتو منها ريح نكباء
تتفجر من جوف الظلمات
أبصرني وتحدثنا عن موت الاعشاب
أعطاني فلساً مثقوباً وكتاباً
عن حُرَف الناس، وعن غرب ينمو
حول ينابيع الماء بأرض لا أعرفها
---------
حين رأى أمتعتي تخترق الشارع
أطلق عينيه الجامحتين فأمسكني
قال أذهب في هذا الدرب
واسر لي الاسرار الكبرى
لكني لم أر وادي المغربي المغبرّ
ولم أره بعد
ولا...
صوتَ... لادارَ...لا أسفا
غائباً في الظلام الفسيح.
ميناء منسي
أنت البدوي،
الهارب من صحرائك ..
لو لعنت كل بقاع الدنيا،
تبقى صحراؤك طاهرة ..
وقديماً،
طردوك ..
فلم تبك الصحراء ..
لانك بدوي ..
ولأن الكلأ المتروك بلا رعي،
أصبح بدوياً آخر،
يأتي ويروح، ..
وانت سجين،
في طرق بائسة،
نائية عن صحرائك!


عن الاسفار والحزن
1- تاريخ
منزرعاً في الأوجه، أخشى الطرقات
جئنا من بلد مملوء ناساً،
لأبي وجه حجري وله صوت جائع
يتحدث عن أشياء لم يرها، كالنسل وبابل
أو يلهج بالاوراد، ويطلب ماءً
شارك في صد الهجمات عن الانحاء القصوى في
البلد
وتمنى أن يلحق من فرّ لبيته
* * *
يعمل مثل عباد الله
حطاباً يقتنص الاغصان، ولا يفتأ يمتدح
الاثل
وعلى عينيه كلال سنين، أمضاها في بلد
مملوء ناساً
وكما تنمو الاعشاب .. رأوني ألعب في الباب
وعصفنا في الارض أكلنا التفاح المجدور
ورأينا بعض ينابيع الكبريت
جلبنا أزهاراً شوكية
تشبه رأس غزال .. بعناها في التجوال
- للغرباء عيون ضائعة - بتنا في الغابات
تمردنا في المنعطفات .. وجئنا
- معنا رجل ذو منسأة ضيعناه بسوق
كاد يجف على طرق الصحراء
وبنينا بيتاً ومراحاً سيجناه بأغصان الأثل
هي ذي أمي تملأ ثوباً فضفاضاً وتدب مع الديكه
وتريني بعض الحصباء
لم أحزن إلا أني كنت وحيداً
قصياً في بعض الاعوام، فلا وجهاً حجرياً تلفيه
أو يملأ ثوباً

2- حزن في الطريق
ألغيت حضوري في الزحمة - في الساحات اليقظى
حيث العابر لا يعرفه الناس
والاضواء تفيض على الطرق الغبراء
وانا في غمرة أشواقي أقضي،
في ضعة الصوت اللاغب يجتاز الليل
ويناجي ارجاء الحلم الميت
وانا لم تعرفني حين تلاقينا سحراً
والقرية غنت لبهائك .. طاف النور
في داري طاف على المعبر والاشجار
ونأيت ولم تعرفني .. يا للمجد
يوجد في قارعة الدرب بناء فاره
وشجيرات تنمو وتموت مع الصيف بقربه
يستوقفني ما أن أذهب ليلاً للمقهى
شباكان وباب أخضر
وأناس يمضون بعيداً في اعماق المدن
قيل: وليّ أعيته (عصا التسيار) فألقاها، وهموم الناس
واستشهد عن وجد وحنين لله
تصلي ريح البحر
عليه كل مساء
وحصى الارض
لكني .. داهمت رحيل الناس، وضعت، في أوجههم
في أنحاء الارض
لست أنا أول من يبست عيناه من الاسفار


*
تمت الدعوة للمشاركة بهذا الملف بمبادرة من الصديق الاستاذ (خالد السلطان) رئيس تحرير جريدة (الاخبار) المحلية الاسبوعية التي تصدر في(البصرة) ونشر في العدد 83 في 7/4/2005