الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 14/1/ 2010

 

"نوافذ صغيرة" لمحمد البساطي
محابيس وجيران، وكوى صغيرة في جدران متجهمة

هشام بن الشاوي

مثلما تحرم الأسوار المتجهمة الإنسان من حريته، وممارسة حياته بشكل عادي.. فثمة رغبات مقموعة خارج السجن أيضا. في مجموعته القصصية الأخيرة "نوافذ صغيرة" يرسم الكاتب المبدع محمد البساطي بالكلمات عالما قاتما، محتشدا بتفاصيل شديدة العذوبة...

- في قصة "إن كنت تحبني": الفتاة -الخالة نور- مقيدة بعنوستها، ونظرة المجمتع التي لا ترحم أمثالها، متمثلة في الأم العجوز، سليطة اللسان، التي تلاحق ابنتها بشتائم شديدة البذائة، بعد أن أصرّت على الخروج، متذرعة بما تحتاجه للخياطة، بصحبة السارد.. فتسخر منها الأم بأنه مجرد طفل، حين انحنى متعقبا القطة تحت المائدة.
الشهي في هذا النص أنه يقدم المرأة العانس بعيون طفل، تعود على التستر على بنات الجيران!

- في "تأهب": يقيد الرضيع بحبل خروف، في حين تيس الجيران طليق في الحوش، يقفز ويمأمىء في مرح، وكل متعة الرضيع التجول في الحوش، والجلوس على العتبة مصفقاً.

- في "حكاية قديمة": تمنع الزوجة تلك المرأة من عيادة زوجها المريض، لأنها تعرف حكايتها القديمة معه.

- "نوافذ صغيرة": نص شديد العذوبة، كتب بلغة مكثفة، بخلاف نصوص أخرى... لغة إيحائية، لا تخلو من دهاء كاتب خبر كتابة القصة والرواية.
السجناء يقبعون خلف قضبان عربات سجن، "صناديقها الكبيرة من الحديد، ونوافذها صغيرة مرتفعة عليها قضبان، وشرطي يجلس على مقعد بجوار بابها الخلفي والترباس الضخم المغلق في متناول يده. في قعدته كان ساكنا وفوهة البندقية بين ساقيه تلمع في وهج الشمس". والمواطنون يتم تكديسهم/حبسهم عند مرور الموكب الرسمي، والصغار-تلاميذ الحضانة- لأنهم لا يفقهون شيئا، فهم "يغنون ويهللون، وبعضهم وقف على المقاعد ينظر من النوافذ، وعندما يرتفع صوت سارينة موتوسيكل قادم يتوقفون عن الغناء ويهتفون: يعيش. يعيش. يعيش".

(لا أدري لماذا تذكرني هذه القصة بفيلم "البريء"؟.. ربما لأن الفيلم جسد هذا العالم القاسي بمنتهى الخبث الفني). لنتأمل ما جاء على لسان أحد مساجين القصة، بعد أن سأل السارد عن مقر عمله بوزارة المواصلات، فردّ قائلا: "أعرفها. مبنى كان لونه أصفر. والسور. آه كان له سور نص حجارته وقعت".

*****
تشترك بعض القصص في فضح السلطة وبطشها بالناس، ففي "أرزاق"، تستغل الشرطة سذاجة بائع الفول، ويسخره الضابط لاغتصاب المعتقلين، مقابل عشرين جنيها لكل عملية، "العشرين جنيه مقابل تصليحات (سباكة)... هكذا سيكتب في الدفتر"، حتى صار يغتصب ثلاثة محابيس.. "وأقبض عن كل مرة ستون جنيهاً أحتفظ بها للزمن تحت هدومي في الصندوق، واستمر الحال أربعة أسابيع حتى جاء يوم النحس وكأنها عين أصابتني".
نص يذكرنا بمدرسة العبث واللاجدوى، يفضح العقلية القروسطوية للسلطة، يجعلنا نتذكر- مرة أخرى- فيلم "البرئ" وبطله أحمد سبع الليل الفلاح الغر، وهو يتباهى بمحاربة أعداء الوطن !!). الأمر لن ينتهي عند الاغتصاب، بل كان الضابط يختار الزاوية التي سيصور منها بهاتفه الخلوي، لإجبار الضحايا على النطق بما يريده الضابط من حقائق.

في "إفراج": بعد الإفراج عن المعتقل، لأسباب صحية.. يتناول أغراض معتقل آخر، فتبدو له "ياقة القميص وسخة ومهلهلة وبطانتها خرجت من القماش، السترة واسعة قليلاً والبنطلون أيضاً، ثنيت رجليه واستخدمت الحزام في تثبيته حول وسطي، وحشوت مقدمة الحذاء بالورق الذي يلف الربطة، وتركت ما تبقى منها على المنضدة. دس الحارس الساعة والمحفظة في جيبه".
والحارس يمازحه، "وكأنه لم يضربني كل هذا الضرب، أنا أيضاً أهرول خلفه ولا يخطر لي ما فعله معي. يعطيني نصف سيجارة كان يدخنها:
- خذ. بعد خروجنا ندخن على راحتنا. معي علبة كاملة".
ومن بين أغراض ذلك المعتقل سيجد ورقة، "كانت على ما يبدو منزوعة من كراس مدرسي. سطران مائلان يتوسطان:
“يا جابر. بطني كبرت وبانت. أخاف البقاء في البيت وأخاف الخروج. أخي الأكبر الشك في عينيه. لو تأتي. لن يرفضوك”.
(يا الله ! كم أنت بارع أيها البساطي في اختلاس اللحظات الإنسانية الشجية!!).

- "قطرة ماء": في المعتقل يحتفون -وبمختلف رتبهم- بالمعتقل الوحيد، مثلما تتوق الأرض العطشى إلى قطرة ماء، إلى أن يفرج عنه، بعد اكتشاف أنه اعتقل خطأ، وكان المقصود واحداً غيره أجروا معه التحقيق، وأرسلوه إلى معتقل آخر.

*****

إضافة إلى البطش وانتهاك آدمية المواطنين في تضاعيف النصوص، نصادف المسعى الخائب للمنسيين، المهمشين، الذين لا يبالي أحد بأفراحهم وأتراحهم، لأنهم هوامش بشرية، أشبه بسقط المتاع المرمي فوق السطوح... لكن محمد البساطي يغوص في تفاصيل عوالمهم الثرة، رغم بساطتها وعلائقه المتشابكة، بعيدا عن نبرة الميلودراما، أو التذمر والشكوى...

- في قصة "الغرفة المجاورة" : يهرب الأب من جحيمه اليومي، وتضطر الأم أن تعمل خادمة في البيوت، والابن - دائما - يرفض الأكل، ولا يجد المتنفس سوى في الرسم، للتعبير عن افتقاده الوجداني للأب.

- في "سعاد : رغم أن الأم تعمدت أن ترفع صوتها لتسمع الجيران أن ابنها رزق بنتا، لا أحد يبالي بتلك البشرى، لأنهم يعرفون أنها بالتبني، ولم تسمع صوتا، واستدارت عائدة..

- في "هي وزوجها": يساعد الجار جارته في تغسيل زوجها المقعد، التي لا يفكر فيها كامرأة .. "أحيانا تميل بجسدها وتتعرى ساقاها، أرمقهما وأقول لنفسي إنهما جميلتان وينتهي الأمر. تخرج لمشاويرها دون اهتمام بشكلها، ويحدث أن أنبهها إلى ما في ملابسها من اضطراب، تنصت إلي وتمضي، ومرات تنسى نفسها أمامي فترفع طرف جلبابها لتعصره أو تمد يدها في صدرها لتعدل وضع الستيان وهى تكلمنى".
وحين تصب له الشاي وهي جالسة بجواره، يكون زوجها في فراشه مستديرا بوجهه ينظر إليهما...
ترى هل يمكن أن يوجد جار بهذه الصفات في هذا الزمن الوغد؟.!

- أما "جيران" فهي حكاية مرحة عن عالم البؤس، يضفي عليها الكاتب بعضا من روحه الطيبة وخفة ظله.. فالزوجة تفاجأ بجارها الخباز ينام إلى جوارها، بعد أن سكر... ويضطر زوجها عامل السكة الحديد إلى إصلاح "الترباس"، رغم التعب، وجعله في متناول ابنهما، بدل أن يبقى الباب مفتوحا....

*****
بصيص أمل ونور يتسربان من هذه الكوى الصغيرة التي حفرها محمد البساطي في جدران متجهمة، تحجب واقع نساء مقهورات بإكراهات الحياة اليومية وقسوتها، ورجال يقبعون خلف الأسوار المتجهمة، وكل ذنبهم أنهم حاولوا أن يجعلوا تلك النساء يعشن حياة أفضل... ومن حيث الرؤية السردية، وردت بعض القصص على لسان طفل غر (إن كنت تحبني)، (تأهب) أو على لسان رجل مغفل (أرزاق)، كانتصار جمالي من الكاتب للبراءة المغتالة، مقابل الحضور القوى لقوى القهر والتسلط في مجتمع قمعي،لا إنساني... في القصص والواقع.

 

 

free web counter