الصفحة الثقافية
السبت 14/1/ 2012
تألق القصيدة في انطفاء الشاعر
نورالدين الخفاف
إسم الديوان : انطفاء
المؤلف : مازن الوزان
عدد الصفحات : 120
كنت أشعر منذ بعض الوقت أن الشعر يموت، فوسط مئات الدواوين لا يجد المرء سوى نصوص لا علاقة لها بالشعر، قصائد لا تتجاوز الحياة اليومية في موضوعاتها – قصائد ربما كان المكان الصحيح لها الرسائل الشخصية إلى الأصدقاء. فوضع حدث صغير مثل أن يجلس المرء في مقهى أو يشتري قميصا جديدا في ثوب الشعر لن يجعل الحدث موضوعا يهم القاريء، ولا يستطيع الوزن أو القافية أن يجعلا من هذا الحدث شعرا - أو قصائد لا تتناول موضوعا وإنما تراوغ باستخدام لغة لا تقول شيئا، أو نمط ثالث يحاول أن يقلب صورة الواقع متوسلا الوصول إلى الشعر، فثمة ما يسقط إلى الأعلى، أو ثمة من يكتب بحبر أبيض أو يبتعد عن موضع كلما اقترب منه وما شابه هذه الصور التي تحاول تضليل القارئ بنية مبيتة أم بدونها.
كنت أشعر بموت الشعر كلما قرأت ما يتحدث به الشعراء في مقابلاتهم، أخبار الحروب التي يخوضونها ضد بعضهم، والضجيج الذي يثيرونه حيثما حلوا حتى قرأت ديوان مازن الوزان "انطفاء". هذا شاعر يقدم نفسه دون ادعاء، يرى ما لا نرى، يقودنا إلى مناطق مظلمة في أنفسنا وفي العالم حولنا ويريد مساعدتنا على الرؤية.
يضع الوزان في يد القارئ البذرة التي ستتفتح عن برعم ينمو ويزهر أمام عينيه. يجعل من القارئ شريكا له وليس متلقيا سلبيا وحسب.
شعر مازن الوزان ليس للقارئ الكسول الذي يلتمس في الشعر عبارة أو حكمة يرددها في هذه المناسبة أو تلك. يعلن الوزان القطيعة مع "الخيل والليل والبيداء تعرفني" وهو لم يأتِ "بما لم تستطعه الأوائل" ولا تبع مجايليه في مساعيهم إلى إضفاء هالة على الشعر وفي الآخر على أشخاصهم. فبين قصائد الديوان الأربعة والخمسين كتبت 49 قصيدة بصيغة الغائب، ثلاث قصائد بصيغة المخاطب وقصيدتان فقط بصيغة المفرد المتكلم. إنه لا يجترح معجزة أو يغير مجرى التاريخ، فهو "يفتح نافذة" يراقب منها انطفاء العالم من حوله وهو عاجز عن الفعل، يراقب انطفاء الأشياء، ذوبانها في العدم، وفي الآخر انطفاءه الشخصي. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن أبطال القصيدة كما نتحدث عن أبطال الرواية فإن أبطال مازن الوزان الذين لا أسماء لهم، والذين يقدمهم إلينا في صيغة ضمير الغائب:
"يغمض عينيه ويمضي
فيرى في العتمة صورته
....
وجها لا يعرفه
....
أفَضَلَّ الدرب إلى نفسه؟"
لا يسلك هؤلاء الأبطال طريقا واحدة، لكن طرقهم المختلفة تقودهم دائما إلى النهاية الحتمية، الانطفاء. ففي قصيدة صمت يختنق البطل بـ "الكلمة التي لم يقلها"، ويحل الصمت، وهو يتلاشى في قصيدة "جهة واحدة" وهو يمضي في طريق لا يمكن التكهن بنهايته، أو يكون غائبا بينما يتوزع ضيوفه على الأرائك يشربون قهوته باستمتاع في قصيدة "غياب".
سيلاحظ من يقرأ الديوان دفعة واحدة التطور الذي يحدث في بناء الجملة أولا وفي اختيار المفردات ثانيا. إنه يبدأ بلغة مألوفة ويقدم لنا قصائد تستمد موسيقاها من الوزن في البداية لكنها تتخلى عنه شيئا فشيئا مستمدة قوتها من الفكرة وحدها.
وبينما "يتآخى الليل والنهار" في القصائد الأولى للديوان وتشع بالحرارة المفردات التي تتكرر مثل "لهب"، "ضوء"، "تشتعل" و "تأتلق"، نجد النار تخمد تدريجيا كلما اقتربنا من نهاية الديوان حيث نلاحظ انحسار المفردات السابقة لتحل محلها مفردات واستعمالات مثل "الظل"، "العتمة"، "باردة"، "نقطة ضوء تبتعد"، "لا شيء"، "خاوٍ" و "هباء" إذ يجعل القاموسُ اللغوي للقصائد الديوانَ يتناغم تناغما تاما مع العنوان الذي أعطي له: انطفاء. تضمحل الألوان تدريجيا ولا يبقى في الآخر سوى بياض الصفحة الأخيرة.
النقاط التي تتكرر بين حين وآخر في القصائد إنما تعبر عن رغبة الشاعر عدم سجن المشاعر في كلمات فهي في الآخر ضيقة لا تتسع في أحسن الأحوال لما يعتمل في داخله من مشاعر مضطرمة متناقضة، أو لا تستطيع اللحاق بالأفكار التي تومض مثل البرق في الذهن ثم تنطفئ.