الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الجمعة 14/12/ 2012


 

الخطاب العادل للمسرح يقف دوما ضد العدوان والاحتلال
قراءة تحليلية في كتاب وجدي العاني " ثلاث مسرحيات " *

علي رفيق

يعيش وجدي العاني في خضم احداث عصره ، ولأنه طيلة مسيرته الابداعية ، كان فنانا صاحب موقف آزاء قضايا الوطن ، يتصدى بهذا الكتاب الذي بين ايديكم" ثلاث مسرحيات" .. لموضوعة الساعة ، موضوعة الاحتلال ، فيعالجها دراميا ، ويختارمنها ثلاثة نماذج ، هي في الواقع من ابشع الاحتلالات ، ففي مسرحية " الخطيئة العارية " يتناول الاحتلال العثماني للعراق ، وفي الواقع لاجزاء كبيرة من الوطن العربي ، والذي جثم ثقيلا لعدة قرون . وفي مسرحية " جمر المأساة " التي تتمحور احداثها الرئيسية حول الأحتلال البريطاني لمدينة الناصرية ، بل وكل العراق ولأكثر من بلد عربي في اعقاب الحرب العالمية الاولى ولفترة طويلة زرع خلالها حكومات موالية له اشاعت ثقافته في "فرق تسد" والفساد والابقاء على التخلف وافقار الناس . وفي مسرحية " لماذا ادميتم القمر ؟" ا يتعرض كاتبنا للأحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين منذ منتصف القرن الماضي ولحد الان .. لكننا في تحليلنا لتلك الاحتلالات التي ابتليت بها اوطاننا ، وغيرها من الاحتلالات لبقاع اخرى من العالم نتلمس المشتركات في الغايات والاهداف بين المحتلين . لكن يبدو لنا ان وجدي العاني في معالجاته ، لا يريد ان يشير الى تلك المشتركات فقط ، وانما يسبر اغوار ثنائيات التاريخ البشري : الخير والشر ، العدل والظلم ، الصداقة والعدوان وغيرها ، فنراه يطوعها من خلال البناء الدرامي لمسرحياته الثلاث ، التي ضمها ، الى كتاب واحد ، وحسنا فعل ، ونجح في ذلك ، فهو الذي يملك تجربة مسرحية غنية تجاوز امدها النصف قرن ، مستخدما امتلاكه ناصية التحكم بالصراع الدرامي سواء بين الشخصيات او الافكار ، واضعا نصب عينيه ادراك المتلقي عن طريق اشراكه في لعبة العرض المسرحي ، واعتنائه الفائق بالنص والحوار اللذين يخاطبان عقل المشاهد او القارىء ، والوصول بهما الى اتخاذ القرار الصائب من القضية التي يتعاملان معها اثناء القراءة او المشاهدة ..فتكون عملية الابداع المسرح عند كاتبنا منتجة ومثمرة ، وليس غريبا على كاتب هذه المسرحيات ان يخوض غمار هذه الموضوعة الشائكة هذه الايام ، لاسيما وان العصر الذي نعيشه تعددت فيه اشكال الاحتلال فهناك، الاحتلال الداخلي والاحتلال الخارجي والمباشر وغير المباشر ، وبذا صارت سيادة الاوطان منقوصة ، وازداد اغتراب المواطن عن وطنه ، ولايفوت الكاتب من ان يجعل معالجاته تنطوي على تبشيع الاحتلال وفضح اهدافه وغاياته ، وباساليب فنية وابداعية تتعالى على المباشرة الفجة ، وبتناول الحيوات الانسانية ، وطبيعة المجتمعات وتناقضات افرادها ، ومجريات تعاملها مع الاحتلال .

ان اختيار هذه الموضوعة والتصدي للكتابة المسرحية عنها ، فضلا عن انها تسجل موقفا ايجابيا لكاتبها ، حيث اختار اللحظة المناسبة لطرحها في هذا الوقت العصيب ، تأتي تأكيدا على درايته بحاجة المسرح العربي لنصوص من هذا النوع تدفع المسرح والمسرحيين للتفاعل مع قضايا الوطن المصيرية ، واخذهم لزمام المبادرة ، لكي يعود المسرح ليأخذ دوره المرتجى في عملية التنمية وبناء الانسان الجديد والمشارك الجاد في عملية التنمية وخلق الظروف المواتية لها لينعم المواطن بمواطنته كاملة الحقوق والافادة من ثروات وطنه ليضمن وتائر سريعة لبنائه واللحاق بركب البشرية المتطورة التي تنهل من تقدم الحضارة المضطرد .

ان الفنان المسرحي وجدي العاني لا يفاجئنا هنا في اختياره لكتابة نصوص مسرحية تتصدى للاحتلال ، فهو وريث ورائد فاعل في الحركة المسرحية العراقية ، التي ترعرعت ونمت في احضان حركة شعبها الوطنية ، ومن الدلائل التي تشير ان هذه الحركة المسرحية في بواكيرها ، مطلع القرن الماضي ، ان شاعر ثورة العشرين محمد مهدي البصير ، كتب المسرحيات المناهضة للمحتل والمنادية باستقلال الوطن . ففي امسية للأحتفاء به قدمت كلمة الدكتور علي الربيعي الذي استطرد فيها لاثبات حقيقة طالما تعرضت لشكوك المشككين وحسد المرائين تلك الحقيقة المتمثلة في ان الشيخ البصير كتب عدداً لا يستهان به من المسرحيات التي مثل بعضها على خشبات المسارح العراقية والعربية، من مثل مسرحية (دولة البخلاء) التي اثبت الباحث صحة اعتقاده بوجودها بعد ان عثر على الكثير من القرائن والدلائل التي تبرهن على ذلك..

وذكر الربيعي أنه كان دائباً عما يؤيد ما ذهب اليه، وقد وفق في العثور على أدلة كثيرة تثبت ان الشيخ البصير كان كاتباً مسرحياً بامتياز .

ويأتي تاكيد الباحث على تلك الحقيقة لان هناك من لايعتبر البصير كاتبا مسرحيا ويركز على شاعريته ضد الاحتلال  .
ولعلَ أشهر واروع قصيدة له حافلة بالمعاني الوطنية والتضحية والفداء القاها في جامع الحيدر خانة ببغداد بعد إعلان الثورة العراقية في 30-حزيران-1920 بعنوان (لبيك أيها الوطن) ويقول فيها :

إن ضاق يا وطني عَليَّ فضاكا
فلتتسع بي للأمام خطاكا
أجرى ثراك دمي فأن أنا خنته
فلينبذني أن ثويتُ ثراكا
بك همت بل بالموت دونك في الوغى
روحي فداك متى أكون فداكا
هب لي بربك موتة تختارها
يا موطني أَولست من أبناكا

وقدمت الحركة المسرحية العراقية ، عرضا تناول المحتل باسلوب ناقد ساخر في اواسط الاربعينات ، وفي زمن حكم موال للمستعمر وجاء ثمرة لاحتلاله ، وذلك في مسرحية " وحيدة " لكاتبها المحامي موسى الشابندر .

فلا غرو اذن ان يضع بين ايدينا ، الفنان وجدي العاني الذي عرفته الحركة المسرحية العراقية منذ خمسينيات القرن الماضي مخرجا وممثلا وكاتبا ، هذا الكتاب الذي يحوي بين دفتيه ، موضوعة الاحتلال في مسرحيات : "الخطيئة العارية" و"جمر المأساة" و"لماذا ادميتم القمر ؟" .. والذي يؤكد في مضامينه اهمية الكتابة ضد الاحتلال كفعل وطني نضالي .. وكما هو معروف ان المسرح يعتبر من الاجناس الابداعية والادبية يتوفر على اداء دوري القراءة والتنفيذ على الخشبة ، وهما فعلان متجانسان ، احدهما متكافل مع الاخر .

وهنا يتبادر الى الذهن سؤال فيما لو كانت الكتابة ضد الاحتلال ، تصطف مع الدعوة الى الحرب ام انها مناهضة لها .. فالمحتل يقوم بفعل الاحتلال مستخدما الحرب التي يزج فيها كل آلته وادواته العسكرية في تنفيذه ، وبواسطتها يوغل في قمعه للسكان المحليين .. اذن بهذا المعنى فان الكتابة المناهضة للأحتلال هي بالضرورة ضد الحرب العدوانية التي يشنها المحتل .. وهذا يقودنا الى السؤال هل ان المحتل الذي انتهك حرمة الوطن والناس هل سيخرج بدون عنف مضاد ؟ اذن لابد من التسليم في ان مقاومة المحتل هي حرب عادلة، ولكنها قد تأخذ مسارات عدة من بينها الحوار السلمي ، وتلك المسارات قد شرعنتها كل قوانين البشر منذ القدم .

يسعى الاحتلال اول مايسعى في اي بلد محتل الى تجهيل السكان ، واشغالهم عن كل ما يهدد رغباته لانه يريد ان يسود فيعمل على استمالة نخبة تأتمر بأمره ، تروج له ، بغية تحقيق اهدافه الاستراتيجية والاقتصادية التي تؤمن مصالحه والتي لابد وان تتعارض مع مصالح ابناء الوطن المحتل ، وهنا تبرز اهمية التثقيف بضرورة طرد المحتل ، ومن بين ابرز وسائل التعبير عن هذه المهمة الجليلة هي المسرح ، وكما اسلفنا فان المسرح العراقي كان سباقا للقيام بهذا الدور .

وهذا ما نتلمسه من مايقدمه وجدي العاني في " الحقيقة العارية " حيث يتناول اخطر واطول فترة احتلال شهدها العراق الا وهي فترة الاحتلال العثماني البغيض التي دامت عدة قرون ، جرت الكوارث والويلات فيقول في مطلعها ، عبر جوقة الممثلين وهي توجه خطابها للجمهور :

حين يجن الليل على بلد آمن
تخرج من تحت الارض هواجسه
وتطوف به اشباح موتاه ورؤاه
وعفاريت الجن الغاضبة تتقاذفه
تسلب مراكبه
تمزق اشرعته
وتحرق مراسيه

الى ان يقول ، في نفس تلك المقدمة ، وكأنه يستشرف المستقبل ، او يعالج الحاضر ، مستلهما الماضي الذي ذاق فيه المواطن الأمرين واكتوى بنار المحتل :

البلد المسكين المجروح
يأن تحت سياط القتلة
وباسم الدين وباسم التحرير
ذئاب الليل الجائعة تنهشه

ويعمل كاتبنا وجدي العاني في الاشتغال على النص بالمعالجة الرمزية لانتهاكات المحتل للوطن ، عن طريق تنميطه للشخصية المسرحية ، وجعلها مركبة تمثل ذاتها ونمطا في آن واحد ، لكنه لا يغرق في الرمزية في اسلوبه الرمزي ذاك ، وانما بطرح واقعي حياتي سلس وانسيابي .. فالشخصية عنده هي ذات انسانية وتمثل في نفس الوقت نمطا بشريا يتوفر على قيم وفكر لمجموعة او شريحة اجتماعية تعكس قيمه ومورثه .. ولابد لنا من تشخيص ان اسلوب وجدي في الترميز والتورية والمجاز لايبتعدان عن ماهو يومي معاش في حياة الناس ، بل يمهد للجمهور ان يستلم رسالة العرض المسرحي ويحاكمها ويتخذ بشأنه موقفه الحاسم منها . ففي مسرحيته " الخطيئة العارية" تتراكم الاحداث ، في صراع درامي محكم .. تمثل المرأة سعاد – الوطن وزوجها الخائن للوطن يقدمها للمحتل من اجل ان ينتفع بفتات يقدمه له ، ويتجسد ذلك في صرخة زوجته بوجهه على هذا النحو :

سعاد : " تضربه بكلتا يديها .. تبتعد .. تبكي " خير ؟ تتحدث عن الخير يامسعود ؟ الخير وانت تعرض زوجتك وحبيبتك في سوق النخاسين ؟ تعرضها لمن يدفع لك زبد الحياة وجفوتها ؟ تعرض جسدها للآخرين من اجل حفنة دنانير ؟ تبيع شرفك وكرامتك ايها السافل المنحط " تعود لضربه " تبيع شرفك لاجنبي استحل بلدك ؟

وموضوعة اغتصاب شرف الوطن – المرأة ، تكون محور المسرحيات الثلاث ، لكن دون تكرار ممل وانما معالجات متباينة .. ففي مسرحية " جمر المأساة " التي تجري احداثها في مدينة الناصرية جنوب العراق ، حيث نشأ وترعرع وجدي ، وتدور ابان الاحتلال البريطاني للعراق عام 1920 فيقول في مطلعها منبها الجمهور :

فراتها النيل والسخي بالعطاء
يمور بالحكايا
يصرخ من هول ما رأى من الرزايا
احتلها المغول مرتين
وسامها العذاب الف مرة ومرة
برزت حكاية الصغيرة.. حكاية مريرة
لأمرأة في العشرين

ان هذه المسرحية " جمر المأساة " تتوفر على حبكة درامية متصاعدة وعلى مضامين متداخلة ، ويمسك فيها وجدي بتلابيب واحد من اهم عناصر التأليف المسرحي ، الا وهو عنصر التشويق ، فسعدية التي تفقد الاخ والاب .. وتعاني الفقر المدقع ، تكافح بالعمل ، لكن الاقدار تقودها الى مقارعة المحتل فتقتل احد ضباطه فتقودها الاقدار الى نهايتها التراجيدية التي تاتي في سياق متواتر لا اريد ان افسد متعة القارىء في متابعتها فالايجاز هنا يخل بالبناء الدرامي ، لذا احيله للنص .

اما في المسرحية الثالثة " لماذا ادميتم القمر ؟" فيتصدى وجدي لاحتلال الصهاينة البغيض لارض فلسطين فيفتتحها بعبارة :
"يخطىء من يظن بان المحتل سيرجع الارض المغتصبة لاصحابها الحقيقيين .. فذلك ضرب من الخيال.. لا امل باسترجاع الارض بغير المقاومة والكفاح "

ان هذه العبارة القصيرة تختصر صراع دام زاد امده عن نصف قرن ، لم يحصد لحد الان نتائجه المرجوة رغم التضحيات التي قدمها الشعب المحتل ورغم جرائم وبشاعة اساليب الاحتلال الاستيطاني ويؤكد وجدي العاني من جديد في هذه المسرحية على حقيقة ساطعة كالشمس الا وهي ان سلب الوطن انما هو سلب للشرف .. فهنا فاطمة هي الاخرى وطن يدافع عن الشرف ، وتقف بشراسة ازاء محاولة الضابط المحتل في اغتصاب مريم ، وهي المرأة – الوطن ، هي الاخرى .

ويتعرض وجدي الى قضية اخرى بالغة الاهمية في التراجيديا الفلسطينية الا وهي مسألة فقدان الارض – الوطن وقسوة التشرد والمنفى والتفرق في الشتات والعودة كمحور جذري في أس المشكلة التي صنعها المحتل .. لكنه يختم عمله بفعل درامي وباشتغال على الحركة المسرحية .. الصورة .. لا على الحوار .. بملاحظة اخراجية تعتبر احدى خصائص الكتابة المسرحية عند وجدي العاني حين يكتب بين قويسات مختتما مسرحيته " لماذا ادميتم القمر ؟" حيث نقرأ السطور التالية :
" يستمر الجنود الصهاينة باطلاق رشاشاتهم والممثلون يردون عليهم بالحجارة من القاعة بينما تعود اصوات الاطفال صارخة وهي تهتف بسقوط الصهاينة وتتدلى الرايات من كل صوب وناحية .. ويسقط من سطح المسرح جدار من الحجارة يغلق فتحة المسرح ".



*
صدر كتاب (ثلاث مسرحيات) لوجدي العاني في دمشق عام 2011 عن "دار الينابيع" للطباعة والنشر والتوزيع

 


 

free web counter