الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 13 / 1 / 2014

 

عبقريات سحقها الدولار / أدجار ألن بو أنموذجا (*)

مجيد الأسدي

يذكرنا موته بميتة السياب إذ كان المشيعون خمسة رجال وكانت مراسيم الدفن فاترة لم تتجاوز ثلاث دقائق!هذه العبقرية سحقها مجتمع ونظام لا يؤمن بغير الدولار. عاش حياته القصيرة (1841-1909) في عوز ومرض غير انه ابدع في الأدب ما شاء له الإبداع.ومن سخريات القدر أن فرنسا عرفته قبل أمريكا دون أن يرحل اليها,اذ قام(بودلير) بترجمة أعماله النثرية في حين تناول (مالارميه) أعماله الشعرية. لقد عاش عمره القصير وهو يسأل إن كان الموت حالة طبيعية أم انه حالة من الاضطراب؟وهنا يكمن سر عبقريته, فتحرياته الموغلة في أعماق مخاوفه وكوابيسه انما تشكل عن حق تعبيرا عن المشاكل التي شغلت العلماء والفلاسفة عبر التاريخ والتي مازالت تشغلهم حتى عصرنا الحاضر.

ان قيمة ما خلفه لنا (بو) من اعمال يتجسد فيها الرعب تكمن في تحذيره لنا"على نحو مسرف من القسوةودونما مهادنة ,من الشر الكامن في اعماق كل منا" لم يكن مجنونا كما انه لم يفقد الوعي بسبب الكحول والمخدرات كما يشاع عنه وانما كان مرهف الحس عاش ظروفا كالحة من البؤس والمرض.

يختفي والده قبل ان يولد وتموت امه بداء السل سنة1811 مخلفة ثلاثة اطفال توزعتهم بيوت التبني. لقد ظل-بسبب فقد الام وهو في الثالثة- طوال عمره يحاول استعادة تلك الايام من خلال علاقته بالنساء الآخريات لقد تولد في اعماقه احساسا مرضيا بان وجوده انما يعتمد على عناية الاخرين به وعلى الود الانثوي غير ان هذا الود كلما بدا له قريبا يمكن الامساك به يتلاشى كالضباب وكان اخر هذا الود زواجه من احدى قريباته (فرجينيا) ابنة الستة عشر ربيعا حيث بلغ حبه لها حد العبادة ولكن السل يبعدها عنه الى القبر وقد كتب فيها احب قصائده الى نفسه (أولالوم) –ترنيمة الى فرجينيا الميتة تتجسد فيها شخصيته شعرا :

كانت السماء كالحة وقاتمة
وكانت اوراق الشجر ذابلة وذاوية
كان الوقت ليلا في تشرين المستوحد
القسوة بالغة قرب بحيرة (أبرا) المعتمة
في عمق منطقة (فير) الضبابية
في غابة (فير) التي ترودها الغيلان
هنا تجولت مرة
عبر طريق من اشجار السرو
العالية
تجولت مع روحي
بين اشجار السرو
مع سايكي روحي

ألا تذكرنا (أولالوم) بقصيدة (غيوم ابوللينير) الرائعة (تحت جسر ميرابو يجري السين)؟

ظل الشاعر يصارع امواج مجتمعه العاتية وعصره واستطاع ان يثبت وجوده ا ذ ابتكر تكنيكا في الكتابة لم يضاهه فيه اي كاتب اخر من حيث الاصالة والتأثير رغم ان معظم المجلات الادبية في امريكا انذاك وقفت ضده..حيث ان المجلة التي تساند كاتبامعينا تقوم (بالنفخ) في عمله وتوعز لبعض المجلات الاخرى بترديد ما تكتبه هي عن ذلك الاديب واذ يصدر العمل المذكور تكون عملية الدعاية اخذت كل ابعادها. اما(بو) فقد سبح عكس التيار وخلق له اعداء من ادعياء الادب لم يكفوا عن تمزيقه حتى بعد موته .

في فيلادفيا ينشر حكايته المعنونة (اليجيا )تدور حول صدمة يصاب بها الراوي اثر موت زوجته اليجيا /مثال الجمال ويتخذ من الليدي (اروانا )زوجة ثانية ويقيم معها في دير خرب "تتعلق الطحالب الخضراء على جدرانه". يعلق كاتب سيرته"لو لم يكتب بو اي شيء اخر غير هذه الحكاية لكان ذلك كافيا لان يضمن الخلود لاسمه"

في 1839يكتب بو (الرجل المستنفذ) وهي قصة بارعة في سخريتها بالعبادة الجماهيرية لأبطال الحملات الهندية التي تمت وفق سياسة (التوطين الحكومية) حيث تتم الابادة الجماعية للهنود الحمر وفي نيسان من نفس السنة تظهر له قصيدة (القصر المسكون بالاشباح) :

في اشد ودياننا اخضرارا
حيث كانت تسكن الملائكة الطيبة
ثمة قصر بهي وجميل
مضيء الجنبات
شمخ برأسه عاليا
في حضرة الفكر السلطاني
انتصب هناك
لم تفرش اية جنية جناحها
فوق نسيج
في بعض هذا البهاء

ان نوعية العذاب الداخلي هي التي تميز القصص والقصائد العظيمة عن غيرها وهكذا كانت قصة (اشر) التي ضمتها تلك القصيدة ,فهي ليست مجرد وسيلة في افتعال التأثيرات ولكن كما قال (د.ه .لورنس) عن بو " لقد عنى بو بعمليات انحلاله الروحي وقد قضي عليه ان يخمد روحه المضطربة عبر سلسلة من التشنجات الانحلالية " والقارئ لهذه القصة يجد رابطا عميقا بين (اشر وبو) . قال مرة متبنيه (جون الان)- وهو صادق- بان مواهب بو من النوع الذي لا يعطي الراحة لصاحبها ونضيف ولا لمن يطلع عليها .

يصف الشاعر عملية ابداعه لأشهر قصائده (الغراب )ان كل حركة قد درست بدقة بهدف احراز"ذلك الترابط بين الحدث و الاسلوب الذي من شانه ان يساعدني على تحقيق الأثر :

في منتصف ليلة موحشة
بينما كنت منهكا ومرهقا
اتأمل العديد من كتب الحكايات القديمة
الغريبة العجيبة
بينما كنت انوس برأسي اكاد اغفو
فجاة
اذ بنقرة
كان احدا يطرق الباب بخفة
يطرق باب غرفتي
همهمت
هذا زائر يطرق باب غرفتي

وهكذا تستمر القصيدة بقوة ايقاعها ورنتها المغناطيسية :

وما زال الغراب جالسا
جالسا دون حراك
فوق تمثال بالاس الشاحب فوق باب (غرفتي)
عيناه عينا شيطان يحلم
والضوء من فوقه
يصب ظله

وكما نعلم ظل الغراب رمزا للشر والسوء عند العديد من الامم ومنها العرب فهل ثمة تماهيا مع الاعتقاد العربي خاصة وان الشاعر كان مطلعا علي الأدب الشرقي اذ كان معجبا بشعر (حافظ الشيرازي)؟

بعد نشر هذه القصيدة يعلق احد معاصريه "ان بو يمتلك ذلك الشيء الذي لا يمكن ان يتم وصفه والذي يدعوه الناس بالعبقرية.."

وقبل ان تطوى الصفحة يقوم بو بتحويل افكاره العلمية الى حدس شعري اطلق عليه اسم(يوريكا) ..شعر منثور. هذا العمل هوتبسيط للنظرية النسبية تستند على فرضية فحواها بما انه لم يكن هناك شيء موجود , لذلك فان كل الاشياء موجودة! فالعدم هو الوحدة التي خلقت منها المادة واليها تعود..عالم الفضاء غير محدود غير ان عالم النجوم محدود ويتضمن قوتين هما القوة الجاذبة(الجاذبية) والقوة الطاردة (الكهرباء)ويمكن النظر اليهما بانهما الروح والجسد..

 

(*) اعتمدنا في كتابة المقالة على :
أدجار ألن بو- تأليف ديفد سنكلير - ترجمة سلافة حجاوي
 

free web counter