| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 9/3/ 2009



 جدلية الفكر .. جدلية الممارسة - أسئلة التجديد -

د. سامي خالد

خاض الحزب الشيوعي العراقي على مدى تاريخه الطويل معارك بطولية وقدمّ تضحيات جسام, وهو اليوم اعرق حزب سياسي على الساحة السياسية العراقية ومعروف بوطنيته ويحظى بثقة واحترام الرأي العام.
ولكن ذلك بدوره يثير الأسئلة عن الحزب ودوره, إذا ما أخذنا بالاعتبار أن هدف كل حزب هو الوصول للسلطة لتحقيق برنامجه. ومن بين هذه الأسئلة:
- الى أي مدى نجح الحزب في تحقيق برامجه؟
- هل مهمة الحزب تحليل الواقع فقط، أم الانتقال بهذا التحليل للتأثير في الواقع باتجاه تغييره كما يقول ماركس؟
- هل الحزب مؤسسة بحثية تقدم الدراسات والتقارير الدورية( مركز أبحاث) عن الأوضاع، أم مؤسسة سياسية تلعب الدور الريادي في المجتمع؟
- هل نجحت مؤتمرات الحزب في الارتقاء بدوره على الصُعد السياسية والاجتماعية والفكرية؟
- ما الذي حققه الحزب على طريق تحرير الماركسية من الجمود, وتطوير المنهج الماركسي الذي تم اعتماده بوضوح لأجل التصدي للمستجدات المعاصرة؟
- هل كان المؤتمر الخامس للحزب(1993) انعطافة نوعية، وهل استمرت وتطورت عملية الديمقراطية والتجديد التي أطلقها الحزب في مؤتمره الخامس - في المؤتمرات اللاحقة( السادس والسابع والثامن)؟
هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، جديرة بالتأمل والتفكير لم تغب عن وثائق الحزب ومقرراته وقبل ذلك مؤتمراته. ولكن هل تمت صياغة أجوبة معلله موضوعية نقدية جريئة حولها؟

اعتقد أن ما تم انجازه - رغم انه ليس بقليل- ولكنه ليس كافياَ اخذين بالاعتبار التغير والتطور والتبدل والسرعة والمفاجئة التي يتميز بها عالمنا المعاصر ومنه العراق الذي شهد خلال العقدين الأخيرين متغيرات حاسمة تداخل وتشابك فيها ماهو داخلي مع ماهو إقليمي ومع ماهو دولي وعالمي.
وسأحاول إبداء الرأي في بعض جوانب الأسئلة وتحديدا منذ المؤتمر الوطني الخامس للحزب، وما تلاه ارتباطاَ بالتغيرات التي شهدها العراق في 2003.

أولا- المؤتمر الوطني الخامس - ظروف انعقاد المؤتمر:
إن التشخيص الدقيق للمؤتمر الوطني الخامس وما حققه يتطلب الأخذ بنظر الاعتبار الظروف التي انعقد فيها على الصعد المختلفة وما تميزت به تلك الظروف من تغيرات وتفاعلات نشير الى أبرزها:
أ- على الصعيد الوطني/ العراقي:
1. اشتداد إرهاب وقمع النظام الدكتاتوري (سياسة الإرهاب الشامل) وحروبه الداخلية.
2. توقف الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت (8) سنوات 1980-1988 وما تركته الحرب من آثار اجتماعية وسياسية واقتصادية.
3. حرب غزو الكويت 1990 والحصار الدولي المفروض على العراق.
4. انتفاضة آذار 1991 وفشلها في الوسط والجنوب ونجاحها في إقليم كردستان.

ب - على الصعيد العالمي:
1. انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي.
2. نهاية الحرب الباردة، وهيمنة القطب الواحد وإعلان " النظام العالمي الجديد " بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
3. ظاهرة العولمة وتجلياتها، وخاصة عولمة رأس المال، وعولمة الظواهر السياسية والتطور العلمي والتكنولوجي وثورة المعرفة و الاتصال.
4. الحروب والأزمات والصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط.

ج- على الصعيد الحزبي:
1. انتقال الحزب من الكفاح المسلح الى الكفاح السلمي.
2. العمل في التجربة الكردستانية بعد انتفاضة 1991.
3. تشكيل الحزب الشيوعي الكردستاني.
4. تنوع وتعقد عمل الحزب في ثلاث ميادين مختلفة هي:
- داخل(عمق) العراق - العمل السري.
- في كردستان - العمل العلني.
- في الخارج- في أكثر من (30) بلداَ كمنظمات حزبية.

وتتباين ظروف كل ميدان رغم الترابط في وحدة البرامج والتنظيم.
في ظل هذه الظروف والمتغيرات وما رافقها من آثار ونتائج و تعقيدات انعقد المؤتمر الخامس للحزب بعد ثمان سنوات على المؤتمر الرابع (1985) وناقش جملة هامة من القضايا السياسية والفكرية والتنظيمية، بجرأة وبمسؤولية من المشاركين، مما ينبغي الأخذ بالاعتبار تلك الوقائع عند تقييم تجربة الحزب ومؤتمره الخامس.

ثانيا- عملية الديمقراطية والتجديد التي أطلقها المؤتمر الخامس.
انطلق المؤتمر الخامس من قناعة بضرورة وأهمية الديمقراطية والتجديد في حياة الحزب الداخلية وفي مجمل نشاطه. والنظرة السريعة للوثائق الصادرة عن المؤتمر كافية لتأكيد ذلك, حيث جاء في البلاغ: ( سادت مداولات المؤتمر الذي حمل اسم مؤتمر الديمقراطية والتجديد أجواء من الحرية التامة والصراحة، واتسمت المناقشات بالعمق والبحث الجاد، والسعي للوصول الى أجوبة معللة للأوضاع التي يواجهها العراق، مما جعله مؤتمراً نوعياً وخطوة هامة على طريق التجديد وترسيخ الديمقراطية).

وبذات الوقت، أقر المؤتمر التباينات في وجهات النظر, حيث جاء في بيان اللجنة المركزية للحزب الصادر بعد اختتام أعمال المؤتمر الخامس النص التالي المتوفر الآن على موقع الحزب في الانترنت :- (أظهرت مناقشات المؤتمر ومداولاته التي جرت في جو من الديمقراطية والمكاشفة الرفاقية الجريئة وجود تباينات في الرؤية, والاجتهاد إزاء مختلف مفاصل الحزب وسياسته الى جانب الحرص الشديد على وحدة الحزب، وتعزيز مكانته وتطوير نضاله).

هذا التشخيص الدقيق لوضع الحزب في تلك المرحلة، يعبر عن المدخل الصحيح لعملية الديمقراطية والتجديد، التي بدأت بتحليل الأوضاع وتشخيص مواطن القوة والضعف، ثم التحديد الملموس للمعالجات. فالبداية جاءت من القناعة بضرورة التجديد، وأكد ذلك التقرير السياسي والتنظيمي للمؤتمر الخامس الذي جاء فيه: (أن حزبنا لا يستطيع العيش على أمجاده النضالية فقط وهو مطالب بان يجدد نفسه انطلاقا من كون التجديد حاجة موضوعية ملحّة).
وقد ترجمت عملية الديمقراطية والتجديد في جملة من القضايا من بينها:
- نشر الوثائق في وسائل الإعلام.
- الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية.
- مشاركة القاعدة الحزبية في رسم السياسة العامة.
- علنية الفكر والسياسة .
- ضمان حق الأقلية في الاحتفاظ برأيها والدفاع عنها ونشرها في الصحافة الحزبية.

هذه القضايا وغيرها وجدت تطبيقها العلمي رغم المعوقات التي واجهتها. وكانت وثائق المؤتمر الخامس دقيقة حينما أشارت الى الصعوبات التي تعترض عملية الديمقراطية والتجديد ومن بينها:
- الانشداد الى الماضي وممارساته الخاطئة.
- حكم العادات المترسخة في سلوك الرفاق القياديين والكوادر والأعضاء والتي يشكل التخلص منها مهمة شاقة.
إذن يمكننا القول أن المؤتمر الخامس أرسى بداية صحيحة وناجحة لعملية الديمقراطية والتجديد في الحزب وعموم نشاطه.. لكن الى أي مدى استمرت هذه العملية على مستوى التنظير والتطبيق؟

ثالثا- عملية الديمقراطية والتجديد في المؤتمرات اللاحقة( السادس، السابع، الثامن)
واصل الحزب التأكيد على الديمقراطية والتجديد في مؤتمراته اللاحقة، ولكن بدرجة اقل وبحماس اضعف وبتطبيق مقيد.

فعلى الصعيد النظري الوثائقي نجد المؤتمر السادس (1997) الذي انعقد بعد (4) سنوات من المؤتمر الخامس وقف عند المنجز من هذه العملية وقيمّه إيجاباَ، وأشار الى أن الجدل قائم داخل الحزب حول الموضوع، وحدد ثلاثة اتجاهات وهي:
1. الاتجاه المحافظ المتسم بالركود والأنشداد للماضي.
2. الاتجاه ألعدمي المتسم بالليبرالية والتحلل من الالتزامات السياسية.
3. الاتجاه التجديدي الذي يسعى باستمرار للاقتراب من الواقع والتعامل بموضوعية مع الظواهر.
وجاء في وثائق المؤتمر السادس( ومن بين هذه الاتجاهات العامة الثلاث هناك وسط لم يتبلور موقفه بعد, يظهر في حالات التأييد العفوي وفق اعتبارات آنية لهذه الوجهة أو تلك. غير أن هناك حقيقة واضحة وهي أن الرأي العام الحزبي الغالب هو مع عملية التجديد والتطوير بالمنظور الذي يسعى إليه الحزب).

الملاحظ هنا، أن المؤتمر السادس لم يقم بتحقيق دفعة الى الأمام على هذا الصعيد، ثم لم تثبت الحياة دقة استنتاجاته بخصوص الاتجاهات الثلاث المذكورة، وإذا وجدت، فهي اقل من ميول متناثرة غير واضحة المعالم والتأثير بما في ذلك الاتجاه التجديدي. وأخيرا نجد أن المؤتمر في الوقت الذي أكد أن التجديد ( مهمة الحزب كله وليس شأناً يخص القيادة وحدها) حذر بذات الوقت من مخاطر على العملية حيث جاء في وثائقه: (أكدت تجربتنا كم هي خطرة على عملية التجديد المعايير الذاتية والانتقائية التي تنطلق من مواقف مخلة بموضوعية هذه العملية واظهر ذلك مدى حاجتنا الى الواقعية في رصد الظواهر في حياتنا الحزبية) دون أن تحدد الوثيقة الحزبية ما هي المعايير الذاتية المذكورة وما هي المواقف المخلة. إلا أن ذلك يوضح مواقف الحزب التي تميزت بمخاوف من استمرارية عملية التجديد رغم أن الوثيقة (وثائق المؤتمر السادس)أكدت على (أن البعض يعبر عن قلقه وشكوكه في قدرة الحزب على مواصلة نهجه التجديدي وخشيته من التراجع عن هذا المسار) ويبدو لي اليوم بعد أكثر من عقد من الزمن أن هذا القلق كان في محله.

ولو انتقلنا الى المؤتمر السابع للحزب(2001) فسنجد علامات التراجع أخذت وضوحاً اكبر وبدلا من السير باتجاه تعميق الديمقراطية والتجديد نجد إبراز المخاوف ووضع القيود, حيث أكدت وثائق المؤتمر السابع (أن مواصلة عملية التجديد لا تنسجم مع الفوضى والعفوية، فهذه العملية ليست تهويمات وقفزاً في المجهول ولا سعياً الى صراعات لا أساس لها في الواقع).

ومع أن الحزب لم يعلن تراجعه عن هذه العملية إلا إننا نجد على مستوى التطبيق البطء في التجديد بذريعة الصعوبات من جهة وبروز حالات من الفوضى من جهة أخرى.
أما في المؤتمر الثامن(2007) وهو أول مؤتمر بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 2003 - الذي انعقد في بغداد فأقر المؤتمر الوثيقة الفكرية المعنونة(خيارنا الاشتراكي:دروس من بعض التجارب الاشتراكية) والتي توقفت عند موضوعة الديمقراطية والتجديد.

وركزت الوثيقة على المخاوف حين أشارت ( أن بعض التجاوزات أو مظاهر الخروج عما هو نظامي في مجال إبداء الرأي يجب أن لا تدفع الحزب للتخلي عن الاتجاه الصحي السليم الذي اتبعه).
وأكدت الوثيقة على مسألة مهمة وهي : ( أن عملية التجديد والدمقرطة داخل الحزب الشيوعي العراقي عملية ضرورية وحاجة موضوعية حقيقية لتشخيص نواقصنا وأخطائنا وسبل معالجتها). وسردت الوثيقة مجموعة من الجوانب الايجابية من بينها انتظام عقد الاجتماعات ... وأشارت الى عوائق موضوعية وذاتية تواجه عملية التجديد ومنها:
- الحالة السياسية في البلد.
- الثقافة السياسية السائدة.
- ضعف التقاليد الديمقراطية.
- التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
- المفاهيم والتقاليد البالية.
- الموروث الفكري الذي لم يعد يواكب الحياة.
- صعوبة تغيير النفس وتبني الجديد.
- القراءة الخاطئة للواقع ومتغيراته.
- النظرات القاصرة والتفسيرات اللاموضوعية للظواهر.
- التطبيق غير السليم للتوجهات الجديدة.

ورغم أهمية هذه القضايا التي شخصتها الوثيقة، إلا إنها أغفلت جوانب أخرى لا تقل أهمية الموضوعية منها و المتعلقة بالتغيرات في العراق بفعل الحرب، والاحتلال، والصراعات السياسية من جهة، والذاتية المتعلقة بالحزب وطرق عمله و دور القيادة الحزبية في التجديد من جهة أخرى.. اخذين بالاعتبار أن الحزب انطلق من فكرة أن الديمقراطية في حياته الحزبية هي المدخل للديمقراطية في المجتمع وهي فكرة بالغة الأهمية وتشكل الفهم الصحيح للديمقراطية والتجديد.. فالوثيقة لم تشر الى مسؤولية القيادة الحزبية في الجانب الذاتي ومسؤوليتها في تحديد آليات العلاج. ووجدت هنا أن العوائق التي ذكرها الحزب اقرب الى التبرير من التفسير.

رابعا- الإشكاليات والمعالجات
في ضوء ما مرّ ذكره، نجد جملة من الإشكاليات، بل والتحديات التي تواجه عملية الديمقراطية والتجديد التي أطلقها المؤتمر الخامس عام 1993 ومن بين هذه الإشكاليات:
1. عدم السير التصاعدي في العملية بل والتراجع والبطء في مسارها.

2. لم تصبح هذه العملية مهمة الحزب كله، بل لم تصبح مهمة القيادة كلها وظل التفكير المحافظ والمتردد هو السائد، والذي ينطلق من الخوف من السير عميقا في العملية خشية من تداعياتها المحتملة واحتمال عدم إمكانية ضبط إيقاعها.

3. إن الأزمة السياسية الراهنة في البلد، والناتجة عن المرحلة الانتقالية وما رافقها من تداعيات بفعل نهج المحاصصة الطائفية/القومية وتغليب المصالح والولاءات الضيقة على المصالح الوطنية، انعكست سلباً على الحزب ونشاطه، حيث لم يتناسب نفوذ الحزب مع حجم العمل والتضحيات، وتكمن وراء ذلك أسباب موضوعية وذاتية:
الموضوعية، تتمثل في انه لم يتح للمجتمع استيعاب قيم الديمقراطية في شموليتها، كون ذلك يتطلب مستوى معرفياً عالياً ولذلك حدثت أزمة داخل المجتمع تنعكس بدورها على الحزب. وأكدت انتخابات 2005 الأولى والثانية على سيطرة الو لاءات الضيقة على الناخبين( حسب تقديرات منظمات محايدة فإن 10% من الناخبين صوتوا لصالح البرامج والقوى العابرة للتقسيمات الطائفية والقومية تلك القوى الحاملة للمشروع الوطني والديمقراطي). ويواجه العراق اليوم تحدي التشظي بين التركيبات المكونة للمجتمع (الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية) وبروز قوة الهويات الفرعية التي تطالب بحقوقها الدينية والرمزية والتمثيلية داخل تركيبة النظام السياسي الحاكم والنخب الحاكمة التي تتسم بالجمود والركود السياسي وتحتاج الى إصلاحات سياسية, كل ذلك ينعكس بصورة مختلفة على الأحزاب السياسية ومنها الحزب الشيوعي.

أما الأسباب الذاتية، فتكمن في طرائق التفكير وآليات العمل التي اعتمدها الحزب بعد 2003 تلك الطرائق التي غلب عليها طابع الاستمرارية من الماضي أكثر من اعتماد الأساليب الجديدة والمتنوعة.
وإذا نذكر كل ذلك لا نغفل التعقيدات والصعوبات التي واجهت الحزب وحملة العداء ضده وان مجرد وجوده وعمله الجديد في المحافظات يمثل كلفة عالية تطلبت التضحيات.

4. ضعف التيارات الديمقراطية عموما، واليسارية خصوصا، وتشتت قواه وضعف التنسيق بين مكوناته. ويعود ذلك الى ذات الأسباب الموضوعية والذاتية، التي جرت الإشارة الى البعض منها ورغم محاولات الحزب الشيوعي الدؤوبة في معالجة هذه الإشكالية إلا أنها لا تزال قائمة وتبدو صعبة الحل, خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار تزايد الميل الشعبي المعبر عن فكرة ضعف الثقة بالأحزاب السياسية.

وهذه الإشكاليات والتحديات تقودنا بدورها الى مجموعة استنتاجات تتعلق بموضوعة الديمقراطية والتجديد وهي :
1. مثلما كانت هناك عوامل وأسباب موضوعية وذاتية أدت الى إطلاق عملية الديمقراطية والتجديد,هناك عوامل وأسباب موضوعية وذاتية أدت الى تعثرها.

2.عملية التغيير في الطاقم القيادي التي شهدتها المؤتمرات الحزبية الأربعة الأخيرة لم تقترن بتغيير وتطوير فكري ، بمعنى أن التجديد في الكادر لم يترافق مع التجديد في الفكر.

3. الكثير من التشخيصات الهامة التي توصلت إليها المؤتمرات الحزبية وثبتت في الوثائق بقيت محصورة في إطار التوثيق ولم تترجم بآليات عمل مناسبة, وان تراكم الخبرة والدروس لم يجد صداه في تطور يقود الى نتائج ملموسة على صعيد نفوذ الحزب. وأصبحت المؤتمرات الحزبية ما بعد المؤتمر الخامس ليست أكثر من استحقاقات حزبية.

4. اللهاث وراء المتغير السياسي اليومي الضاغط، أدى الى إهمال التفكير بالخطط والبرامج ولم يفلح الحزب معالجة التناقض بين الشكل والمضمون في فكره وعمله..حيث جرت بعض التغيرات في سياسته و مواقفه ولكنه ظل متمسكا بقضايا شكلية.

5. الفرصة التي أتيحت للحزب خلال السنوات 2003- 2008 من العمل العلني المفتوح لم تترجم بنشاط فكري إعلامي سياسي ينسجم مع تجربته وخبرة وتاريخ الحزب. ويرتبط ذلك بضعف الإستراتيجية المؤسسية.

وانطلاقا من ما مرّ ذكره من ظواهر وأسباب واستنتاجات، تتعلق بعملية الديمقراطية والتجديد وأثرها على الحزب ومستقبله, أضع المعالجات التالية:
1. يحتاج الحزب اليوم الى عملية تجديد جديدة أو للدقة عملية إصلاح في مجمل عمله لكي ينهض ويلعب الدور اللائق به، لا ليكتفي بما هو عليه الآن. والتجديد أو الإصلاح يشمل:
- المجال التنظيمي: آليات العمل والقيادة.
- المجال السياسي: صناعة وإدارة السياسة الحزبية.
- المجال الفكري:إشاعة الحوار والتفكير النقدي.

والإصلاح، ليس الخروج من التاريخ بل الحوار مع الحاضر، بالاستفادة من الماضي ودروسه عبر فحص التجربة وتصويب مسارها. هذا يؤدي بدوره الى تنفيذ السياسة العامة بعد إصلاحها وتحويلها من حالتها الإعلانية كقرار، الى حالتها الميدانية كعمل تنفيذي. وان الإصلاح والتجديد والتحليل النقدي هو الذي يصوب الخطأ في الفكر وهو الذي يصوب الخطأ في الممارسة. وضرورة الإصلاح تأتي من وجود خلل بين واقع معاش وبين وعي بتأخر هذا الواقع وتطلع الى تغييره.

2. صياغة وإعداد برامج وآليات عمل تقوم على ربط الفكر بالممارسة والتفكير بالسياسة، على مستوى الحزب ومستوى المجتمع. أن قوة الفكر، لا تنبع من الوصفات السحرية التي يقدمها ولكن من الآفاق التي يفتحها والحوافز التي ينتجها لبعث التفكير عند أعضاء الحزب، ثم أعضاء المجتمع وحث الآخرين على المشاركة فيه وبالتالي تحقيق القدرة على التفكير والمشاركة والتفاعل. وكل هذا يؤدي الى دفع الناس للتفكير في واقعهم واخذ مصيرهم بيدهم, خاصة، وأننا نعيش في واقع تبحث فيه الجماعات عن فرصة إعادة بناء هوياتها حسب معايير الحقبة الراهنة ومؤشراتها (في أوربا اليوم يتحدثون عن هوية أوربية تتجاوز الهويات الوطنية في حين دفعت أزمة الهوية عندنا صوب التناحر والاقتتال والتراجع عن الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية و الولاءات الضيقة مما يحول دون تحقيق المشروع الوطني الذي يطرحه الحزب).

3. لا تنفصل موضوعة الإصلاح والتجديد عن موضوعة الديمقراطية وقد أكد الحزب هذا الارتباط العضوي بينهما. ولكن هذا الجانب بحاجة الى أغناء وتفعيل. فالديمقراطية عملية تراكمية لكي ترسخ مؤسساتها وآلياتها وثقافتها وتصبح متأصلة في العقليات والممارسات، سواء تعلق الأمر بالحزب أم بالمجتمع. وضمن توجه الحزب لتحقيق الإصلاح يبرز السؤال: كيف يمكن انجاز تراكمين متكاملين مترابطين: تراكم اقتصادي لإرساء الديمقراطية على قاعدة اقتصادية, وتراكم سياسي وديمقراطي لكي تصبح الديمقراطية بنية النظام الاجتماعي والسياسي؟. وبهذا نحول دون إخفاق حركة الإصلاح في الحزب وفي المجتمع.

4. إيلاء المزيد من الاهتمام للفكر والثقافة والتخلص من صيغ التلقين واستبدالها بثقافة مناقشة الأفكار والرؤى والمشاريع وتشجيع المبادرات الفكرية الخلاقة القادرة على تقوية الحزب وانتشاره وفتح فضاء للحوار حول وضع الحزب وعلاقته بالواقع العراقي من جهة والمعارف الكونية من جهة أخرى. ولا يكون موضوع الحوار التبشير بالحقائق المطلقة بل البحث والتفكير النقدي. نحن بحاجة الى اختبار قدراتنا على الفهم والعمل , اختبار قدراتنا على الإقناع من خلال الحوار.

5. دلّت التجربة الملموسة في الحزب على أن القيادة تلعب دوراً رئيسياً في عملية التجديد (دافعاً أم كابحاً) سلباً أم إيجابا.. وان التلقي هو السمة الغالبة للقاعدة الحزبية أكثر من المشاركة الفاعلة ارتباطا بالتنشئة السياسية والحزبية والضوابط ونظام الطاعة في بنية الحزب التنظيمية. لذا تقع على القيادة ( القيادات) الحزبية العليا والوسطية مهمة المبادرة في عملية الإصلاح وتحضير القاعدة الحزبية لممارسة دور اكبر في رسم وتنفيذ السياسة وعدم الاكتفاء بدور المراقب أو المنفذ الشكلي لتلك السياسة .
إن اتساع قاعدة المشاركة في الإصلاح والتجديد ضمانة أساسية لنجاحهما,وكل ذلك يساعد في الانتقال من اللغة الوعظية الى اللغة العلمية.

وأخيرا وليس آخرا، أن التجديد ضرورة موضوعية, والإصلاح آلية مناسبة لتحقيقه.. وان التأخر في انجاز هذه المهمة نظريا وعمليا يلحق الضرر بالحزب والمجتمع.

وإذ بات واضحاً أن هذه العملية عسيرة ومعقدة, ينبغي ألتأكيد على أن إدارة التجديد تأتي في إطار الاستمرارية..أي أن بقاء الحزب واستمراريته وتطور نشاطه يشكل أسبقية الأسبقيات. فالتجديد لا يعني النيل من الحزب ووحدته بل الارتقاء بدوره، وان المفهوم العقلاني للحزب السياسي بالمعنى الحديث يقوم على برنامجه السياسي , ويعني البرنامج وحدة الأهداف والوسائل المؤدية الى تحقيقها عبر دينامية تقوم على تكييف آليات العمل بالارتباط مع تغير الظروف. وهنا يتحقق الربط بين عملية التجديد على صعيد الحزب وأشاعة الديمقراطية في المجتمع. ويكون التجديد دافعا لتغيير الواقع نحو الأفضل عبر التحكم في عامل الزمن لتدبير هذا التغيير.

وبذلك يكون الحزب الشيوعي العراقي حقا ًحزباً واقعياً وعصرياً ومتجدداً ورافضاً للجمود الفكري , وبذلك أيضا نحول دون إخفاق حركة التجديد والاصلاح والديمقراطية. فالحزب يمتلك خبرة طويلة متراكمة ومنهج جدلي وفكري علمي، إضافة الى رصيد اجتماعي وسياسي. وكل ذلك يجعله جديرا بالتطور والنجاح والاستجابة الناجحة للتحديات .. إنها أسئلة التجديد المنطلقة من جدل الفكر والممارسة.

أن ألـ (15) سنة المنصرمة من عمر عملية الديمقراطية والتجديد، تشكل تجربة غنية(بنجاحاتها وإخفاقاتها) ومصدرا لا غنى عنه، من اجل الانتقال صوب التطبيق الأفضل لبرامج وتوجهات الحزب والتحقيق الانجح لأهدافه وغاياته.

كل ما ذكرناه يؤكد أن التجديد سيرورة معقدة ومتشعبة وذات خطوط متعددة يساهم بها جميع الذين يهمهم حاضر الحزب ومستقبله, عبر عمل يومي ومراس ذاتي وجهد حثيث, وكلها نشاطات تتراكم لتؤدي الى تحقيق الهدف المطلوب.


الثقافة الجديدة - العدد 326-327 / 2008

 

free web counter

 

أرشيف المقالات