| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 9 / 12 / 2013

 

افتتاحية المدى

أيقونة العصر يودّع عالماً تداعت فيه القيم: نيلسون مانديلا يتحدث صامتاً..!

فخري كريم 
 

اهتزّ العالم المتحضر كله، الأعداء والأصدقاء، لرحيل مانديلا، وكرست ابرز وأوسع وسائل الإعلام برامجها حول الرجل المثل والقدوة، وسلطت الأضواء على مآثره الإنسانية: صبره الجميل على تحمّل مشاق السجن، تضحياته المتسامية، تكريماً لشعبه، ووفاءً لوطنه، مقاومة مناطق الضعف الإنساني، بما يخفي من ضغائن وأحقاد ومثالب لا تستقيم مع الخلق الرفيع وسمات الشخصية النموذجية، واتقاد ضميره الذي تعالى على الجراحات، فآثر انبل الصفات، الإثرة والتواضع والنزاهة والتسامح..!

ظل العالم مشغولاً بمانديلا مذ اصبح "الأبارثيد" او ما عرف بالفصل العنصري، خللاً اخلاقياً هتك ضمائر سدنة العالم الرأسمالي، وعرّى ازدواجية معاييرهم السياسية والاخلاقية، وفضح الدوافع الخفية لدعاواهم حول مزاعم حقوق الانسان والحرية والديمقراطية. وباتت تلك الشعارات، كلما تقادم الزمن على حجر مانديلا والالاف من رفاقه في سجون الفصل العنصري، مجرد لافتات رثة، تفضحها الممارسات الرسمية في رعاية حكام جنوب افريقيا والدول المأسورة الاخرى، المحيطة بها.

وقد كان التناقض بين الادعاء بالاستنكار والرفض، والوقائع الدامغة بتسويق "الابارثيد" دولياً وأينما كان ممكناً عزله، فاضحاً الى الحد الذي أثار موجات من الكراهية في المجتمعات الرأسمالية ضد المروجين من الحكومات مع قادة الفصل العنصري، ممّا أدى في نهاية المطاف الى عزلهم وتشديد الخناق على جنوب أفريقيا ،التي ظل نظامها المارق موضع رعاية ودعم وتواصل في الخفاء.

في السبعينيات ترأست وفد منظمة الصحفيين العالمية لتقصي الحقائق حول الابارثيد، تجول الوفد الدولي خلالها في الدول المحيطة بجنوب إفريقيا والتقى بقادة الدول المناصرة للمؤتمر الوطني، حامل راية الكفاح ضد الفصل العنصري. كان الصراع الخفي بين أجنحة الحركات الثورية في افريقيا بيّناً، بين الموالية لـ "موسكو" وتلك الموالية لـ"الصين"، وقد لعب ذلك الصراع دوراً سلبياً في انضاج شروط الانتصار وتحرير البلدان الخاضعة لنفوذ نظام جنوب افريقيا او المتأثرة بالسياسات المناوئة للتحرر والاستقلال. ورغم ذلك فأن المؤتمر الوطني، بشقيه السياسي والعسكري، كان يستقطب دعماً محلياً ودولياً واسعاً.

وفي تلك المرحلة كان البعث العراقي ونظامه، يعبران عن الانحياز لكل قضية تقع على اطراف الكرة الارضية وفي الجانب الاخر منه، ما دام لا يشكل تهديداً ايديولوجيا او سياسيا لسلطته واطماعه. بل العكس من ذلك، اذ كان يوظف تلك القضايا البعيدة في القارات الاخرى لذر الرماد، وتزكية سياساته الداخلية والظهور بمظهر المناصر لقضايا الشعوب في اطار نهجه وفلسفته الديماغوجية.

ومن هذا المنطلق كان البعث يعلن التعاطف مع كفاح المؤتمر الوطني ضد حكومة الفصل العنصري، كما يخصص مساحة واسعة من سياسته الخارجية للعلاقات الوثيقة مع كوبا. وفي كل ذلك كانت تتضح ملامح النوايا السرية للبعث في وضع البلاد والحركة الوطنية تحت المقصلة المعدة باتقان اجرامي، وعن سبق اصرار وتخطيط.

على محور الكفاح الذي كان يتصاعد حول جنوب إفريقيا، التقينا بكوادر ومناضلين من المؤتمر الوطني. كانت المفاجأة بالنسبة لنا، هذا الخليط من البيض والسود والخلاسيين المتوحدين في بوتقة النضال، دون ان تنال من صلابتهم او تفرقهم الوان البشرة، والاصول العرقية، والخلفيات الايديولوجية والدينية والقبائلية، ودون ان تضعف علاقاتهم اللهجات والأديان والعقائد.

مانديلا، لم يكن فرادة في هذا الإنجاز، وإنما كانت حوله كوكبة من المناضلين، الذين غيّبتهم السجون والمعتقلات والمنافي البعيدة.

ما كان يُميز مانديلا، خصاله التي لم يحد عنها طوال حياته، وما كان يمنحه الحق بالفرادة ، تمثله دون تصنّعٍ او افتعالٍ او ادعاءٍ، للقيم التي تضفي على الانسان إنسانيته، وتحوله الى مثلٍ وقدوة. والانسان يكبر كلما تماهى مع المُثل التي استمد منها خصاله، وحين يتسامى فوق الاعتبارات العرضية في الحياة، ويغدو رمزاً، يستحيل لقوة باطشة أن تنال من قامته، فالطغيان يمكن أن يقيّد حركته، ويحد من حريته في المكان، لكنه يعجز مهما استكبر أو تَهَتّك، ان ينتزع ارادته، ويستفرد بضميره، ويلوث وجدانه.

إن البطل لن يتكامل إلا اذا كان "إنساناً، وكلما هو إنساني ليس غريباً عنه"! هكذا استطاع مانديلا ان يتحامل على جراحه، وهو يذوي "جسدياً" في السجن، وتتآكل سنوات عمره، ويظل محافظاً على قسمات إنسانيته العصيّة على الانكسار.

ولأنه إنسان، عجينته تخمّرت على شعاعٍ لا تحد من تسلله الى بيوت الصفيح والطين ومعازل الفصل العنصري، اعتى قوى البطش والتمييز والتجبّر، التقط لحظة امتزاج ظلال تلك الاشعة في كل الانحاء من جنوب افريقيا، لتشكل فسيفساء وطن وشعب متعدد الاعراق والاديان والقبائل والعقائد، تتمايز فيها مطامح ومطامع واهواء، وتفرقها قيم تتضاد وهي تنحاز لمصالحها الضيقة، وتأكل من رصيد غيرها حد التخمة، لتزيد من جموع العراة والجياع. في تلك اللحظة من حياته المديدة وضع مانديلا يده على شغاف قلبه، واستجاب لتدفقات وجدانه وعقله، وادرك مغزى الانتباه الى ذلك التنوع والتعدد، واستطاع ان يشخص بوعي عميق، انها تعبير عن الكينونة الانسانية، وان تكون كذلك، فليس سوى ان تمسك بخيوط نسيجها، وتجعل منها مقاماً للالوان والاشكال والرموز التي تشكل خارطة جنوب افريقيا، بل مُجسداً للتكوين الإنساني.

بعد ان اصبح رمزاً، رفض ان ينوب عن رفاقه وشعبه وحزبه، ليتفاوض، حتى جاءه التفويض. وعندما قبل التمثيل، لم يطرح ولا مرة واحدة، تحريره من السجن كشرطٍ أو تمهيد!

اصبح نلسون مانديلا رئيسا لكل شعب جنوب افريقيا. واستمد شعاره من طيف الرؤيا التي ادركته في السجن: التسامح، والوحدة. لكنه لم يقايضهما بجوهر قيمه ونزوعه الإنسانية، وظل وفياً لها لا يترك مناسبة دون التأكيد عليها: المساواة والعدالة الاجتماعية..

وحين انتهت ولايته الاولى، امتنع عن قبول ولاية ثانية، منطلقاً من قوة المثل الذي اراد ان يستكمل مسيرته الحياتية به، بل من إيمانه ايضاً بحاجة التجربة الى طاقة الشباب والتجديد، واكثر من ذلك، إحساسه بان ما يخلفه من صواب او خطأ سيكون تقليداً، ولهذا ارسى، وهو يكتفي بولاية واحدة، قاعدة التداول السلمي للسلطة..!

بدلاً من ان يأسره الكرسي، حامت حوله كل كراسي الحكم في العالم ،من اكثرها سلطة ونفوذاً الى تلك الهامشية التي تعتاش على فضلات الآخرين وتتشبث بالكرسي الهزاز المتصدع.. كان رؤساء الولايات المتحدة وأوربا وآسيا وملكة بريطانيا وبقايا الملوك في العالم، يتسابقون على الانفراد به وتناول وجبة عشاء او غداء، او قدح من الشاي الافريقي، والتقاط صور تذكارية معه!
لم افاجأ وانا استمع الى مانديلا وهو يسلم الولاية "ترشيحاً" لخلفه امبيكي.

كان الرئيس الجديد "جاك" مسؤولاً للفرقة الحزبية، للحزب الشيوعي في جنوب افريقيا، معه محمد الخلاسي المسلم، وجيني وود البيضاء. وبعد انتهاء فترة دراستهم في موسكو، عاد محمد الى الوطن، ليلقى القبض عليه، ويُعذب حتى الموت، ثم يُلقى من اعلى طابق في مبنى الامن المركزي.

وكلما اردت ان اسبر اعماق مانديلا لاكتشف تلك البذرات التي كانت في اساس تكوينه، اعود الى ذكريات موسكو في معهد العلوم الاجتماعية "المدرسة الحزبية" واسترجع ما كان يفعله كل من "جاك- امبيكي" الذي اصبح خليفة مانديلا والشهيد محمد والمناضلة جيني وود، وهم يتناوبون بعد انتهاء فصول الدراسة، على زيارة قائد الحزب الشيوعي لجنوب افريقيا، رفيق مانديلا منذ الصبا، لقراءة كتاب جديد له، ولتفقده..!

المشهد الذي لا يفارق ذاكرة إنسانٍ متوازن، مانديلا وهو ماثلٌ كأي مواطن امام المحكمة، مع انه رئيس الدولة، لطلب الطلاق من زوجته ويني. قوة المثل على خصاله الرفيعة، عكسها هذه المرة ايضاً جوابه على سؤال القاضي عن زوجته وسبب الطلاق، فقد دافع عنها ورفض توجيه اي اساءة لها او تعريض بها، متجاوزاً التقولات والاشاعات التي كانت تنال منها ..!

هل كان عرضياً ان تتسابق وسائل الاعلام وقادة الدول على نعي مانديلا وعرض سيرة حياته، وتمر المناسبة علينا، كما تمر اخبار التفجيرات ومئات القتلى والجرحى يومياً..؟

رحل مانديلا عن دنيانا الفانية، مهموماً بصمت الحكيم، وهو لم يحقق للشعب المساواة والعدالة الاجتماعية، وظل التسامح رايته التي تلفع بها في مدفنه.

رحل مانديلا لكن كواسر الرأسمال ولصوص المال العام والفساد ،سيظلون لا يعرفون المعنى الإنساني العميق الوضاء للتسامح..


المدى
العدد (2957) 9/12/2013

 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات