| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                             الجمعة 8/2/ 2013

 

ذكريات لها رائحة الورد
( يحيى عزيز الحميدي )

عدنان اللبان
Wz_1950@yahoo.com

يحيى عزيز الحميدي ( ابو سالار ) تعرفت عليه وقد تجاوز الاربعين , وفي حياة الانصار الفقيرة تكون احدى التسليات محاولة تصغير العمر فيقول انه لم يتجاوز الاربعين الا قليلا . وبالنسبة للنصيرات لم تتجاوز اية واحدة منهن التاسعة والعشرين عاما حتى وهي تتحدث عن مشاركتها في ثورة العشرين . كانت مفارز الشيوعيين هي الوحيدة التي تضم بين صفوفها نصيرات , وكن موضع اعجاب وترحيب وبعض الاحيان اندهاش من العوائل الكردية . وتصادف ان تكون مع المفرزة رفيقة واحدة , وعندما تستضيفنا بيوت القرية كانت العوائل تريد ان تكون النصيرة ومن معها عندهم , وكنا نتسابق ان نكون مع احدى النصيرات , وهذا يعني ليس الترحيب الجيد فقط , بل ووجبة طعام جيدة ايضا .
انشغلت الرفيقة مع ابناء البيت , وبعض النساء والأطفال من بيوت اخرى جاءوا يرحبون بها , ويتمتعون بقربها وقد وضعت الكلاشنكوف بقربها , وهي تحدثهم عن الثورة والحزب وضرورة الوقوف بوجه النظام البعثي الفاشي , ومن الملفت للنظر ان اغلب الرفيقات تحدثن الكردية بسرعة كبيرة . اخذت تنصحهم ببعض الملاحظات الطبية , وتقدم لهم بعض الادوية المتوفرة في ( عليجتها ) لمساعدة بعض المرضى . في هذه الفسحة التي منحتها لنا انشغالات الرفيقة , سألني ابو سالار عن قصيدة لأحد الرفاق سمعّنا اياها في الليلة السابقة .
أجبته : لا يوجد فيها اكثر من بيت شعري واحد , وقد نظم قبله عدة ابيات وبعده عدة ابيات وسماها قصيدة . وهو يعتقد انه ما دام نصيرا يمكن ان تكون جميع اعماله جيدة , ويعتقد ان الروايات التي تتحدث عن عظمة الانصار والتي قاومت الفاشية في الحرب الثانية هي كل ما كتب عنهم , وليس هناك الكثير من الكتابات الفاشلة , او التي اريد لها ان تفشل .

كان يتهيب ملاحظاتي حول الشعر , وبعد الظهر عند عودتنا من سهل شهرزور الى المقر الذي يبعد ثمان ساعات سيرا على الاقدام , وانتظارنا لعبور احد الشوارع الرئيسية ويكون عبورنا في فترة الغروب او بعده لعدم تمكن مفارز السلطة من مراقبة الطريق بعد الساعة الرابعة عصرا , وجدته متريثا في رغبته اسماعي احدى قصائده - كان شاعرا شعبيا -, واخذ يشرح لي القصيدة قبل ان يسمعني اياها . ابو سالار امين وصادق لا يعرف الكذب , وحتى في بعض الحالات التي يريد بها ان يطمئن صديق او رفيق ب( كذب ابيض ) سرعان ما ينكشف . انعكست هذه الصفات في شعره , كان يمتلك تلقائية في توارد الصور الشعرية تطغي على باقي المكونات الاخرى للقصيدة , وتكون قصيدته متعثرة لو حاول ان يكملها بعد التدفق الاول , الذي يأتي في هبّة تمنح القصيدة خصوصيتها وجمالها , وهو اهم ما يمتلكه في قدرته الشعرية . وعليه ان ينمو في داخل هذه البراءة , ويبتعد عن تحميل القصيدة ما يشي بثقافته , لأنها ستكون اشبه ب(الكذب الابيض ) .
في البيشمركَة تقليد , وهو عندما نأتي الى المقر نأخذ استراحة من الواجبات لمدة ثلاثة ايام , الا اننا في اليوم الثاني كلفنا معا بنقطة حراسة تقع فوق ( هزار ستون ) وهو اسم المقر , وهي قمة متوسطة من بين عدة قمم تلي مباشرة سلسلة الجبال التي تشكل الحدود بين ايران والعراق وبين امتداد سهل شهرزور . " هزار ستون " تعني بالكردية الف عمود , وهو شكوت ( مغارة ) ترتفع لما يقرب عشرين مترا , وفيها عدة اعمدة , وتمتد الى نهايات متعرجة , يتحول بعضها الى دهاليز دائرية قاسية لا تعرف نهاياتها . كانت المغارة باردة في الصيف وفي الشتاء تتمتع بدفئ نسبي , كانت مستوطنة للعضايات والأفاعي , وآلاف الخفافيش التي تتدلى بسيقانها عند الغروب من سقف الشكوت بانتظار حلول الظلام لتنطلق . كان على جانب المغارة الكبيرة مغارات الصغيرة , استخدمت احداها كمخبز ووضع فيها التنور , والأخريات سكنت فيها بعض عوائل الرفاق كشقق كنا نحسدهم عليها .
كانت واجهة المغارة باتجاه الجنوب الشرقي , وهذا ما حرم الجيش العراقي من اصابتها بالمدفعية , ويفصلها عن الجبل الذي يقابلها وادي حاد الانحدار يضيق عند المدخل ليصل الى عشرين مترا , كنا نأخذ الماء من العين في الجبل المقابل بعد ان وضعنا " صوندة " على حبل يربط بين الجانبين . كان عرض العمود الوسطي في واجهة الشكوت ( المقر ) مترا ونصف المتر , ويكاد ان يكون مستويا , تمكن ابو سالار وهو رسام ايضا من صنع سلم بدائي ورسم شعار المنجل والجاكوج في منتصفه , اي على ارتفاع عشرة امتار . وعندما استولى الجيش العراقي على المقر , وضع صورة الخميني تحت المنجل والجاكوج وعرضها في التلفزيون العراقي كدليل على عمالة الحزب الشيوعي العراقي للنظام الايراني .

الحراسة في البيشمركَة ساعة واحدة , والساعتان الاوليتان بعد الغروب التي قضيناها سوية انا وابو سالار في النقطة التي فوق المقر حدثني فيها عن صعوبات خزن المواد , كان اداري فصيل هزار ستون , والفصيل لا يعرف عدد محدود من الانصار ولكنه لا يقل عن عشرة رفاق , كان ابو سالار حريصا في توزيعه للمواد الغذائية وفي كيفية الحصول عليها , وايجاد الطرق الصحيحة لخزنها وإنقاذها من التلف . حدثني عن ضرورة خزن الرز في اكياس تكون مرتفعة اكثر عن باقي المواد مثل العدس والحمص لتحاشي اكله من قبل الفئران .
سألته : وكيف عرفت ان الفئران تحب الرز ؟!
اجاب : من الضروك , لان لونها ابيض وفيها رائحة عنبر .
اجبرنا في احدى المرات ان نعمل اربعة مستطيلات صغيرة مستوية في انحدار الوادي ليزرعها بالخضروات التي تنقصنا , وكان موفقا في ذلك . وزرع احد هذه المستطيلات ببذور الخيار , وفرض علينا مداراته اكثر من غيره , وحرم علينا الغسيل في داخل المقر لقلة الماء الذي يأتي في " الصوندة " وضرورة سقي الخيار يوميا . ومع دفئ الجو نبعت بذور الخيار , وبعد اسبوع اخذت تكبر بشكل جنوني , وأوراقها اصبحت اكبر من ورق التين . وتبين انها " يقطين " وليس خيار والبذور كانت تتشابه . لم نكتفي بالشماتة باليقطين , بل زرعنا في اليوم الثاني عدة ازواج من الاحذية السوداء النايلون ( سمسون ) لغاية القيطان .
وأخبرناه : باننا سنحتاج في الشتاء الى ( جزمات ) , ونستطيع ان نقطفها حسب الاحجام التي نحتاجها عند نموها . استمع الينا لغاية ما اكملنا , ثم ثار وأراد ان يقلع كل ما موجود في المزرعة لولا توسلنا الذي تمكن اخيرا من تهدئته.

عند عودتنا من نقطة الحراسة استمر حديثنا في الغرفة المصنوعة من النايلون لتحمينا من الافاعي والقوارض , كانت تكفي لعشرة اشخاص ويزدادون الى عشرين عند الضرورة . فهمت منه وهي المرة الاولى وقد مضى على علاقتنا سنتين , لأنه لا يحب الحديث عن نفسه اولا , وثانيا ضرورة اخفاء المعلومات الشخصية حفظا على سلامته وسلامة عائلته ,فقد كان معلما ناجحا , ومساهما في اغلب الفعاليات الثقافية والاجتماعية في مدينته , وهو ما جعل النظام يحقد عليه اكثر من غيره . ترك عند التحاقه بكردستان اربعة اطفال وزوجة وأم وأب وثلاثة اخوات واخوين , الاول معوق , والثاني اغتيل من قبل السلطة , تركهم هو وشقيقه المهندس ابو سهيل ( نعمة ) الذي كان من الكفاءات الهندسية الجيدة , وقد نصب اذاعة الحزب " صوت الشعب العراقي " واشرف على ارسالها طيلة سنوات بثها .

ابو سالار منسب للعمل في تنظيمات الداخل , والمسئول الاداري لمقر هزار ستون المعروف بكثرة فاعليته وضيوفه , ولم يكن عليه المشاركة في العمليات العسكرية الا انه يصر على المشاركة في بعض الاحيان . الانصار كانوا يستأنسون كثيرا برفقته , كان لا يأبه كثيرا بإجراءات الحذر في كثير من المواقف الخطرة مما يمنحهم الهدوء والتحكم بالموقف اكثر , كان يتفقد الآخرين في اللحظات الخطرة حتى ولو بالتفاتة او بنظرة مطمئنة , وهذا ما جعل البعض يشعرون بابوته لهم . حدثني ابو سالار عن الفراغ الذي شعر به بعد ان نكل به النظام عندما اودعه في زنزانات الامن . يقول ابو سالار : كنت اسير في المدينة التي لم ارتوي من حبها , وغمامة من الضباب تلفني ولم اعد ارى شيئا , كنت ادخل الى البيت منهكا , لم اتمكن من ان اطلب الغذاء رغم الجوع الذي لم اعد اهتم به , كنت لا استطيع النظر في عيني ابني مباشرة , كنت اتخيله كبيرا ويتهمني باني تخليت عن كل العلاقات التي تربطني بمدينتي وتجعلنا فيها عائلة كبيرة واحدة , وهو سبب افتخاره بي , والسبب الذي يملؤني فخرا بأبوته . كنا قبل البعث فرحين ببعضنا , وهو لا يدرك سر اخلاصي له , فلا يزال طفلا وأنا اتمزق لأنني اصبحت متروكا على الرصيف , لا اريد ان اكون مثل الآخرين , انه ابني ومن حقي ان امزق كل شئ يحرمني من صدقي في ابوته .
اين انت يا ابو سالار ؟!
اين انت في هذا الزمن الذي استبدلت فيه الكرامة بالارتزاق .

استيقظنا صباح اليوم الثاني على صوت صياح ومشاجرة بين رفيقين , الاول من اهل بعقوبة يدعى صباح وكان قد امضى فترة طويلة سجين في زنزانات الامن , خرج وهو يحمل آثار التعذيب , رعشة في جسده وخاصة في رقبته , والآخر كان يعمل معاون آمر سرية . وسبب الشجار , ان الاول استلم الحراسة من الثاني في النقطة القريبة من المقر , وقد شم رائحة كريهة , واتهم الثاني بانه خاف من الذهاب الى ( المرافق الصحية ) التي لا تبعد اكثر من عشر خطوات اخرى . الثاني انتفض لهذا الاتهام وأعاده اليه .
وبين الانفعال , والسباب , والحجز بين الطرفين , ومحاولة تهدئتهم صرخت بهم : باني سأعرف الحقيقة خلال خمس دقائق , واعرف من الذي فعلها .
سكت الجميع , وتفاجأوا , ووجوههم تضج بالسؤال : كيف ؟!
.. انتظرت لحظات , وطلبت من ابو سالار ان نذهب لمعاينة مكان ( الجريمة ) , ومثلما ميز اكل الرز من قبل الفئران , سيعرف من فعلها ... تحول الموقف بلحظات , وبدل الحجز بين الاثنين , شاط ابو سالار , وقذفني بنظرات نارية , واخذ يدمدم بكلمات متلاحقة لا احد فهم شيئا منها .. لحظات , تناول بندقيته بسرعة كبيرة , ووجهها الي , وأطلق رصاصة واحدة وسط ذهول الجميع , كان صدى صوتها في المغارة اكبر من صوت قنبلة .. استعدنا وعينا , وأنا لا اعرف هل جرحت ام لا , , الجميع مشدوهون ينظرون الى جانبي , التفت , وجدت افعى كبيرة وقد تمزق رأسها . ذهبت اليه , قبلته , استعاد الجميع الهدوء بعد اللحظات الصاخبة ..
اخبرته : هل تعرف اني كنت خائفا منذ رفعت بندقيتك ووجهتها الي ؟ كنت افكر ماذا سيكتب عني في الرثاء ؟!
فكرت اسرع من سرعة الطلقة : استشهد في عملية انصار ؟ ام في الداخل على ايدي القتلة البعثيين ؟! ماذا سيقول الحزب ؟ وهي ولا اية واحدة من اسباب الاستشهاد ... ضحك وكأنه لم يضحك في حياته من قبل ... وانشغل الجميع بماذا سيوصف ( استشهادي ) ؟ وذهبنا لمعاينة مكان الجريمة , وعرفنا ان الحمارة صبحه هي التي فعلتها , وصاحبنا ضعفت عنده الحواس بسبب بقائه الطويل في الامن , والتبس عليه الامر .

ابو سالار ( يحيى عزيز الحميدي ) اعدم من قبل النظام البعثي الفاشي , بعد ان وشى به احد الخونة المندسين , عندما نزل من كردستان واخذ يعمل على اعادة التنظيم في مدن الجنوب , وباستشهاده رفع اسم مدينته عاليا , المدينة التي نعتبرها احدى الثروات الوطنية التي رفدت الحركة الثورية بخيرة ابنائها وشبابها , انها السماوة البطلة .

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات