| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                             الأربعاء 07/11/ 2012

 

وفاء المحزون
 

بمناسبة مرور ستين يوماً على رحيل شريكة حياة صديقنا العزيز كريم السبع لبى عشرات من الأصدقاء دعوته الى لقاء جميل المغزى تصدرته صورة الفقيدة الغالية . فتحدث عن شمائلها وهو يغالب العبرات ويكفكف ما طفر منها أحيانا ...
                                                                                       ثابت


من ذكرياتي مع الفقيدة الغالية عماد أسرتي, نضال جواد كمال الدين:

أعزائي الحضور الكرام,

شكراً جزيلاً لحضوركم ومشاركتكم لمشاعرنا, و قبلها موآساتكم لنا بمصابنا الأليم بفقدنا الغالية أم عشتار. وبمرور ستين يوماً على رحيلها القاسي, أسمحوا لي أن شارككم بعض ذكرياتي معها بالأيام الحلوة والأيام الصعبة, وأرجو ان لا أثقل عليكم.

أم عشتار شريكة حياتي وبوصلة دربي لسبعة وثلاثين عاماً, عرفتها أنسانة متواضعة, قليلة الكلام والأسئلة, واقعية وتتحسب لأسوأ الأحتمالات, صبورةً, مضحيةً ومحبةً للآخرين ومساعدة لمن يحتاج منهم.

تعرفت عليها في خريف 1975 عن طريق أحدى العوائل الصديقة, وبعد الخطبة بأشهر قليلة صدمت صدمة قاسية بمقتل أخي حافظ في صيف 1976 على يد عصابة البعث لرفضه الأنتماء لهم أذ كان قد درس الهندسة في مانشيستر على حساب الجيش سابقاً. فمادت وأظلمت بي الدنيا, عندها سندتني أم عشتار لتعيد لي توازني وتماسكي الضروريين.

بعد الزواج بأشهر أوفدتُ الى اليابان لسبعة أشهر ضمن مجموعة, فأستأذنت الشركة لسفرها معي على حسابي الخاص, فكانت أحلى أيامنا رغم كوننا على طرفي نقيض في التسلسل العائلى, فأنا الأصغر بالعائلة أي المدلل بينما هي ألأكبر أي المسؤولة, فكانت فترة تأقلم بيننا ثم تفاهم, وساعدنا على ذلك بعدنا عن الأهل أو الأصدقاء والمعارف وتأثيرهم.

من طريف ما أتذكر, بالأضافة الى أنبهارنا بكل ما شاهدناه في طوكيو المزدحمة وأضوائها الساحرة وحياة أهلها, فوجئنا بمأكلهم وغرابته عن مأكلنا الشرق أوسطي والقريب من المأكل الغربي حسبما نراه بالأفلام ومسلسلات التلفاز. وبعد تذمر بعضهم من تكرار نفس المأكل يومياً بالمطاعم أو فندق السكن وخاصة الدجاج لوفرته ولندرة المواشي لقلة أراضي الرعي, ولكون أم عشتار المرأة الوحيدة بيننا, كانت تدعوهم لطبخات عراقية بشقتنا المتواضعة, وفي حالة عدم حصولنا على لحم الغنم, تلجأ أم عشتار الى ما يشبهه وتغرقه بالتوابل وغيرها مع التمن بحيث تصعب معرفته, فكانوا ياكلون ملياً وبشهية مطمئنين بكونه لحم غنم, شاكرين ضيافتها النجفية.

بعد العودة للوطن وأضطراب الأمور السياسية بعد عام 1978, طُلب مني أخفاء أحد قيادييّ الحزب لم أعرفه من قبل, في دارنا لكوننا حديثي السكن في المنطقة وغير معروفين, فترددت خوفاً وحرت في الأمر. وعند مشاورتها بقلقي هوّنته أم عشتار وبادرت بالموافقة (رغم كونها غير حزبية), موضحة أن الطابق الأعلى فارغ و به حمام وليست لنا أية علاقة بالجيران ونحن أكثر النهار بالعمل, فأين المشكلة؟ وهكذا مشت الأمور بسلام لبضعة أشهر, أي لحين قرار الضيف أن يغادر, فيالها من تضحية خطرة وخيمة العواقب .

وعند أشتداد حملة تبعيث المجتمع والحياة عامةً, طرحت أم عشتار فكرة السفر الى الخارج قبل فوات الأوان, فكانت تعتبر أن الأنتماء لعصابة البعث موقف مرفوض أخلاقيا قبل أن يكون سياسيا. فياله من تشخيص دقيق وصائب! وبفضلها تم السفر ألى ليبيا صيفَ 1979. لقد كانت فترة صعبة وقاسية متنقلين في طرابلس ومعنا الرضيعة عشتار بين ستة فنادق بائسة أضافة الى دار أحد الأصدقاء, لحين حصولي على عمل جيد وبالتالي سكن جيد في بنغازي.

في محطة ليبيا المتعبة والتي أمتدت 12 سنة, كانت الأمور السياسية في الجالية العراقية محدودة العدد متداخلة مع الأجتماعية والعائلية, مما سبب الكثير من المشاكل والمتاعب, ولكن بفضل صبر و نضج ام عشتار تفاديناها قدر الأمكان. فكانت تسمتع وتراقب وتحلل الأمور صامتة, واضعة نفسها على مسافة متساوية من الجميع أولاً لحين الفرز, رغم موافقتها على أستضافة عدد غير قليل ممن يحولون الى بنغازي بحثاً عن عمل لحين تدبير أمورهم, حيث كانت مشكلة السكن من أعقد المشاكل.

وما زاد معاناة أم عشتار خلال تلك الفترة, هو بداوة المجتمع الليبي الذي أجبرها على التنازل عن أختصاصها كمهندسة لتغدو ربة بيت مرغمةً لغرض تمشية الأمور, وكانت الأشتراكية المشوهة للمجنون القذافي تجعلها تقضي وقتاً طويلاً بالطوابير المتعددة لتدبير المواد الغذائية الضرورية وحاجات الأطفال. ولكن وبغية ترطيب جو الحياة الجافة في ليبيا, كانت أم عشتار ترحب بدعوة من نرتاح لهم في أمآسي الخميس, حيث المشروب "المحلي الصنع" وما تجود هي به من مزات وطبخات حسب أجتهادها, حتى سمّى أحد الأصدقاء طيبي الذكر تلك الأمسيات "قبول أم عشتار".

عند فشل مغامرة الكويت المجنونة وما أعقبها من دمار شامل وفقدان الأمل بالعودة, أصرت أم عشتار على التغرب مجدداً والمجئ لبريطانيا صيفَ 1991, فبدأنا معاناة من نوع آخر, من أيجاد سكن مؤقت في السنة الأولى ألى أيجاد المدارس الجيدة للبنات لغرض السكن قريباً منها, ذلك أقترحت هي مراقبة المدارس بمختلف أحياء لندن, لرؤية تنوع طلابها وسلوكهم أثناء أنصرافهم, أضافة الى الأستفسارات العديدة عن أكثر الأمور وذلك لضمان تعليم وبالتالي مستقبل جيد لهن.

بعد أن طالت الغربة كثيراً, عملت أم عشتار على دعوة والديها المسنين للأقامة معنا خلال العشرسنين الأخيرة, لضمان حياة مريحة كريمة لهما وتوفير المتابعة الطبية الدائمية التي تتطلبها الشيخوخة, رغم تقدم العمر بها هي نفسها وتوعك بل تردي صحتها وخاصة خلال العقد الأخير, فأثبتت بهذا أنها فعلاً أبنة بارة أوفت ما عليها من دين أنساني لوالديها, فكعادتها كانت تضحي بنفسها دائماً وتبادر بالتنازل قبل غيرها عند الضرورة.

في فترات غير قصيرة من حياتها, تحملت الفقيدة أم عشتار الكثير من الألم والمعاناة, ولكن بصمت ودون شكوى أو تذمر لكني كنت أحس بها بقيت للأسف عاجزاً عن تخفيف ألمها, بل أنها صادقت الألم بعقد هدنة معه ما بين مد وجزر لكثرة مرافقته لها منذ شبابها... حتى مرضها الخبيث اللعين مؤخراً, تقبلته بواقعية شديدة وبدون أي وهم أو أمل فارغ, مفضلة أختصار الطريق لتقليل معاناة أفراد العائلة من حولها قبل تقليل ألمها هي, فرحلت سريعاً وبصمت كعادتها ودون ضجة تذكر. رحلت مبكراً قبل أن تحقق حلمها برؤية العراق ثانية بعد هذه الغربة الطويلة حيث حالت الظروف دون ذلك, رحلت قبل ان تكحل عيناها برؤية حفيدتها التي طالما أنتظرتها بشوق ولهفة...

يا له من حظ عاثر و زمن غادر, ذلك الذي غيّب تلك الأبتسامة الهادئة وأطفأ تلك الشمعة الوضاءة مبكراً جداً, ويا له من درب موحش هذا الذي تركتني فيه لوحدي...

وخالدٌ ذكركِ دوماً يا نضال...

أعزائي الحضور, شكراً لإصغائكم.


 
لندن 4/11/2012




 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات