| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                     السبت  7 / 12 / 2013

 

سيبقى نجمُ احمد فؤاد نجم بازغا

حارث النقيب

رحل قبل ايام احمد فؤاد نجم، الشاعر الذي سطع وهْجُ نجمه في فضاء الضمير والوجدان العربيين، مغنياً لوطنه الكبير مصر ولمواطنيه المسلوبين لقمة العيش والحرية والكرامة، غنى بكل جوارحه واحاسيسه الصادقة حدَّ النخاع، غنى لوطنه الاكبر العربي ومواطنيه الملتاعين والمستباحين في كل شئ من قبل انظمة فاشلة في كل شيئ وفاشية بحق كل شيئ. غنى للانسانية كتجلٍ لنبل معاني رسالته وانسانية قيمه. فان ذهب جسدا فسيبقى معنىً للملايين بما طرز من قصائد غَنَّتْ وستبقى تُغني بها ارواح وقلوب وضمائر الملايين من العرب. شَكّلَ مع الراحل الشيخ امام ثنائياً، استطاع ان يشذب وعي الانسان العربي، ويشير الى البوصلة الصحيحة الواجب الاهتداء بها دون عناء كبير. ولدى خروج ملايين المصريين لاجبار جمال عبدالناصر ـ بدل محاسبته ـ في التراجع عن قرار إستقالته إثر هزيمة حزيران، مأخوذة بسطوة العواطف اكثر منها مواقف تلقي الضوء على الخلل الفعلي الذي قاد الى الهزيمة والمتمثل في افتقاد القيادة العربية والمصرية وعلى رأسها ناصر ، للفكر المرشد والدليل الذي لا يُلقي بصاحبه في دروب التيه والضياع ـ كما تاه كثيرون ـ تلمسَ الثنائي نجم وامام هذه القضية الاساسية بعقليهما ووجدانهما، وبدأت القصائد المغناة تأخذ طريقها الى عقول المواطنين المصريين والعرب قبل افئدتهم ، واخذت تقرع ذهن المواطن منبهة اياه الى زيف الشعارات وفراغها وخوائها، وان قادة السفينة لا يجيدون العوم حتى في المياه الضحلة ، وغَيَّرا بذلك اتجاه سير الشارع المصري بالاتجاه الصحيح ، فكانت مكافأتهما بطبيعة حال الانظمة وحلها، السجون التي لم تفل من عزيمتهما. وبدأ المواطن يستفيق من صدمته ويرتب اموره ، بادئأ مشوارا جديدا عشناه وعايشناه وشاهدناه ، خصوصا بعد ان استولى قائد الردة والانحطاط في مصر انور السادات على مقاليد امورالبلاد. وبعد ما اعقب الهزيمة من انقلابات عسكرية في العراق وسوريا وليبيا والسودان ، وجملة ترتيبات في منطقة الخليج وعمان ، كان هدفها وأد الثورة التي تَقُضّ مضجع المصالح الغربية خصوصا بعد تجذر فكرها وتصحيح مسارها.

استطاعت قصائد احمد فؤاد النفاذ الى وعي ووجدان الضمير العربي بالرغم من كل ما اقيم وشيد من اسوارٍ وموانعٍ لتقنين المواطن وتدجينه. لانها المعبرة عن هذا الضمير والوجدان بصدق الصورة التي تنقلها القصيدة الشعبية وذلك لصدق المعنى الذي تترقرق وتتهلهل به كلمات تلك القصائد التي كانت تؤرق سكينة ليل الانظمة العربية القائمة اساسا على هاجس الخوف والرعب من القادم.

كنا نحفظ العشرات من تلك القصائد عن ظهر قلب لمجرد سماعها. ويكون شريط الاغاني تتبادله عشرات الايادي من المعجبين بها والمجذوبين نحوها في ظل سياسة المنع في هذا الوطن الكبير، وليس غريبا ان يكون لنجم قصيدة تحت عنوان"ممنوعات". حين كنا في جامعة بغداد ، وقرر الاتحاد الوطني وقتها اقامة حفل لقسمنا "الاقتصاد السياسي" فعرضوا "برنامجا" خاويا ـ فالفكر الخاوي لا يلد إلا خواءاً ـ فأبدينا استعدادنا انا وطالبة شيوعية ، رغم اننا غير معروفين لديهم ، بأن نقدم فقرات غنية بمحتواها، وملأنا بذلك فراغا من فراغاتهم. قَرأتُ قصيدة احمد فؤاد نجم "بلدي وحبيبتي" كاملة وهي بما تحمله من صور متضادة ، تتحدث عن الحب والوطن والجمال والخضرة والامل، تتحدث كذلك عن رجال واجهزة الامن كثيران وكلاب صيد وعن الزعيم الذي اسماه بكلب الصيد ، امام ما يقرب من مائة وخمسين طالبا وفي ظل ذلك الارهاب الشديد إلا ان التصفيق كان اشد ، وعند انتهاء الحفل ، اُعلن عن جائزة تكريمية ، عبارة عن قلم باركر ، لكن سرعان ما تحول الوعد الى وعيد والمكافأة الى تهديد ، نقله لي حازم الشعلان لا غيره كأحد ابرز بلطجيي الاتحاد الوطني بكل وقاحته وجلافته وعنجهيته ، قبل ان تُعِّدَه ال سي.آي.إي كأحد خدامها، وقبل ان يصبح وزيراً ومن ثم لصا كبيراً. فكان تكسير الرؤوس هي سياسة البعث الوحيدة المطبقة بوجه الاخرين.

كان اكثر ما شد الشارع العربي وحتى الجاليات العربية في بلاد المهجر، تلك الثنائية التي التزمت قضايا المواطن المعيشية والمصيرية مكشوفة على حقيقتها دون اقنعة وبلا زيف، وكان الالتصاق بقضايا الشعوب، وفي مقدمتها الشعب المصري ابرز ما ميّز شعر فؤاد نجم، ورفعه الى صفوة انبياء الفقراء والمعدمين، فانشدَ للعامل والفلاح والكاسب والمعدم والجندي ولاصحاب السواعد السمر، عاش معهم وبينهم كمعدم وفقير طيلة حياة حافلة بكفاح ما عرف المسايرة ولا المهادنة ولا التبرير ولا لي اعناق الحقائق، لم يمالئ المحتالين والمحتلين والمنافقين والمتلونين، لم يختزل مصر كوطن بنظامٍ كالاخرين، دافع عن الجندي والضابط والجنرال المصريين ولم يعتبرهم جيش هذا النظام او ذاك او هذا الزعيم او ذاك، ولم يطالب بحله، بل هو جيش مصر الذي دافع عنه لاخر نفس في حياته. لم يفقده تتابع الانظمة وتواليها الاعتقاد الاصيل بأصالة الانتماء للوطن ورفعة المواطن وقدسية حريته، وان الوطني الحقيقي هو من ينتمي الوطنُ اليه وليس العكس. ما شتم حاكما ثم هرول اليه آملا ببعض فضلاته، ولم يدافع عن كل قضايا الكون وهرب من وجه قضيته، بل كانت الهدف الذي ما غاب لحظة عن ناظريه التي وهن البصر فيهما إلا ان بصيرته كانت اقوى وانفذ في تلمس اللحظة والقادم، لم يذرف الدموع على الاخرين وينسى ابناء جلدته، لم يغني بنفسجه المقدس ويزني به زهوا بسبابة تلتاث بلوثة لا تمحى، لم يغني لمُحتلْ بلاده، لم يفكر لحظةً في أنَّ بامكانه أنْ يفكر ولو مرة لاعتبار قتلى غزاة بلده بانهم شهداء مصر، بل كان وظل كما قال الشاعر النواب يصف الضابط المصري الذي وجه رصاص بندقيته ضد اول طائرة امريكية هبطت ارض مصر بعد سياسة الاستسلام فاردوه قتيلا:
"ليس بين الرصاص مسافة
انت مصرُ التي تتحدى
"

وهذا هو الوعي حد الخرافة...
هكذا كان احمد فؤاد نجم خرافيا في وعيه بل ومجنونا في امتداد عمق هذا الوعي ومداركه. لم نره يوما يعتاش على موائد الزعماء والملوك والشيوخ اصحاب الخاءات "الوسخة" بعد شتمهم. عاش زاهدا وغنى للزهاد مثل (هو تشي منه) و(جيفارا)، وقف مع المقاومة في العراق وغزة و لبنان، ولم يلحد ويحيد في رؤاه عن اعتبار القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع فانشدَ لها بأعذب ما تنساب به قريحته، واضافت انامل الشيخ إمام رحيقها لتلك العذوبة وهي تداعب اوتارها فانبجزت آيات من صور الخلق والابداع هما خليقين بها.

كانت فلسفة السخرية ابرز ما ميز شعر فؤاد نجم في النيل من سراق قوت الشعب وبائعي قضاياه وخائني وطنه ومواطنيه المستغفلين لشعبهم الذي ما غفل يوما ولو غفا لحظة، وهي مبثوثة في معظم قصائده، مذكرا بنهج الجاحظ وفلسفته في ذلك. فـ شرفت يا نكسن بابا وديستان والست جيهان والسادات وميكي وغيرها كثير، لكن ابرزها بيان هام، التي قضت المحكمة العسكرية بحبسه عاما بسببها، وقُدمت عام 1980 كمسرحية من قبل فرقة اتحاد الشباب الديمقراطي المصري في دمشق على مسرح القباني.

سيبقى احمد فؤاد نجم حتى بعد رحيله الى جانب هموم الناس وقضاياهم بقصائده وازجاله ومواقفه، لانها تحمل امانيهم وتَعّبُر باحلامهم التى كافح معهم لتحقيقها.




 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات