| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 6 / 4 / 2014

 


أبن ربّيه

غازي صابر

الى روح صديقي ورفيقي الذي أشار لي على الطريق

كان الشباب الثلاثة الأقوياء يحيطون بي إحاطة الأسوار بالمعصم . أحدهم يحمل بيده عصا غليظه أما الأخران فكل منهما يحمل كيبل من المطاط .كانوا ينهالون عليّ بالضرب وكنت كلما تدفعني قوة الضربات بأتجاه أحدهم يركلني للحلبه فيجهز زميليه علي بالضرب . اما رابعهم فكان يجلس خلف منضدة وقد إتكأت عليها بندقية ومخزن إطلاقاتها ملقى على المنضدة ، كان نظري يسقط على الإطلاقات المحشوة في المخزن كلما صاح بي :
ــ إعترف يا ابن الكلب وقل من علمك التهجم على الحزب والثورة .

كان جسدي مثل كرة يلعب بها الأخوة الثلاثة بما يحملونه بأيديهم وأحياناً بأقدامهم إن تطلب موقف بقائي وسطهم .أما عقلي الذي إنفصل عن جسدي من كثرة وقوة الضربات فقد ظل يحدق بالإطلاقات المحشوة بالمخزن . كنت أعرف من لقنني ما كنت قد أمنت به لكن أبي كان بكامل هيئته يقف أمامي وهو يردد :
ـ يسقط الإنسان عندما يخون العيش والملح .

الإطلاقات المحشوة في مخزن الرشاشه هي من ذكرتني بتلك العجوز وهي تحضر بأبتسامتها وفمها الذي فقد كل أسنانه تقريباً وهي تناشدني هل تقبل بأخيك وهو يستهزأ بما أطبخه له . كان رفيقي عبد الحسين يدعوني كلما طبخت إمه باميه مع التمن ، كان كثير المزاح معها فيقول لي :
ــ اليوم سنأكل طلقات ربّيه وذاح ، كان هذ اسم والدته ،هذه الأم التي لا تقوى على شراء الا الباميه الكبيرة والطويله لأنها رخيصه .

في مدينتنا مدينة الفقراء وبأزقتها الترابيه ومساكنها الحزينه جمعتني صحبة أبناء الجورة بصديقي ثم رفيقي عبد الحسين والذي اطلق عليه بقية الشبيبه ابو الجيج . لم أسأل يومها عن ماهية هذه التسميه لكن الذي أعرفه إنه كثيرأ ما يتحدث بلغة فصحى وبعبارات ومفردات حالمه وجميله ومفعمة بالأمل .كنا فتياناً نخطو خطواتنا الإولى نحو الشباب حيث مبادئ الرجوله والفروسيه وكان يدعونا لسماع أغاني فيروز لما فيها من جمال وأصاله ، وحتى عندما نفترق في نهاية الأماسي كان يودعنا متمنياً لنا أحلام وغداً يختلف عن سابقه وكان يبالغ في الوصف فكان يضحك منه من يكون بصحبتنا .

يهوى رياضة الجري ويتمرن دائماً في الساحة القريبه من شارعنا . كان يعمل شرطياً في خدمة الخيول (سائساً) وعندما يحدثنا عن الخيول وجمالها وقوة أجسادها، كثيراً ما يأخذه الإنفعال ويردد :
ــ إنها كائنات جموحة وأسوارنا هي التي تحدد من حريتها وتحبسها في الأسطبل إنها خلقت لكي تجمح وتنطلق في الريح . ثم يقول نحن الفقراء لدينا قوة لا تقاس لكن هناك من سرق غلتنا وحبسنا في هذه المساكن المتعبه ولقنونا معارف وقيم باليه منحتنا البلادة والتخلف . آهٍ لو نعي حجم قوتنا وننطلق فأننا سنصنع ما لا يتصوره العقل .

في بيته المتعب والمكون من غرفتين واحدة له مع إمه والإخرى لأخيه وزوجته . كانت ربّيه وذاح تشكو لي وضعها الصحي وهي تتمنى ان أقنع أخي عبد الحسين هكذا كانت تسميني بفكرة الزواج حتى تفرح به وترى أطفاله قبل أن توافيها المنيه .

وحلت العواصف بالعراق بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي ،عواصف صفراء وحمراء غطت صفحة السماء وبتنا نعاني عدم الرؤيه فهجمت على بيوتنا المتعبه عناكب وعقارب وأفاعي سامه ، كانت تخطف الشباب من بيوتهم والأزواج من أحضان زوجاتهم وتسحب الفتيات والنساء الى البيوت المظلمه لتقدمها الى الذئاب المفترسه في سجون الطاغيه .

وفر رفيقي من ليل الطغاة صوب جبال الشمال الشامخه ومن هناك حمل بندقيته وبأطلاقاتها الحقيقيه وليس بأطلاقات ربّيه وذاح . من هناك تنسم الحريه وبدأ يجمح مثل خيوله التي تركها مجبراً ، وبدأ القتال وهو يحلم بالعالم الذي سيصنعه الفقراء لو دانت لهم الأرض ،هناك حيث الصخور التي أحبها لأنها منحته الحريه وتركت أثارها على جسده هناك قاتل بعنفوان خيوله التي أحبها وعشقها حد الهيام والثلوج التي أحاطت به وتنفس عطر بردها وهام ببياضها وعفوها وسلامها . هناك إشتبك بمن يطارده فكان القتال وكانت الطلقات التي تشبه أصابع الباميه التي كانت تطبخها له إمه ربّيه وذاح لكنها أصابع من رصاص هي التي إخترقت جسده بعيداً عن تلك العجوز التي كانت تحلم بزوجته وأطفاله وبين فجوات الصخور فارقت تلك الروح البيضاء والحالمه ذلك الجسد الواهن والذي أتعبته الدروب والبيوت القديمه والجبال الوعرة فتارة يختفي وتارة يقاتل زمر الطاغيه من اجل البقاء لتحقيق حلمه الذي فارقه ولم يتحقق .
 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات