| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 3 / 4 / 2014

 

افتتاحية المدى

خمسة أصوات بين زمنين جميل و"تالف" (٣) : صوت عبد الرزاق الصافي

فخري كريم 

(١)
كل ما اعرفه عن ولادته ونشأته، انه شبّ في مدينة كربلاء، وربما انجز فروضه المدرسية البيتية في بساتينها، لشدة تعلقه بالبساتين، واستعداده لـ"افتعال" سفراتٍ شيقة الى بعقوبة أو غيرها، بعد ان استقر به المقام في بغداد، واصبح رئيساً لتحرير جريدة طريق الشعب، في اوائل السبعينيات. كان يمكن ان اعرف كل تفاصيل نشأته وصباه ودراسته، لكن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة لي، في ذلك الزمن، كل ما كان مهماً، التعرف على ما تكشفه الدواخل العميقة، والسريرة، والطاقة العاطفية الانسانية، وقدرتها على أن تكون واحة تتفجر فيها ينابيع الفرح، لتسعد الآخرين.

ليس الصافي وحده من لا أعرف "أصله وفصله"، بل أنا لا اعرف غير اسمي الثلاثي، وتاريخ الولادة التي اتشارك بها مع ملايين العراقيين، بعد ان ضاعت "ورقة الداية" من القرآن، حيث كانت الاسر القديمة تحفظ تواريخ ميلاد أبنائها وبناتها. وفي وقت متأخر، حاولت ان أعرف بعض تفاصيل خيبتي، مذ انحدرت صارخاً إلى الدنيا، من بعض من تبقى من عجائز العائلة وشيوخها، دون ان احصل على ما ينفع كثيراً في تفسير مظاهر وتعرجات حياتي الشخصية غير المهمة لغيري.

وإذا لم أخطئ في التخمين، من المظاهر التي احاطت بالعائلة، الاخوة والشقيقات، فإن اسرة الصافي كانت ميسورة الحال.

وكيف يكون الحال غير ذلك، وكل الابناء على الاقل درسوا وتخرجوا من الجامعة في بغداد، محامين واطباء وفي تخصصات جامعية عالية.

اكمل عبد الرزاق الصافي دراسة الحقوق، في السنة الاولى من عمر ثورة الرابع عشر من تموز بعد انقطاعاتٍ، بسبب الاعتقال والملاحقة، بعد انخراطه في العمل الطلابي والحزبي. ولست أدري ان كان زاول مهنة المحاماة بعد تخرجه، أم أخذته السياسة والنشاط الحزبي بعيداً عنها. وليس لذلك أهمية، لأن سيرته اللاحقة، بعد ان تعرفت عليه في أواخر الستينيات من القرن الماضي لأول مرة في موسكو، تؤشر الى التصاقه بالعمل الحزبي السياسي والإعلامي.

ومنذ لقائنا الاول في بغداد، بعد عودتي من موسكو، وانشغالنا في الصحافة الحزبية وما حولها، وجدت مشتركات أخرى، غير العمل الحزبي والإعلامي، وغير الانجذاب الى مساراتٍ حياتيةٍ، بدت لي حميمية، ترتقي بالعلاقة الى مشارف صداقةٍ تتجذر، تجعلنا اكثر التصاقاً وحرصاً على تضييق المسافة بين مشاغل العمل وهموم السياسة والصحافة، والحياة الخاصة، بحيث لم نكن نفترق الا في اوقات النوم. والمشتركات تلك، تمثلت في شغفنا بالرمان والبرتقال وأكل "الركّي".! وهذا الشغف اليومي افادنا كثيراً في تلك المرحلة المكفهرّة، الحبلى بالشكوك والخيبة والاحساس بالملاحقة من الاجهزة الامنية البعثية ورصد كل تحركاتنا، ومحاولة التقاط ما نتداوله في الاجتماعات واللقاءات الخاصة. وهنا كان الرمان والبرتقال، ينتقلان بنا بما يُشبه العادة الى التمشي على ضفاف دجلة وفي يد الواحد منا، كيس يحمل البرتقال، والآخر قشوره.

كنا نردد احياناً، ان العمل السري، يتفتق عن اساليب للافلات من الرصد، لا تأتي على ذكرها كتب الدراسة الحزبية وفنون العمل السري، فكيف يمكن ذكر البرتقال والرمان في بلاد، يتعذر العثور عليهما..؟

(٢)
يومها، كان "أبو مخلص" يبث كيمياءه الصداقي في محيط معارفه، ليتكون من بينها صداقات عمره. من جانبه، كانت شروط الصداقة لا تتطلب غير تلك الصفات التي يراها ضرورية في انسانٍ لا يسد الاستئثار والأنانية المفرطة والغرور مسالك الحياة الجديرة بمناضلٍ غايته تغيير معادلاتها، واعادة بنائها وصياغة مفاهيم قيمية جديدة، تضع الانسان في المقام الاول، وتنبذ التشوهات التي راكمتها عهود العبودية والاستغلال. ولفرط ثقته بالمظاهر الاولية، كان يتوهم، أو يبالغ في التقدير، فيجانبه الحدس.

لم يكن الصافي يخلط بين المشاعر الشخصية، والحزازات التي تفرزها المطامع والتنافس وانتهاز الفرص، وتقييم العاملين في محيطه، أو في دائرته الحزبية الضيقة. ويكفي ان يتناوله احدهم بسوءٍ في العلن وفي محفلٍ حزبي، حتى يكون ذلك كافياً لتجنب تناول الجوانب السلبية في حياته ونشاطه، حد المبالغة احياناً في ابراز كفاءة الآخر والاشادة بخصالٍ ليست فيه.!

كما تعرض لتجنٍ فظ ممن لفظتهم الحياة في تعرجاتها، وكشفت عن خصالهم الحقيقية، باعتبارهم مجرد أشباه رجال..

(٣)
عبر عن استغرابه من تهالك قياديي الحزب، وهم يثيرون صخباً، حول من ينبغي أن يدير عمل جريدة الحزب الأسبوعية في أول صدورٍ لها في بداية شهر العسل المر الخادع، زمن البعث في اوائل السبعينيات، قال ببساطة المتواضع المقتدر: لنبحث في المواصفات ثم نقرر، أبدأ بنفسي فاقول انا لا امتلك المواصفات التي تؤهلني للمهمة!

والواقع انه كان اكثرهم جدارة وتوصيفاً لها. كان ذلك بالنسبة لي، أول اختبارٍ لمتانة خلقه، وترفعه عن الصغائر التي لا تخلق من البشر، سوى أشكال تفتقر لتلك السويّة التي يستحيل بدونها ان تصمد أمام تجربةٍ أو اختبارٍ امام الإغراءات الصغيرة والوضيعة، وخصوصاً تلك التي ترتبط باستدراجات السلطة، وبريقها الزائف، التي أدت الى تعثر وسقوط كثيرين في دروبها التي افضت بهم الى الخراب والتدهور.

(٤)
مثقف، كاتبٌ، خريج حقوق، ومناضل، لم يتخلف عن مهمة، في أي موقع تقرر ان يكون فيه. وهو استثناء قدر معرفتي، بقبول مهمة دون سؤالٍ عن تفاصيل موقعه ومسؤوليته. رغم ان بعضاً من ذلك لم يكن في أحوال معينة، منقصة، أو عيباً يؤاخذ عليه. وفي حالات خاصة كان السؤال ضرورياً لمعرفة امكانية تأدية المهمة الموكولة اليه، بالمستوى المطلوب.

عُرف عبد الرزاق الصافي بمساهماته في صياغة الوثائق السياسية الرسمية للحزب، والحرص على تجسيدها للتوجهات المرسومة، لكنه ظل كتوماً، لا يتسامح مع نفسه، أو يتساهل مع غيره، في ان يتبجح، ويوحي بانه وراء هذا الموقف، أو تحديد وصياغة وثيقة أو كتيّبٍ. ولم يسمح لنفسه بادعاء اسناد تكليف قيادي له، او مجرد الإشارة الى ان فيها لمساتٍ منه، من باب الاعتزاز والفخر، وهي صفة يندر العثور عليها عند آخرين من القيادات الحزبية، ممن كان الواحد منهم لا يترك فرصة سانحةً الا ويتعمد ركوبها، أو كشفها. انه يرى في التكليف أياً كان، أمانة وتشريفاً، عليه تنفيذه بابداع بعيدٍ عن التظاهر والتبجح والضجيج، وبغض النظر عن طبيعة التكليف، سواء كانت بمستوى قامته أو دونها من حيث التراتبية الحزبية، أو احتمال تعريضه للخطر.

(٥)
كان الصافي، وفياً لقيمه، صادقاً، ونزيهاً.
في أكثر من موقف، أكد هذه الخصال، وتجاوزها دون افتعال. يوماً اجرت قيادة الحزب تنقلاتٍ بين قياديين في الداخل، وآخرين في الخارج. كان الصافي من بين المكلفين بالانتقال من كردستان " قبل تحريرها بانسحاب السلطة من مدنها " الى سوريا لقيادة العمل الاعلامي والعلاقات، وآخر معه لقيادة التنظيم الحزبي، والعمل في مواقع الداخل كانت محفوفة بالاخطار والمصاعب وشظف العيش، خلافاً لأي موقع في الخارج. بعد وقت قصير بدأت برقيات عبد الرزاق تترى، مطالبة بالغاء تكليفه واعادته الى موقعه السابق في كردستان، لان العمل في موقعه الجديد يتعثر، ولا بد من اعادة من كان يتدبره، باسرع وقت، فهو الاجدر..!

ايكون مثل هذا الموقف، نزوة، او محاولة لإظهار بطولة او نيل حظوة او مركز حزبي، وصاحبها، عضو في اعلى هيئة حزبية، وليس في مشروعه قطعاً ان يصبح أميناً عاماً؟

كلا دون أدنى شك، ذلك الموقف كان تعبيراً جلياً عن اخلاصه اللامتناهي لقضيته، واضعافها او اعاقة تقدمها، بالنسبة له تجريح لضميره، وادانة لصدقية ايمانه بالمبادئ والقيم التي نذر نفسه لها. وفي كل مرة يصادف ما يُشبه هذا الموقف كان الصافي يعيد تأكيد مأثرته التي تعكس مناعته الاخلاقية، وتفانيه.

لم يكن في ما يتخذه من مواقف على هذا الصعيد، تعبيراً عرضياً عن سلوكه ونهجه في التعامل مع الحياة الحزبية، وحتى في حياته وعلاقاته الشخصية والعائلية الضيقة. وفي توجه لاعادة تقسيم العمل في المكتب السياسي، وبانضمام اعضاء جدد، تطوع بان يكون عضواً في لجنة تحت قيادة عضو جديد، مؤكداً ان ذلك اصلح للحزب، وسيبذل كل جهد لانجاح عمل اللجنة!

ايكون هذا ايضاً نزوة او ادعاء، او محاولة لاظهار ما ليس في اساس سلوكه وسويته الاخلاقية..؟!

(٦)
بعد مهمة سفر كان يُرسل قائمة بالمصروفات بالاجزاء الصغيرة من اي عملة، تركية او ايرانية او سورية. ويتعفف عن نسيان كسور العملات المتبقية من مصروفاته، بعد ان يكون قد اختار ارخص المطاعم لوجباته، وارخص الفنادق لاقامته. عندما كُلِفَ بمهمة سياسية في لبنان، للقيام بحملة اعلامية لفضح انتهاكات النظام بعد انقلاب ١٩٦٨، كان يواظب على إرسال تقارير منتظمة عن مصروفاته دون ان يطالبه احدٌ بذلك. وحين سألته مرة، كيف كنت تدير امورك المعيشية؟ قال ببساطة كنت اهتديت الى مطعم سيار، ورأيت ان وجبة دجاج مشوي هي الارخص، وما كان مني الا ان اشتري نصف دجاجة يومياً فاكتفي بها طعاماً لليوم بوجبتين..!

(٧)
بعد ثورة ١٤ تموز رُشح الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ، وفي اعقاب انتهاء اجتماع للجنة ابلغ بانتهاء ترشيحه، دون تفسير، ودون ان يسأل عن السبب! لم يعرف ولم يسأل حتى بعد ان عاد عضواً في اللجنة المركزية، ثم المكتب السياسي، وبالصدفة المحضة تطوع احد رفاقه بتوضيح سبب اعفائه من الترشيح للجنة المركزية، ولسبب لو سؤل عنه يوم تبليغه لاعيد النظر بالاعفاء، لكنه استمع للتفسير، واعتبر الامر لا يستحق التوقف. فالحزب ومصلحته فوق كل اعتبار..

(٨)
ترك العمر بصماته على عبد الرزاق الصافي، شكلاً، وقد تغيرت فيه بعض من عاداته وسلوكه. ربما صار اكثر الحاحاً على تفاصيل قد لا تعنيه، وقد يتدخل بحكم العادة في نصح من لا ينتصح، لكنه ظل على ما كان عليه.. لم تتغير خصاله الانسانية التي شب عليها.. بقي ذلك الانسان الذي لا ينكسر ولا ينثني، امام عواصف الحياة الكاسرة، متمسكاً بمبادئه وخياره الذي اهتدى اليه في شبابه...

ظل الصافي، رغم التغيرات التي عصفت بالعالم ، وقلبت الموازين، واطاحت بعالم الامل، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، محافظا على استعداده في ان يستل قلمه، كلما سُلم ورقة او وثيقة، مستعداً لتصحيحها او الاضافة اليها، كما لو انها مقالة او بيان او رسالة حزبية..

ومرات يكتشف او يُقال له وهو ينوي امتشاق قلمه: عبد الرزاق هذه قائمة كهرباء.... أو تقول له زوجته: ابو مخلص، ارجوك لا تكتب، او تشخبط، فما بيدك هو عقد زواجنا..!

مهما تغيّر العالم من حولنا، فسأظل أصطفيك صديق العمر..


المدى
العدد (3048) 3/4/2014


 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات