| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 3/2/ 2013



افتتاحية المدى

المثقف حين يدخل على خط الفتنة الطائفية

فخري كريم 

(١)

في المنعطفات التاريخية تميّز دور المثقف العراقي بإبراز قيم الوطنية العراقية، والتأكيد على التنوع والتعدد في المجتمع العراقي، باعتبارهما مصدر قوة وحيويّة. وفي جميع حقول الثقافة والإبداع، أفاض بخلق النماذج الايجابية التي تعمق الوشائج الاجتماعية وفضائل الوحدة الوطنية وضرورتها لانجاز المهام والأهداف التي تجسد تطلعات الشعب، وتضع البلاد على خطوط التقدم الاجتماعي والاقتصادي، وترتقي بالأدوات الثقافية والسياسية التي تستجيب لهذه الوجهة وتؤَمِّن لها الاستمرارية.

وتعكس مراحل صعود الحركة الوطنية وتوسع قاعدتها ووضوح أهدافها هذا الدور البارز والفعّال للمثقف العراقي في تَمَثُّلِهِ الهَمّ العام وتماثله مع نزعاته الايجابية، وانعكاسها في نشاطه وإسهامه في صياغة الوعي العام، وتحديد ملامح الهوية الوطنية وتجلياتها في الأعمال الإبداعية الخلاقة، شعراً ورواية وتشكيلاً وغناءً ومسرحاً. ولا تزال آثار تلك المرحلة من نهوض الحركة الثقافية وتدفقاتها الخلاقة تشكل قاعدة لتقييم العمل الثقافي والحركة الثقافية، وسبل معافاتها والارتقاء بنتاجاتها لتجاوز انكساراتنا وتراجع حركة المجتمع العراقي، وما عَلِقَ بها من مظاهر التقهقر والنكوص.

واذا كان صحيحاً ارتباط مرحلة الصعود الوطني بنشوء وتطور ودور الحركة الوطنية، بتياراتها المختلفة وتكويناتها الحزبية المتعددة، فان التلازم بين السياسي والثقافي والتفاعل بين مكوناتهما واتكاء أحدهما على الآخر، هو المَعْلَم المهيمن لتلك المرحلة المضيئة من تاريخ العراق الحديث. وبسبب طبيعتهما التكوينية - التأسيسية، لم يكن مُثارا او موضع جدل طابع التبعية الثقافية او السياسية للآخر، اذ كانت جدلية العلاقة ودثارها الموضوعي وسيادة الهم العام هي جوهر العملية التفاعلية بينها، والإطار الذي يحدد نزعاتهما وهويتهما المشتركة.

ربما يُقال في معرض تقييم تلك المرحلة من نضوج الحركة الثقافية ودورها في صياغة الهوية الوطنية وتوظيفها للحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في اطار الحركة الوطنية، ان وضوح الهدف العام المتمثل في انتزاع استقلال الدولة وسيادة البلاد على مقدراتها واختيار طريق التطور، كانت العامل الحاسم في تكريس الهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية، وبشكل خاص، التنافرات المذهبية والطائفية.

وعلى افتراض صحة هذا الاستدراك وتأثير الهدف المشترك ووضوحه على الضمير الثقافي، وانعكاسه على توجهات القوى السياسية المعنية بتحقيق أهداف تلك المرحلة التي تمثلت في التحرر والاستقلال والسيادة الوطنية، وحرية اختيار طريق التطور والتقدم الاجتماعي والاقتصادي. فلماذا يكون الانكفاء والتخلي عن قيم تلك المرحلة ونزعاتها الايجابية خياراً بديلاً، يعيد الاعتبار للهويات الثانوية التي تمزّق وحدة النسيج الاجتماعي، وتُحَول تجاذباتها إلى تناقضات تناحرية وصدامٌ على الهيمنة، وتفكيك الوحدة المبنية على قاعدة التنوع والتعدد والتفاعل.

(٢)

إن محاولة إعادة تقييم المرحلة التاريخية التي مر بها العراق بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، وتسويد صفحاتها، جهدٌ خائبٌ ينطلق من ثأرٍ سياسي ولا يستند إلى قاعدة معرفية وما تتطلبه من نظرة موضوعية شاملة.

ومثل هذه الإعادة الثأرية، تتناول على سبيل المثال، ثورة أكتوبر العظمى التي هزت العالم وغيرت مصائر دول وشعوب وقلبت موازين القوى على مدى القرن العشرين. وبغض النظر عن فشل التجربة، سياسياً، فان النتائج التي تركتها لا تزال تتشكل كبصمة وهوية تتنازعها إرادات في أصقاع عديدة في العالم.

وكذلك هو حال التناول المبتسر الكيفي لثورة ١٤ تموز وتحولاتها وانتكاستها.

ولا يزكي هذا التناول التشظي الذي شهده المجتمع العراقي خلال السنوات اللاحقة للثورة، كما لا يعززه الانحطاط الذي انحدر اليه بفعل انقلاب ٨ شباط الارتدادي الصادم.

لقد كانت احدى النتائج المباشرة للانقلاب الدموي تفكيك المجتمع وتمزيق نسيجه الوطني. لكن الخراب الذي حلّ في كل الميادين، دون استثناء، ادى الى تلويث الوسط الثقافي وتدمير بنيته وعناصره الايجابية وإسقاطه في عزلة شوهاء، ودفع شرائح فيه الى متاهات البحث عن الذات والعزلة عن الفعل العام. ولم تتوقف تلك الآثار السلبية عند العزوف واللا أبالية، بل خلقت حالة من المراجعة الفردية للماضي والتنصل من تجلياته الايجابية. ونتيجة للتراجع السياسي والتوجه البعثي الانقلابي تعرض خيرة المثقفين التقدميين والوطنيين الى حملة تسقيط سياسي وتحطيمٍ معنويٍ، لتجريدهم من امكانية العودة الى ضخ الامل والتفاؤل ومعافاة المجتمع الذي حلت به اهوال لا سابق لها، وتحولت الحركة الوطنية المنظمة الى بقايا متقطعة الأوصال مثقلة بالخيبة والشعور بالفشل، واختنقت بأسباب الخلاف والاختلاف والانقسام.

ان من لا يتوقف عند هذا الانقلاب الدموي باعتباره انقطاعاً عن التاريخ الوطني، بما ضخه من قيمٍ سامية وما أرساه من أسس للمواطنة على قاعدة الهوية الوطنية، سيصطدم بفراغٍ معرفي مشوش. لقد كان هذا الانهيار السياسي الدموي الذي يمكن اعتباره من زاوية معينة انتقاماً من ثورة تموز، بداية العزلة الثقافية التي تعمّقت بصيغ هجومية خلال مسلسل التصفية البعثية للوحدات الاجتماعية والقيمية في العراق. وهذه البداية تشكل خلفية الانهيار الذي تعرض له العراق وسقوطه في احضان الدكتاتورية والاستبداد.

وفي البحث عن مظاهر التراجع في الحركة الثقافية والعزلة النسبية لمكوناتها وتعثر إعادة تحرير أدواتها، لا بد من الأخذ بالاعتبار الانكسار النفسي الذي تعرضت له الطبقة الثقافية التي كانت في أساس التكوين التأسيسي الريادي للثقافة الوطنية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عبر وسائل التعذيب اللاانساني والإسقاط السياسي وما نجم عنهما من ارتداد فكري وسياسي من الخارج، وعزلة اجتماعية اختيارية، وتداعيات نفسية وخيمة.

(٣)

حاول النظام الدكتاتوري بالأدوات الفكرية للبعث تشويه الهوية الوطنية بإضفاء وحدة حزبية بعثية على تشكيلاته. لكن ذلك لم يَحُلْ دون انحيازه لهويته الفرعية على مستوى السلطة وليس على مستوى المواطن، وهذا المأزق كشف عن ايغاله في تصفية مكونين أساسيين بوسيلتين مختلفتين من حيث الاسلوب وشدة القمع. ولعبت الحرب العراقية الإيرانية دوراً تعجيلياً في كشف المستور من نهجه الطائفي والسلطوي العصبوي وغطائه القوماني المشوّه.

وجاءت الحرب والاحتلال والخيار الطائفي للحكم في العراق بعد نيسان ٢٠٠٣، لتكرس في مجملها التنافرات التكوينية، وتطمس الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية. وقد نجحت المحاصصة الطائفية من جانب والتصفيات على الهوية من جانب آخر، في تعميق الهوة في المجتمع، وفي زيادة هشاشة نسيجه عبر استعصاء محاولات خلق المقدمات السياسية والاقتصادية للانتقال إلى تكوين بنية دولة مدنية ديمقراطية.

ويبدو ان الصراع السياسي على السلطة وفساد الطبقة السياسية والآثار المتراكمة للتمايز الطائفي، وتحول العامل الخارجي في الخيارات العراقية إلى عامل داخلي، من خلال أدوات نافذة وامتدادات كان لها التأثير الأكبر في تعميق الاختلاف وتعميم التنافس والمواجهة في إطار تنازع الهويات، وانزياح خيار الوحدة على قاعدة التنوع.

(٤)

لقد عجزت الأنظمة المتسلطة منذ تشكُّل الدولة في عشرينيات القرن الماضي عن تحويل المجتمع العراقي الى مجتمع كانتونات ومعازل طائفية ومذهبية ودينية، رغم الطابع الطائفي المموه لتلك الأنظمة. ويعود الفضل في ذلك الى الاسس الفكرية والسياسية الوطنية للأحزاب والقوى العراقية التي استطاعت ضخ قيم الوحدة واحترام التنوع والاختلاف. لكن الحركة الثقافية والطبقة الرائدة لمثقفينا تمكنت بنتاجاتها الابداعية الخلاقة، والامثولة الشخصية التي برزت بين أوساطهم من تحويل توجهات وشعارات وافكار الاحزاب والقوى الوطنية الى نماذج وقيم وكائنات حيّة جسدتها لوحات التشكيليين الرواد وابطال روايات المبدعين وقصائد عمالقة الشعر والمسرحيات والافلام والاغاني والمنولوجات. وبفعل الانحياز الوطني للمثقفين وخلقهم الابداعي تحولت الانحيازات الطائفية والمذهبية ودعوات التمييز الى صفاتٍ محتقرة منبوذة، واصبح اصحابها ودعاتها مشبوهين يواجهون بالكراهية والعزلة.

هل تتكشف في الحياة الثقافية اليوم مظاهر مشابهة ترتقي بالسّوية الأخلاقية للمواطنين العراقيين وتمدهم بعناصر القوة والأمل لعبور المأزق الذي وضعتهم المحاصصة والتقاسم الطائفي في اتونها ومحارقها.؟

واين هو المثقف الذي ينتمي إلى المكون السكاني الأكبر من المزاعم والاختلاطات الفكرية لملوك وأمراء الطوائف إزاء ما يراد له ان يشاع حول نعمة الحكم على أساس الاصطفاف المذهبي؟

ان المثقف حين ينحدر الى الانحيازات خارج السياقات الإنسانية المطلقة، يتجرد من مصدر إبداعه وخلقه، فكيف يكون عليه حين يتحول إلى كائن متوحد في طائفة او مذهب معزول عن الافق البهيج للرحابة الاجتماعية وتنوعاته المفتوحة بلا اسوار ولا معازل..!


المدى
العدد (2715)  3/2/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات