| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 31/1/ 2011

     

وداعا يا فتى سوق الشعارين

عبدالله حبه – موسكو  

ليلي ابنة الفقيد وحفيداه عند قبره                         الفقيد عباس هباله( ابو ليلى)

رحل عنا في 27 كانون الثاني 2011 في موسكو رجل آخر من جيل الصامدين هو عباس علي هباله (1932-2011)، ابن الموصل الحدباء الذي كرس حياته كلها لخدمة فكرة آمن بها منذ ايام اليفاع ، هى النضال في سبيل الحرية والديمقراطية وخدمة شعبه.

احتضنت الموصل في النصف الثاني من القرن العشرين الكثير من الشباب المناضلين في سبيل مستقبل افضل – كما ورد في الشعارات الوطنية آنذاك – وتجشم الكثير منهم المهالك والصعاب في سبيل العقيدة وتحقيق هذا الهدف النبيل.انهم من خيرة ما حملتهم بطون حرائر الموصل.فذاقوا مرارة الحرمان من مباهج الحياة ودخلوا السجون وواجهوا الموت صامدين. وما كانوا يبتعون سوى وجود دستور وبرلمان وحكم ديمقراطي في البلاد. لكن تبين فيما بعد انها اهداف ليست سهلة المنال ، وانهم يمثلون جيل الحالمين. لأن واقع بلادهم ومجتمعهم كان يبيت لهم مصيرا آخر.

وكان احدهم فتى شب في سوق الشعارين في مدينة الموصل الحدباء هو عباس علي هباله الذي عمل هناك مع والده واخوانه الكسبة في دكاكين القصابين. وقد هيأت الاقدار له مستقبلا مترعا بالمحن والارزاء. فعرف السجن والنفي الى بدرة والجصان وظروف العمل السري القاسية بعد انضمامه الى الحزب الشيوعي في الخمسينيات، وعرف الحرمان ومطاردة رجال الامن وكذلك حتى خيانة بعض الرفاق. ولهذا لم تسمح له الظروف حتى بانهاء التعليم في المدرسة الثانوية. وتحول بيته ايامذاك الى مكان تعقد فيه اجتماعات الخلية الحزبية التي كان يرتادها عبدالرحمن القصاب وخليل عبدالعزيز وعدنان جلميران ويونس يوسف وفخري بطرس وغيرهم من اعضاء الحزب المعروفين في الموصل. وقد حاولت اجهزة الامن ابعاده عن النشاط الوطني بمختلف السبل سواء بالاغراء ام بالترهيب . وبلغ الامر حد ان تلقى ضربة على يافوخه بمنفضة سجاير ثقيلة وجهها اليه مدير الامن في المدينة الذي عاقبه على عناده.

وجاءت وثبة 52 وانتفاضات 56 التي ذاق بعدها طعم السجن والابعاد الى المنفى في بدرة والجصان حيث وجد هناك "المدرسة والجامعة" في آن واحد ، اذ كان هناك الكثير من المثقفين العراقيين الذين اكتسب منهم معارف من نوع جديد وتعلم حب المطالعة الذي لازمه حتى آخر دنياه. وكانت السجون والمنافي في تلك الايام وسيلة ناجعة لتنوير الشباب حيث كانت تلقى فيها الدروس والمحاضرات في مختلف المواضيع رغم انف السجانين.

لكن ثورة 14 تموز 1958 ومؤامرة الشواف التي لعب الشيوعيون والوطنيون عموما دورا كبيرا في احباطها، تركت بصماتها على اسلوب تفكير عباس وسلوكه. فقد شاهد فيها القسوة والوحشية واللامهادنة من قبل الطرفين. وكان لا بد ان يشارك عباس في اخمادها بحكم موقعه الحزبي القيادي. بيد ان التجاوزات بل الجرائم التي ارتكبتها عناصر ضالة التصقت بالحزب في تلك الفترة تركت آثارها في مصير عباس لاحقا. ولقد نسبت اليه افعال لم يكن له فيها ناقة او جمل. وقد حدثني قبل اسابيع من وفاته لدى زيارتي له في شقته المتواضعة في اطراف موسكو فيما يشبه الاعترافات – دون ان اطلب منه ذلك - ان بعض الاشخاص (وذكر اسماءهم ) خدعوه حين اقنع احد ابناء جيرانه المطلوب للسلطة للأشتباه بوقوفه الى جانب حركة الشواف بأنه سيكون في امان ولن يصيبه اذى اذا ما سلم نفسه. وفي اليوم التالي عثر على جثة هذا الجار قتيلا في احد الآبار. وبعدها كان عباس يخشى حتى ملاقاة اقارب جاره بل ويتفاداهم خشية بطشهم. وقال انه غالبا ما كان يسترجع صورة الشاب جاره في ليالي مرضه المؤرقة في الاعوام الاخيرة.وذكر لي حوادث أخرى لوقائع مشينة لتلك الفترة المضطربة من تأريخ البلاد ، حين اختلط الحابل بالنابل ، ولم يعرف اين الصواب واين الخطأ. وأكد انه كتب ذلك في مذكراته التي يأمل في نشرها لاحقا. وكانت النتيجة ان جرت ملاحقته وصدر عليه الحكم بالاعدام 3 مرات عندما انقلب عبدالكريم قاسم على الشيوعيين وصار يلاحقهم ويزج بهم في السجون في اعقاب محاولة اغتياله من قبل عبدالوهاب الغريري وصدام حسين وبقية الزمرة المعروفة. وقد جنح عبدالكريم قاسم الى الغلو في محاربة القوى اليسارية فشملت حتى جميع من كانوا يدافعون عنه من الضغوط المعادية له في الداخل ومن الخارج. وقد ذهب يحيى قاق وهو من الشخصيات المتنفذة في الموصل آنذاك اليه ونصح عبدالكريم قاسم بالعدول عن سياسة التنكيل بأبناء الموصل ممن يدافعون عنه وعن ثورته.

لقد ضاقت السبل بعباس فلم يجد له مخرجا من ذلك الوضع سوى بالخروج من العراق. فجاء الى موسكو في مطلع الستينيات والتحق بالاكاديمية الاجتماعية السوفيتية في دورة تعليمية استعرفت سنتين نقل بعدها للأقامة في باكو . لكنه وجد نفسه هناك بعيدا عن العراقيين وبينهم الكثير من اصدقائه. فرجا نقله للأقامة بموسكو. وإلتحق بالعمل مصححا في جريدة " انباء موسكو" الصادرة باللغة العربية ، وهناك إلتقيت به لأول مرة.


عباس هباله مع الكاتب الروائي غائب فرمان

وسرعان ما جمعتنا اواصر الصداقة ابان العمل في الجريدة وممارسة النشاط الثقافي في جمعية المثقفين العراقيين والنقاشات في "الصالون الادبي" للكاتب السوري سعيد حورانيه الذي كان يعمل في الجريدة ايضا. وقد تحولت شقة سعيد الى هذا الصالون حيث كان يجتمع فيها الكثير من المثقفين العرب منهم الشاعر السوداني جيلي عبدالرحمن والشاعر الفلسطيني محمود درويش والروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان والناقد السينمائي سعيد مراد والمخرج المسرحي فواز الساجر وغيرهم. ووجد عباس هناك تربة خصبة للنقاش حول السياسة والادب والفن مع رجال متمرسين في هذا الميدان. وعرف عباس دوما باحكامه القاسية وعدم المهادنة في القضايا المبدئية بالنسبة له. لكنه بمرور الاعوام صار اكثر نعومة في الجدل. وقد مارس تأثيره في ذلك نمو صلة الصداقة التي ربطته بالمرحوم غائب طعمة فرمان المعروف بدماثة الخلق وهدوء الطبع. وكان عباس من اشد المعجبين بأدب غائب وجمع كافة اعماله وبعض مخطوطاتها في مكتبته. ولدى الاحتفال بالذكرى العشرين لوفاة الكاتب قدمها لنا مع الصور للاستفادة منها.

ان من اكبر خصال عباس هباله هو الوفاء والاخلاص والصدق مع الآخرين، وقد تجلى ذلك في تعلقه حتى الوفاة بقضية حزبه وكان يؤمن بان الخيار الاشتراكي هو الصحيح بالنسبة الى وطنه، وبأن سياسة الحزب يجب ان تتواصل وان مستقبل العراق يرتبط بنشاط الحزب الشيوعي دون غيره من القوى السياسية في البلاد.ان تمسك عباس بحزبه حتى النفس الاخير ظاهرة فريدة في زماننا حيث انتقل بعض الرموز المعروفة فور انتكاسة الحركة الشيوعية العالمية الى التشنيع بهذا الحزب وقياداته والتركيز على اخطاء الماضي وهي كثيرة. وقد اصيب عباس بالاحباط لدى سقوط المعسكر الاشتراكي وزوال الاتحاد السوفيتي وكان يردد ان الاشتراكية ستعود لأن المشكلة الرئيسية في المجتمع الانساني اي ازالة الفقر واحلال العدالة الاجتماعية لن تحل في ظروف الرأسمالية ابدا. والاشتراكية الحقيقية وحدها قادرة على حلها.

لقد وقف رفاق واصدقاء عباس عند جثمانه في 31 كانون الثاني 2011 لدى اداء الصلاة على روح الميت في احد مساجد موسكو وعند قبره بعد ان ووري التراب في المقبرة الاسلامية بضواحي موسكو وتذكروا الخصال الحميدة للفقيد ، كما اعرب السفير العراقي فائق فريق عبالعزيز نيرويي في رسالته الى المجتمعين عن التعازي الى ذويه واقربائه واصدقائه وقال:" لقد كان عباس هباله انسانا مثقفا وواعيا بكل معني الكلمة ، محبا لوطنه ولقضية الحرية التي ناضل من اجلها حتى آخر لحظة في حياته"…" ويؤسفني لأنني لم التقد هذا الانسان القدير.

ولكن عرفنا فيه مثالا للتضحية والتفاني والنضال المستميت من اجل حرية وسعادة الشعب العراقي بكافة قومياته المتآخية ووهب خياته من اجل انتصار قضية الشعب العادلة في العيش الكريم ومن اجل عراق ديمقراطي وحر وتقدمي ".
 

free web counter

 

أرشيف المقالات