| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                 الخميس 31 / 10 / 2013

     

"الكرش العراقي المعاصر" كرمز للعراق الجديد

علي بداي

لربما كان العراقي الحالي أكثر أهل الأرض فقدانا للرشاقة ولتوازن المعادلة الطبيعية الخاصة بالإستهلاك والإنتاج. فهو كثير الأستهلاك في الطعام والطاقة والمواد الأولية والكلام وقليل الإنتاج في المعمل والبرلمان والمدرسة والجامعة وأجهزة الحكومات المركزية والمحلية (قطاع "إنتاجي واحد فقط مازال يتمتع بحيوية وقدرة دائمة على التجدد هو قطاع "إنتاج" الأطفال الذي يعمل بطاقته القصوى بما يضمن تضاعف السكان كل عشر سنين دون حساب لأي ظرف!).

في العراق الجديد، وفي كل مكان منه ، نرى صبياناً بعمر يفترض الرشاقة، ينوءون تحت ثقل أرطال زائدة من الشحم .وزراء . رجال دين. قادة عسكريون .أساتذة جامعات . والأمّر والأكثر إثارة للفزع أن التكرش قد إكتسح آفاقاً كانت محرمة عليه في ما مضى من زمان فشمل حتى الرياضيين الذين تفترض مهنتهم وهوايتهم الرشاقة، وما تعرضه الشاشات من كروش المدربين والإداريين المتهدلة عبّر عن مهزلة مرة أمست حديث الإعلام الغربي!

لكن "الكرش العراقي المعاصر" ليس مجرد دلالة على إختلال النظام الغذائي لدى شعب مثلما هو عليه الحال في أمريكا حيث الثقافة "الماكدونالدية" المؤسسة على الوجبات السريعة والفنغرتشيبس والكوكاكولا أو مماثلتها ثقافة الرخاء العربي الإستهلاكي السقيم في الخليج العربي، أو كموروث إجتماعي كما كانت عليه كروش الموسرين التقليدين من أبناء الطبقة المتخمة الحاكمة في النصف الأول من القرن الماضي، كإشارة للفخامة و"الإعتبار" ، أو نتاج لإستهلاك كميات البيرة كما في المانيا وتشيكيا. "الكرش العراقي المعاصر" هو ظاهرة عامة حديثة في التاريخ العراقي، ظاهرة عابرة للأعمار والطوائف والمواقع الاجتماعية والطبقية ، مما يؤهله ليكون مدخلاً لدراسة الاقتصاد والسياسة وعلم الإجتماع والسايكولوجيا في عراق اليوم. أن مشكلة الكهرباء وموت الزراعة والصناعة العراقيتين ووجود اللصوص في قمة الهرم السياسي، وكثرة حالات الطلاق، والكسل الذهني والبدني المصاحب بإفراط في إستخدام الموبايل والفيس بووك ومايتفرع عن هذه المشاكل، كلها تعقيدات يمكن الدخول لها ومعرفة أسبابها عبر دراسة ظروف وغايات صناعة هذا الكرش الذي تم الإعداد له بصبر منذ حرب عاصفة الصحراء.

"الكرش العراقي المعاصر" هو تجسيد عملي جلي للسياسة الأمريكية التي لا تتضح لا في مفهوم "الإحتواء المزدوج" ولا في مفهوم "الفوضى الخلاقة"، بل في هذا الكرش الذي أتى في أعقاب تجويع دام عقد كامل. أتى الكرش بعد إعداد أمريكي نفسي طويل، وتهيئة، ووعود لشعب جائع مدمى، بجنة الأعناب والأرطاب ولحم الغنم، وبعد أن تم تعيين المقاولين، والموردين الرئيسيين، والثانويين، ورؤساء فرق حماية الحرامية، والمشرفين على إعداد وتوزيع البطاقة التموينية ووكلائهم.
فقط بعد أن تم هذا كله ، فتحت أمريكا " باب التغيير الديموقراطي" وإبتدأ سباق الإلتهام !

بعدها كان لابد، من أجل ضمان نجاح الخطة، أن يعلن أولاً عن موت الثلاجة العراقية بعد أن تدخل الكهرباء غرفة الأنعاش ، عندها لابد أن ترفع البيوت العراقية شعار " بالبطن ولا في الزبالة" وكانت المكاسب هائلة ، شركات أمريكية وتركية وايرانية وصينية وهندية صبت مليارات الأطنان من إنتاجها الصالح وغير الصالح للإستهلاك في فم العراقي الجائع مقابل عمولات وإتفاقات ورشاوى. ولأن العراقي مجوّع بقصد وسابق إصرار، كان يتوجب أن تحبك الخطة بحيث لا يتوفر لديه الدافع للإهتمام بما يسمى "المنتوج الوطني" الذي كان يحتاج وقتاً ودعماً من حكومة وطنية لاوجود لها في الواقع، ومن أجل هذا سوقت إيران بإعتراف الإيرانيين أنفسهم منتوجات بسعر النقل فقط كي لا تنهض مثيلاتها العراقيات، ومثلها فعلت تركيا...

أصبح الكرش الآن واقعاً يومياً، المواطن موجود لكي يأكل..وهذا هو واجبه وحقه، لاغير. في معظم التظاهرات الإحتجاجية " التي لا تتبناها مرجعيات دينية" تلاحظ ظاهرة هي أن عدد المتظاهرين في العاصمة العراقية لايتجاوز المئات القليلة . عاصمة بخمسة ملايين إنسان تتعرض يومياً لإنتهاك فض لكرامتها ولسلامها وأمن أهلها ، مع كل هذا لا تفلح بحشد حيين من أحيائها المتخمة بالبشر فتعبر عن رأيها! ما الذي حصل ؟ جبُنَ الشعب؟ أم ترهل و تكرّش بأعقاب حصار لم يكن يتصوره سينتهي! .كلاهما. السبب الأول نتيجة للثاني. هذا الشعب لايريد المجازفة بالتضحية بالراتب الذي يستلمه في أحيان كثيرة بدون عمل وفي أحيان أكثر وهو جالس في البيت، وكلما هم بالنهوض (تحت وطأة أي سبب) لوحوا له بالحصار وبالبعثيين صنّاع الحصار والدمار.

لكن، اليست دولتنا ديموقراطية ؟ ماهي سلطة هذه الحكومة على شعب يعيش في ظروف " ديموقراطية"؟ الا يمكن لهذا الشعب الإحتجاج متى ما أراد؟ نعم يمكن ذلك ولكنه الكرش ..مرة أخرى، حين يهم العراقي بالخروج من بيته للتظاهر سيتذكر أيام كان يأكل الطحين مخلوطاً بنشارة الخشب ويقول لنفسه : ها أبو عليوي نسيت تلك السنين ؟ ويعود لبيته..ليأكل . هو لا ينسى أبداً أنه يأكل بفضل الحكومة التي تمنحه راتباً ، نعم هو وجاره وإبن عمه، فالحكومة الحالية هي مالكة أكبر إحتياطي من العاطلين عن العمل الموظفين في أجهزتها بدون إنتاج، هم موظفون بلا مهام واضحة ومحددة ، مكرشون، راضون بالكرش عنواناً للعافية و" الرخاء" والإسترخاء ، ولكي يستمر الحال، هم مطالبون بإبداء الولاء والتأييد لولي النعمة الذي يملك 20% من الذكور كافراد في القوات المسلحة ،الشرطة، والحمايات التي لم تفلح في الحد من تدفق الدم اليومي في الشوارع فيما يشتغل 12% من السكان في وظائف معظمها ملفقة تستنزف الموارد التي تذهب 80% منها الى الميزانية التشغيلية . إنها سمات تعريفية للإقتصادات الريعية، غير المنتجة، التي تقف وراء خلق المجتمعات البليدة، المشوهة، المتخلفة حضارياً، المنشغلة بتناحرات وفتن مذهبية غابرة، والزاهدة عن العلم والثقافة، والمتجهة للإستهلاك فقط.

لكن ، دعونا نسأل الى متى يبقى العراقي بعيداً عن إدراك خطورة المنحدر الذي سلكه ؟ أو الذي أجبر على سلوكه؟ الى متى يصرف العراقي النظر عن التساؤل المهم عن مرحلة مابعد النفط وما بعد سدود تركيا ، متى ينتبه الى أن سبب كل آلامه ومعاناته وأزماته هو هذا البلاء المسمى بالنفط الذي يتخيله نعمة ؟ هذا النفط الذي يطعمه دون عناء ولا جهد ولا إعمال فكر؟ هذا النفط الذي كان سبب الحصار وسبب التكرش؟ هذا النفط الذي لم يفلح رغم غزارته وبعد مئة عام من بناء شبكات تصريف صحي سليمة؟

لا يبدو أن هذا السؤال سيشكل في المستقبل القريب هاجساً للعراقيين .مرة واحدة في أيلول 2011 تحارش مجلس النواب لأسباب مختلفة من حيث الاهداف فطرحت قضية تشكيل مجلس النفط والغاز وأحست الحكومة بدنو الخطر فحاولت أن تصر على ان يكون المالكي رئيسا للمجلس ولما أدركت إستحالة قبول ذلك ، وفي تلك اللحظة العصيبة التي كادت أن تنتهي بإعلان المعركة الكبرى بين الشعب والسلطة وكشف المستور تمكنت المرجعيات بسرعة خارقة من سحب الموضوع الى ساحة التراضي بعيداً عن عيون الاعلام واستلمت الأطراف حصصها: الوقف الشيعي والوقف السني والعشائر والكتل السياسية. تبدو السلطة الآن واثقة من نفسها وتحالفاتها وإمكان إرشاء أي معترض بمنصب أو حصة من بقايا البلاد ما دام الكرش هو هدف الجميع.
 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات