| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس  30 / 1 / 2014

 

عبد القادر العيداني ينقب في مومياء الزنزانة الصحراوية
وقفة مع مذكرات ( من أعماق السجون )

حيدر عبد الرضا - البصرة

في أي مجتمع من الكونيات المجتمعية ، نجد قليل جدا هم الأشخاص الذين تؤسطر حكاياتهم و صرخاتهم و دموعهم و آهاتهم و إحتضاراتهم و ذكرياتهم و أكفانهم و شواهد قبورهم ضمن سيرورة موجبات سرادقات الخلود و حواشي مركزيات التماثل و الأمتثالات الخلودية التاريخية و الوثائقية ، بيد إننا نرى اسمائهم و سير حيواتهم كما لو إنها كيفيات غرائبية تضاهي حكايات و أخبار مدن الخوارق و قرى الجن و مآثر رحلة السندباد و بطولات و أعاجيب علاء الدين و المصباح السحري ..

من هذه المقدمة نقرأ مذكرات كتاب (من أعماق السجون .. نقرة السلمان .. قيود تحطمت) بقلم الأستاذ الصديق الكاتب عبد القادر أحمد العيداني (أبو مصطفى) فعندما شاهدنا صور ( معتقل .. نقرة السلمان) الفوتوغرافيا حيث أبطال شهداء الحزب الشيوعي المنحوتة فوق صدر الصفحات المخطوطة من سيرة مذكراتهم و يومياتهم في أعماق ذلك المعتقل الموميائي المهيب لحد الكابوسية و لحد وحشة ظلال الموت ، حيث أنني شخصيا لم أتمالك ناصية فضاء جأش عبراتي و حزني على حال ما قرأته من حقيقة تلك الصفحات المذكراتية البارعة . يتأسس مشروع هذه المذكرات ضمن اسلوبية حيادية حاذقة في نقل احداثيات أخبار و محاورات تلك العلامات الشخوصية المجاهدة في حيوات مقترضات ذلك المعتقل الموميائي المميت ..

و الكاتب عبد القادر أحمد العيداني يتضح من إنه شخصيا كان أحد أولئك الشيوعيون الذين قد استعرضوا مع صورهم الشخصية و أعمالهم اليومية في قلب أتون كابوسية الزنزانة الصحراوية . و ما هو ملفت في أمر تدبيرية تأليف مكونات هذه المذكرات ، هو إنها قد جاءت محملة بأدق أدق تفاصيل مجالات حياة السجناء و بكل ما تضج به تفاصيل يومياتهم وصفاتهم و سلوكياتهم و أوضاعهم النفسية و المزاجية ، أي ما معناه بشكل مختصر ، إن الكاتب قد بذل جهدا ملحوظا وهو يؤسطر معارف و مرجعيات تواريخ الأشخاص و الأشياء و التقاويم و بطريقة متماسكة موضوعيا و توثيقيا و سياقيا .

( القراءة تفكك شفرات الأسرار )

إن فعل القراءة و التلقي لشفرات مذكرات ( أعماق السجون ) ما هو بالنتيجة إلا بحثا في سلسلة شرنقية من بديهيات المؤولات الذاكراتية المتعددة في علوم و حفريات مجال القراءة في المظاهر و الوظائف الانعزالية من قاع المجتمعات الإنسانية ، أي بمعنى مباشر أقول موضحا ، إن مذكرات عبد القادر العيداني أخذت تندرج ضمن دراسات الأداب السجونية ، محاولة فرز قابليات إصطفائية مقتربات حياة الأنسان في قاع تلك المعتقلات اللاانسانية ، و طبيعة هذا التأليف لربما تنحصر في توضيح حالات سلوكية أفعال ذلك الانسان الذي يحيا بعيدا عن حركة الحياة و المجتمع ، بل و تنجز نمطية مخطط هذه الاضمامة بموجب حقل هذه الترسيمة ( السجناء + حرية + صرخة + انسان + فكرة = قيود تحطمت )

إن حالات فصول صياغية المذكرات لربما تبدو عملا نادرا من نوعه ، لاسيما و إنها تتضمن حيزا واسعا من العلاقات و العلامات المتجلية في طبيعة إحتوائية الانسان في أعماق حاضنة تلك الزنزانة الصحراوية . إن الكاتب العيداني لاشك لم يتجاوز أو يتجاهل حقيقة رسم ممكنات الغموضات و التعقيدات المعتادة في حياة سماء تلك الزنزانة و مؤثراتها النفسية على نموذج الانسان السجين ، و ذلك تحديدا ما شاهدناه في فصل ( تفاصيل الحياة اليومية لسجناء نقرة السلمان ) و من خلال مقتربات هذا المبحث التوثيقي المعاش ، لاحظنا ثمة صورة تجسد طبيعة تلك الزنزانة الموحشة في طيات تلك الواقعة الصحراوية ، أيضا لعلنا لا نستطيع أن نتجاوز ما كان مكتوبا أسفل تلك الصورة التوضيحية للمعتقل حيث جاءت تحمل كلمات قاب قوسين بقلم الشهيد ( مهدي حميد ) يقول فيها : (الحياة حلوة لكن الموت في سبيل الشعب أحلى) .

هذه الكلمات التمهيدية ما هي إلا مدخلا توليفيا الى حدود إشرافية معنى السؤال المبحثي اللاحق في بدء عتبة الصفحة : ( حفرت على صخور سجن نقرة السلمان مئات القصص و الحكايات عن مناضلين سيقوا بشكل بربري الى هذا السجن الصحراوي المنعزل عن العالم فكل صخرة كلسية منه بنيت بها جدران وردهات السجن تحتفظ بآهات السجناء المغيبين عن أهلهم و شعبهم أو الذين أعتلوا المشانق أو استشهدوا تحت التعذيب الهمجي تضحية و دفاعا عن مبادئهم التي أعتنقوها بكل إباء و شمم مدركين حجم التضحيات الجسام ..

فهذا الشهيد مهدي حميد المناضل الثوري الشيوعي الجسور يترك كلماته الأخيرة و يخط بيده على أحدى صخور السجن / إن الحياة حلوة لكن الموت في سبيل الشعب أحلى / حين أستدعته سلطات البعث بعد إنقلاب 8 شباط 1963لغرض إبادته في معتقلات و زنازن الطغاة و نفذت حكم الإعدام به ..

تبدأ تفاصيل الحياة اليومية لسجناء نقرة السلمان في فترة ستينات القرن المنصرم .. عند الساعة الرابعة فجرا و مع بدء السجين المرحوم صادق جعفر الفلاحي مزاولة تمارينه الرياضية اليومية بشكل مستمر بلا إنقطاع و غير عابئ بارتفاع درجة حرارة الجو أو برودته و بالرغم من كبر سنه .. و معه ينهض خفراء المطبخ لأعداد وجبة الفطور المكونة من الخبز الأسمر الذي نجده في أغلب الأوقات مرصعا بحبات الرمل بسبب العواصف الموسمية .. فالسجن يقع في منخفض تحت سطح الأرض و مع الخبز توزع ــ شوربة العدس ــ أو الجبن في بعض الأحيان ..

و من الجدير بالذكر إن الشهيد هندال جادر هو الذي يقوم بتوزيع الخبز على الردهات بصورة عادلة و كان الشهيد ــ هندال ــ حازما و حريصا على كميات الخبز ولا يفرط بها أبدا ..

و من الطرائف التي حدثت ذات مرة خلال توزيع الخبز إنه في أحدى الأيام قد جاءه الدكتور ــ فاضل الطائي ــ طالبا خبزتين بسبب شدة الجوع في فترة كان لا يتم بها توزيع الخبز فرفض ــ هندال ــ اعطاءه فأخذ الدكتور بملاطفة ــ هندال ــ قائلا له إني برجوازي و قد تنكرت لطبقتي الثرية و ربطت مصيري بك أنت الطبقة العاملة فأجابه ــ هندال ــ شسويلك ؟ أخون الطبقة العاملة و أرجع لبرجوازيتك ؟ وخلال هذا النقاش الحاد بين الأثنين سرق أحد السجناء خبزتين من خلف ــ هندال ــ ولو علم بأمر هذه السرقة لقلب الأرض على السماء من شدة حرصه و أمانته . )

هكذا وجدنا يوميات عبد القادر أحمد العيداني لحيوات السجناء ينقلها لنا بموجب حرفية أخاذة ومن حدود موضوعية قصوى شديدة في الأمانة النقلية التاريخية و التوثيقية الناتجة من أستشعارية قيمية دالة في حدود دلالات العلاقة القصدية المتبصرة في مجريات تلك الأعماق الموميائية الغاطسة في تراكيب أمعاء و قباب و أنفاق تلك الزنزانة الاسطورية المعتقة قدما ..

و بتعبير سيميولوجي نستطيع أن نقول إن حجم الحقائقية في خطاطة هذه المذكرات الوثائقية ، قد حلت عندنا عبر لغة يشترك فيها نظام العلامات و نظام ثنائية سيرية ( الخارج / الداخل ) و ( الذات / الموضوع ) و( علاقة / نصوص ) و( حالة / ربط ) و ( تصاعد / نزول ) و ( حكايات / حقيقة ) و ( دال / مدلول) و ( بداية / مصير ) و ( وهم / واقع ) و ( أمل / يأس ) و على هذا الأساس راح العيداني يقدم لنا إضاءات فصول مذكراته الزمنية ، وفقا لحدود توالدية من قيمة شرائطية ( الذات / الزنزانة / الصوت / الأمل ) .

ينقسم مخطط كتاب مذكرات العيداني كنصوص سيرية وثائقية و مذكراتية ، و بصرف النظر عن نغمة دلالة العنوان ( سجون ) فأننا شخصيا و ليس تاريخيا لربما نعد هذا الضرب من التأليف في حدود موقعية كتاب حياة السمة التكميلية من صفحات الثورة الشيوعية النضالية الممتدة الى تاريخ يومنا هذا .

لقد جاءت عتبات التقديم و التوطئة وبعض فصول المذكرات تحت يافطة هذه العنوانات ( انتفاضة معسكر الرشيد و قافلة الموت) و فصل (تفاصيل الحياة اليومية لسجناء نقرة السلمان) و فصل (الاحتفالات بالأعياد الوطنية و الأممية في سجن نقرة السلمان) و فصل (بعض مفاصل النشاطات اليومية) و فصل (عمليات الهروب من سجن نقرة السلمان) و فصل ( محاكمات لا مثيل لها في التاريخ ) و فصل (قائمة شهداء و مناضلون سجن نقرة السلمان) .

كل هذه الفصول التي قام لنا بسردها العيداني ، أضحت لنا مشروعا تكامليا مشرقا في حدود إمضاء نصية سيرية ملاءمة لمشهد ( مومياء الزنزانة الصحراوية ) و ما ضمته في أمعاءها من أصوات و عقول و أعمار و مراحل تفتقد حلاوة الحياة البيضاء وهي تنازع ثقل بقاءها في غياهب اسطورية قلب الصحراء الجنوبية المجرمة ..

أنا شخصيا أقدس تجربة هذه المذكرات الى حد بعيد و التي قام بأعداده و تأليفها الأستاذ الفاضل ( عبد القادر أحمد العيداني ) ، و خصوصا في حقل صياغتها للأشياء الشخوصية و الزمنية و المكانية تحيطها عناية أسلوبية تحويلية مؤطرة بمجموعات هائلة من الصور الفوتوغرافية و النماذج التوضيحية الهندسية لمواقع معمارية تلك المومياء الصحراوية .

إن هذا النوع من التأليف الوثائقي السيري هو طريقة ناجعة وهامة ، و أنا شخصيا أجده عملا نادرا و كبيرا و يستحق كل الاهتمام و الإكبار و الترحيب و التقدير و المتابعة ، لاسيما و أنه يخص متحف عظيم من مسرح رسائل و أصوات و حركات و إيماءات و أرواح و دموع خالدة لأناس يتعذر وصف مسببات و إرهاصات دوافعهم و حماساتهم و سياق أفكارهم البطولية في رمق أنفاق تلك المومياء الموحشة التي لربما لا يشعر بمدى قسوة أمعاءها سوى من قامت بمضغه سنون طويلة داخل باطن لحوم ظلامها في عالم من سيناريو النسيان و الرمال و الفقدان و الحرمان و الحزن المميت و صياغات رحلات السجناء و أصواتهم و أرواحهم و أمنياتهم في موت معزوفة خطابها العدمي و الاستبدادي القامع ..

فسلاما سلاما لكم منا أبطال الثورة الشيوعية النضالية الكبيرة ..

و سلاما لك منا عبد القادر أحمد العيداني ..

و سلاما لكل ما أمضيتوه في فصول و مشاهد سيناريو الموت البارد ، و لكننا أمنا بأيامكم و عشناها عدلا و ذرفنا من أجلها كل ما نملك من دموع و اعتراف و مشاهدة كبيرة ، و نشهد لكم بأنكم أنتم و أرواح الشهداء الأبطال من قد حطم قيود و عظام و مخالب و صخور تلك المومياء الصحراوية .


 

free web counter

 

أرشيف المقالات