| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 30/7/ 2012                                                                                                   

 

كنت جميلا بما يكفي ان تغادر بصمت

هاشم مطر

قبل نحو عام من الزمن كتبت مقالا بحق الصداقة، كان احد شخوصه وابطاله صديقي (ابو ذكرى). كنت وقتها في زيارة الى لندن هدفها لقاء الاحبة والاطمئنان على صحة اثنين منهم كان ابا ذكرى واحدا منهم.

اسمحوا لي ان ابدأ بما انتهيت اليه وقتها بهذا المقطع الذي ختمت به «اصدقائي والخريف»(1) انذاك:
قالت:
«هل مازال الخريف يساقط أوراق شجرة التفاح القديمة أمام مرأى منك، وتلفح اسماعك أوراقه الصفراء بنكهة فيروز؟».
نعم ياصديقتي نعيش الآن أصواتا مذهلة، وألوانا خريفية باهرة. كأن يتصدى صديقايّ لمرضهما بحكمة الصمت، مع نثار الممكن من الكلمات الأنيقة، فيقول صديقي الدكتور صباح: «إن الحياة هي تلك الورقة الخريفية، التي سألت عنها فاطمة، لولا شحوبها لما بدأت أخرى بالإخضرار». وتلك التي حاول «أبا ذكرى» إيجازها وهو يتأبط ذراعي صوب شرفة شقته المطلة على منظر رائع في لندن، ويرى شحوب الشجر قائلا: «إنه منظر رائع في كل الفصول». انتهى المقططف.

غادرنا ابو ذكرى بعد عام متكئاً على اريكة في المشفى الذي له اسم خاص «الهوسبك» في لندن، وهو الخيار الوحيد لأيام معدودة يتأمل فيها المصاب ليس يومه قطعا، انما ايامه، مناظرها واحلامه فيها، يرجئ ما تعذر معاينته ليكمله في يقضة اخرى، ويتبسم لاخرى تلك التي جعلها في سلة ذاكرته كأجمل مقتنى. وهكذا كان الامر مع ابي ذكرى الجميل، الذي فاجأت ابتسامته ورضاه الاطباء والاهل المجتمعين حوله. ترى ما الذي كان يراه ويتأمله في اخر ايامه؟

كانت ابنة اخته الشابة نادية» في زيارة له وحال عودتها سألتها عنه. اجابت، وهي العارفة بمرض الخال، فقد اكملت قبل اشهر تخصصها في «الخلايا السرطانية» في جامعة كوبنهاكن وحصلت على درجة جيد جدا في نيلها شهادة الماجستير، اجابت نادية:
- عجيب خالي لا يرضخ لاي احتمال للموت، «يضحك علينا ويكول شدة وتزول»!
أي فتنة لهذا الانسان الذي كان يتفحص حياته قطعة قطعة ويرى آخرها تذوب كما الشمع مع اخر رجاء له للاخرين الا يحزنوا عليه، يبعد عنهم القلق ويشجعهم بانه بخير وهو العارف أولا ان حياته لن تدوم اكثر من بضعة ايام.

ترى هل كان يعاين ما قاله لي قبل عام ونحن نطل من شرفة شقته على منظر في لندن: «إنه منظر رائع في كل الفصول»؟، وايا من المناظر كان يراها هذا الرجل المبتسم في كل الفصول؟.

في الزيارة الاخيرة لنادية قبل ثلاثة ايام سألتها نفس السؤال فأجابت نفس الجواب مع حسرة عميقة ولحظة سكوت على التلفون استعدت نادية فيها ان تقول لي شيئا اخر. فقالت بدلا عنه والدمعة في عينيها والغصة تحاصر رئتيها «عمو هذا بابا يحجي وياك». ذهبت نادية تكمل نحيبها وحدها.

قطعا كان ابا ذكرى يعاين المنظر الذي اختلط فيه الحلم بالهزيمة، والحظ بالفأل السيئ وهو شاب ينتصر للافكار المشرقة. كانت السماوة موطنه وقتها تضج بالف احتمال، جيوش جرارة من شباب اليسار تقصد موسم حصاد خائب وتجر عرى خوابي بارت فيها مقتنيات العصور، تتجه عيناه صوب نهر فيها كان يرى على ضفافه شعلة لشجرة رمان من نور ووهج قرأ عنها مرة في كتاب (يكاد زيتها يضيئ ولم تمسسه نار) وقرأ عنها في كتب الشعر والادب والاسفار حكايات جعلته اميرا للصمت وملكا للرجاء فاختار من صحراء السماوة اجمل مهرة. أمسك بمعصمها وخطا باتجاه بستان نحو شجرة يشهدها حبه الأثير، تشجع ان يقول الشعر فكان الحاج زاير يحاكي القه «شلون تشتم ورد وانت الورد» وهو ينظر الى شذى إمراة اقلقته، وفتنة أيقضته، تزوجها وسافرا.
الى اين؟.

كان شهر عسله ليس ككل الشهور ومرامه بحرا ليس ككل البحور. يندس في قلقه حزن شفيف وقارورة من عسل مذاب بين يوم اليف واسى لشيئ يغيب، فاختار اصعب احتمال فجعل يومه في سنان الرمح ونصل السهم وسنان السيف. اما ما انطوى عليه فكره المنير فقد اجله لوقت اخر، أبى ان يموت قبل ان يكمله فانجز لوعته بشهادة الدكتوراه بالقانون الذي غاب عن عين البلاد التي ما غابت عن مرأى حدقتي عينيه خطوة نملة.
مابين السماوة وبغداد كانت عواصف الرمال تمتزج مع رائحة (ديزل) الشاحنات العسكرية المعبئة بشباب يعلّبون في الخاكي تتجه بهم نحو حدود مقدسة في حرب ضروس (مقدسة). كان قبلها قد عانق رفاقه في سجن المدينة وابقى على قميصه الذي اختلطت في نسيجه المهترئ حبات الدموع بالعرق فأودعته (ام ذكرى) مع بضعة حاجيات بما يشبه (الصرة) (2). تنقل القميص معهم في بيوت وخرائب ودهاليز مظلمة مع رفاق كثيرين تهدلت اعطافهم مع اوجاع الكلى وامراض الصدر والكبد والمفاصل وضغط الدم وفي كل مرة كانوا ينقصون، لكنهم الاحرار اياً يكون نوع الاحتضار والموت، جابهوه بارادة تعلوها نفس الابتسامة التي ودعهم فيها ابا ذكرى نحو الجبال.

ابتسم ابو ذكرى للبندقية بين يديه فهو لا يفرق الاخمص من السبطانة، اودعها جانبا وكتب شيئا عن اسباب وجوده وتساءل عن اسباب الحقد التي جعلته مقاتلا بين رفاق احبهم واحبوه يأكلون (الجاجي) (3) ويدخرون الماء في زمزمية، فرحلتهم تطول وتطول في جبال وشعاب لا آخر لها.
وعندما سأله الرفيق عن رأيه بأن ترحل حبيبته صوب البلاد المحاصرة بين (قوسي النصر)، كاد قلبه ينخلع مع غياب اثر سرية المقاتلين المتجه نحو اول قرية. كان يعلم انه اخر وداع فاودع قلبه نفس الصرة بعد ان لفه بنفس القميص. اصبح يقف على الهضبة ساعات يتجه ببصره صوب الجنوب فتلامس نظرته ندى الجوز والبلوط ويلامس صوت حفيف ورقه شغاف قلبه، يراقب اسراب الطيور التي ستجفل بعد قليل من اصوات الانفجارات والقذائف، يختار من بينها عصفورا وحيدا مصابا (باحتمال الياسمين) (4) ساهما مع فيروز :

جايبلي سلام عصفور الجناين
جايبلي سلام من عندالحناين
.......امممممممم....
نفَض جناحاتوا عاشباك الدار
متل اللي بريشاتوا مخبي سرار سرار
قلي عالرماني حاكيتوا حاكاني
وبعينوا الدبلاني شفت الهوى نام

جاءه الخبر:
- مازالت شجرة الرمان في مكانها يا ابا ذكرى، ولكن من دون ثمر او حتى اوراق!
ومع هذه الرسالة آمن ابو ذكرى ان حبيبته ستغيب الى الأبد!.
غابت ام ذكرى بوهج الزيت المضيئ!

لم ينتبه ابو ذكرى وهو على الهضبة الى سحابة الدخان التي اطلقتها طائرات مغيرة، فقد كانت رؤياه لمشهد الزيت المشتعل في بيت حبيبته قد اودعه حزمة يأسه، حتى تعالت الاصوات من حوله: «كيمياوي... كيمياوي...» (5). ابتسم بنفس الابتسامة التي لازمته حتى اخر لحظة، وجر خطوه نحو رفاقه المكممين بقطع البطانيات المنقعة بالماء حسب استشارة الرفيق الطبيب الذي قتل بعد ساعات وهو يسعف رفيقه. اشار لهم نحو اعالي الجبال فالغاز الثقيل يهبط نحو الارض.
في الطريق الى الاعلى كانت غبش المنظر امامه يختلط مع لازمة اغنية فيروز برأسه، يحاول فك كلمات مخرومة باللهجة اللبنانية

يا رايح ع كفر حالا مروق بسوق العنّاب
في بنت بتنسى حالا وهيي على هاك الباب
خبرنا كيف احوالا يا رايح ع كفر حالا
...امممممم...........
قـــرّب خبرها عنّي بلـكي زعلانة مــــنّي
واسرقلي وإنت قبالا خيط زغيّر من شالا
وان كان حالتـــها حالة وع ريفـا شفت دموع
.....امممممممم.......
وتحرقني هاك الضحكة البدا تحكي وما بتحكي
..اممممممممم........
ويــــــارايح ع كفر حالا

لكن ام ذكرى كانت قد غادرت (كفر حالا) في وهج الزيت (6)، وهو نفس الوهج الذي كان بسببه يضب المشهد الجبلي امام عينيه فيحيلهما الى قطعة من نار ولهب. وفي طريقه الى مجاهل جديدة طرقات وعرة ورش رصاص، انين رفاق، وجثث مهملة، وحتى قبل ان تحط طائرة في لندن تحمل على متنها رجل متعب، وقبل ان يعالجوه من اثر الكيمياوي، وقبل ان يخبروه بداءه العضال، اطبق ابو ذكرى على كتاب رأسه في (الهوسبك) فالطبيب المعالج كان يخبر المرافقين بأن ابا ذكرى لن يفيق بعد الآن!،

ابتسم أبا ذكرى لانه كان قد غادر منذ سنين كثيرة.
 

(1) مقال للكاتب على نفس الموقع
(2) حزمة للمتاع من القماش
(3) نوع من الجبن المحلي المألوف في القرى الكردية
(4) من قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش
(5) تم ضرب المقاتلين في كردستان بالسلاح الكيمياوي من قبل نظام البعث
(6) اضرمت النار بالبيت الحزبي بمن فيه من قبل اجهزة نظام البعث

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات